يوسف بزي : تلفزيونات الخطف
المندوبون الميدانيون لمحطات التلفزة اللبنانية ليسوا أقل تفلتاً ولا أقل نزقاً من مسلحي الجناح العسكري لعائلة آل المقداد. كان هؤلاء المندوبون يصوّبون كاميراتهم ومايكروفوناتهم نحو المخطوفين السوريين تماماً كما يصوّب الخاطفون أسلحتهم باتجاه رهائنهم. كان هؤلاء الإعلاميون (وبعضهم تعلو وجوههم علامات الغبطة والفرح) يستنطقون المخطوفين السوريين، الذين بدوا متأرجحين بين مشاعر الصدمة والرعب، استنطاقاً أشبه بالتحقيق الاستخباراتي: «أنت مخبر للجيش السوري الحر؟ ما طبيعة نشاطك؟ كيف دخلت الى لبنان؟» هكذا بإلحاح، وبنبرة عدوانية، راح أولئك المندوبون والمندوبات يضعون المايكروفون لصق فم المخطوف، كما لو أنهم يضعون مسدساً في صدغه. لم يخطر في بال مندوبي التلفزيونات أنهم إزاء جريمة، وأنهم شهود على أفعال جرمية تبدأ بإقدام مواطنين لبنانيين على تشكيل حالة ميليشيوية، تهدد السلم الأهلي وسلطة القانون، وتنتهي بالتعدي على أناس أبرياء عزّل وسلبهم حريتهم وخطفهم بقوة السلاح وتهديد حياتهم، مع ما رافق ذلك من قطع للطرق وإخلال جسيم بالأمن العام.. وكلها جرائم موصوفة لا نقع عليها إلا في حال الحرب الأهلية. لم يخطر في بال هؤلاء المندوبين «احترام» مهنتهم وأدوارهم، ولا «احترام» مشاعر المخطوفين المسلوبي الإرادة والرأي والتعبير، ولا «مواجهة» الخاطفين ومساءلتهم على أفعالهم ودوافعهم.
بدا مندوبو التلفزيونات كما لو كانوا هم «الصيادين» التوّاقين للإمساك بطريدتهم. اندفعوا بحماسة احتفالية وهم يمسكون بالمخطوف وينهالون عليه بسيل من الأسئلة الأقرب الى إضبارة التحقيق المخابراتي العسكري. لم ينظروا أبداً الى المخطوفين بوصفهم «ضحايا». كانت تلك اللحظات من البث المباشر عبارة عن أحط أنواع برامج «تلفزيون الواقع» وأكثرها لاأخلاقية في الإعلام اللبناني.
«عشيرة» الإعلاميين أو بالأحرى، الميليشيا الإعلامية، راحت تتخاطف المخطوفين بكاميراتها، تستعرضهم وتستنطقهم، كما تفعل الغوغاء حين تلقي القبض على متهم وتبدأ التنكيل به. وفي المقابل كانت هذه «الميليشيا» التلفزيونية تحاور الخاطفين كما لو أنها في مؤتمر صحافي مع رئيس دولة: احترام وود وتقدير.
على الأرجح، ليس آل المقداد من خطف أولئك السوريين. التلفزيونات اللبنانية هي التي راحت تتبادل عمليات خطف الشبان السوريين. الخطف تحقق عندما تحوّل الى مهرجان جنوني من سباق الكاميرات والمايكروفونات نحو «القبض» على أحدهم و»أسره» بالصوت والصورة، وتحويله الى مادة من الأكشن والدراما الواقعية، مترافقة مع بورنوغرافيا سياسية، تتسم بسادية إعلامية يمارسها المندوب على المخطوف، الكامل العجز والمسلوب الإرادة.
لم تكتم بهجتها تلك المندوبة التي قاربت ابتسامتها حد الضحك والقهقهة وهي ترى مشهد الخاطفين والمخطوفين، تماماً كما انفعلت ذات مرة مذيعة الأخبار فرحة باغتيال النائب وليد عيدو، متمنية أن يكون الاغتيال الثاني من نصيب النائب أحمد فتفت، على الهواء مباشرة.
في الثمانينات، كان الكتمان والسرية والغموض هو الذي يرافق عمليات خطف الأجانب في بيروت، وكان الخاطفون بدورهم جهة مجهولة ويتلبسون الأسماء الوهمية. كان مكان الخطف سرياً أيضاً، وكانت العلاقة بين الخاطفين والإعلام علاقة غير مباشرة. مجرد شريط فيديو يصل بريدياً من مصدر مجهول الى محطة التلفزة. وكان بث الشريط يتم بعد «رقابة» أو «مونتاج» أخلاقي إذا صح التعبير. على التلفزيون مراعاة مشاعر أهل المخطوف أولاً، مراعاة كرامة المخطوف ومراعاة القانون أيضاً، عدا عن التبرؤ من مضمون الشريط.
تنظيم القاعدة في العراق وباكستان وأفغانستان عمّم ارتباط الخطف بالاستعراض الفيديوي، وأدخل على شرائط فيديو المخطوفين البورنوغرافيا الدموية: قطع الرؤوس، الذبح. وكان المأزق الأخلاقي للبث التلفزيوني هو عرض الشريط كما هو أم تمويه وإخفاء مشاهد الفظاعات والقتل؟
في كل الأحوال لم يتورّط الإعلام المرئي، ولا مرة، في «إنتاج» هذه الشرائط، لم يعقد اتفاقاً مع الخاطفين على إجراء تحقيق أو حوار مصوّر مع المخطوفين، ولا حضر حفلات إعدام أو تعذيب أو واكب عملية الاختطاف.
الإعلام اللبناني تبرّع أن يكون شريكاً ومنتجاً لحال الخطف وحوادثه ومجرياته، منذ أن ذهب الى المخطوفين اللبنانيين في شمال سوريا بالإتفاق مع الخاطفين والتنسيق معهم. تطوّع هذا الإعلام لخدمة الخاطف بذريعة أنه بذلك يتحول وسيطاً مع أهل المخطوفين، يطمئنهم ويتوسط في الاتصال مع ذويهم، كما يصير وسيطاً بين الخاطف وأولي أمر المخطوفين. يتحوّل الى منبر مفتوح لعصابة الخطف، ومنتجاً لبرنامج «واقعي» يسلي ويشبع فضول «المتفرجين».
هكذا، وبأريحية تامة، تطور دور هذا الإعلام مع حوادث خطف السوريين في لبنان، الى حدّ الاحتفال والمساندة والتشجيع والتسابق على صنع الحدث وبثّه والاستزادة منه والطلب عليه بإلحاح ونهم وجشع منقطع النظير. كان حال كل مندوب يقول: «رجاء، اخطفوا سورياً.. وأعطوني إياه. رجاء المزيد».
كان كرنفال الخطف في الشوارع، وكان الشر التلفزيوني يحتل البيوت في ليلة العار اللبناني.
يوسف بزي ، شاعر وصحافي لبناني ــــ المقال من نوافذ