نبراس شحيّد : في الثورة وخرائط الجسد
تجمع أشلاء أوزيريس
فجأةً ينهمر الرصاص، معه قذائف وقنابل، فتسقط أجساد كانت للتو ترقص، تقفز، تصرخ، تتظاهر. تتناثر الأشلاء. تنتهك القنابل حرمة الجسد لتظهره تشريحيّاً: أمعاء من بطون مبقورة، عظامٌ تتعرّى، جلدٌ يُسلخ، عيونٌ تُقتلع، ومخاخٌ تتطاير من الجماجم. يحاول العنف أن يجعل من الجسد مجرد جسمٍ بيولوجيّ، مشيّأ، معطّل الوظائف، كريه المنظر، لكنه يفشل! يهرع المتظاهرون إلى لملمة الأشلاء، إلى أنسنتها. يقبّل الثوار جثثاً مجهولة، كانت في الماضي مرعبة، ليصوغوا من الأشلاء حكاياتِ من استشهدوا، فتختلط أنسجة الأجساد بنسيج الكلمات فتحيا من جديد. يرفض الجسد المنتفض أن يكون موضوعاً مشيّاً، بل يصير ذاتاً حين تنقلب الجنازات تظاهراتٍ تحتفل بأشلاء تعود أجساداً في ذاكرتنا، في القصص التي نرويها عن الراحلين. يتجمّع أهل الحي حول النعوش، تتشابك الأجساد من جديد، وتصدح الحناجر بالأناشيد، بالزغاريد، وتصارع العيونُ الدموعَ، ليستمر الجسد في الولادة رغماً عن الموت! في سوريا النظام يُختزل الجسد في وظائفه البيولوجية، في الخوف من سجّان خَبِرَ تحقير الجسد، في صورةٍ نمطيّة ميتة. في سوريا الصرخة السؤال يصير الجسدُ حياةً تتحدى الموت لترقص من جديد، لتلملم ذاتها، لتبدعها.
خريطة مجتمع
شهد المجتمع السوري في السنوات الأخيرة ظاهرة جديدة أخذت في الانتشار، عرفها من قبله المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية: نساءٌ محجبات يرتدين ألبسةً لا تتناسب وفكرة الحجاب. للظاهرة هذه مدلولاتٌ كثيرة، فجسد المرأة معيارٌ أساسيّ لفهم ما يسود المجتمع من تناغمٍ وتصارع بين مكوّناته. تعرّي جسدَ المرأة حالُ مجتمعنا، حين يصير صرخةً تُعبّر عن ذاتها من خلال الظاهرة المذكورة، فيفضح بألوانه، بحركاته، بالأقمشة التي تستر اللحم الغض أو تكشفه، الإشكالية العميقة التي نعيشها على مستوى الهوية. تتصارع في الجسد الأنثوي هنا قوىً متناقضة، لم تجد بعدُ إلى الحوار المجتمعي الناضج سبيلاً. فمن جهةٍ أولى، نرى الجسد الأنثوي بإرثه الثقافي متطلّعاً إلى الحداثة الغربيّة وتباشير حريتها. لكن الحداثة الموعودة تبقى غريبةً عن الواقع، من جهةٍ ثانية، فالجسد الأنثوي لا يزال خاضعاً لأصالةٍ تقليدية، لم تعد في كثيرٍ من الأحيان مقنعةً، وإلا لما حاول تجاوزها. لا يُقصد بالأصالة غير المقنعة هنا، معتقدٌ دينيّ ثقافيّ معيّن، بل انغلاق الموروث الثقافي على ذاته، على نحوٍ قد تتجمد فيه القيم الاجتماعية والدينية النبيلة التي يحملها، فتفقد مرونتها وقدراتها الخلاّقة. لذا، نرى الجسد يتفكّك بين رأسٍ مستتر وأعضاء صارخة، فيضيع بين ماهيتين متصلبتين: أصالةٌ جامدة وحداثةٌ غريبة، لتعكس العيون أحلاماً مبعثرةً وتطلعات شريدة، تقف طبيعةُ المجتمع حائلاً دون تحققها. تفضح تطلعاتُ الجسد الأنثوي عجزَ الماضي، الذي تغنّينا به طويلاً، عن الإجابة عن أسئلة الحاضر.
لكن اصطدام التطلعات هذه بطبيعة الواقع، تعبّر أيضاً عن عدم تناسب الحداثة المرجوة مع “الآن” و”الهنا”، لأنها في الكثير من الأحيان تبقى محض أفكارٍ ظلت غير منسجمة مع طبيعة المجتمع. الحال إذاً تشبه، أكثر ما تشبه، غربةً مزدوجة: غربة في ماضٍ عاجز، وأخرى في مستقبل حداثيّ موعود لم يترعرع في رحم الواقع، لتتشابك الغربتان في جسدٍ يصارع الغياب.
من رحم السؤال
في أولى تظاهرات دمشق (15 آذار 2011)، لم يكن الهتاف الأول الذي صدحت به الحناجر إلا سؤالاً عن ذات مفقودة: “وينك يا سوري وينك؟”. “أين أنا من أنا؟”، يقول السؤال الأول الخارج من رحم الجسد، من النسيج الحي، من الحبال الصوتية، ليرسم عمق الغربة التي نعيشها، فيبدأ مشوار البحث الأليم عن الذات. لم تكن اللحظة الثورية في طورها السوري إلا تفتّق السؤال هذا، متمرّداً على عادية الماضي الجامدة التي فيها سُجِنّا، ومولوداً من صلب الواقع ومعاناته، لا من حداثة بقيت غريبةً عنا. لم يكن السؤال هتافاً دينياً، لم يكن شعاراً، بل إمكان مشروعٍ حداثيّ جُبلَ بصرخة وجودية، تقول إني لم أعد أنا! صوغ السؤال جاء بالمفرد، من غربة الجسد، أما الإجابة ففي صيغة الجمع تُحاك: أجسادٌ تتلاصق، أيادٍ تتشابك، نساءٌ محجبات منقبات سافرات، رجالٌ، أطفالٌ، أقدامٌ تكرّ تفرّ، والحناجر تتوحّد حول سؤال يكرر ذاته بلا توقف، أين أنا من أنا يا أناي؟ هكذا، أوجدت الثورة، على الرغم من المزالق والانعطافات التي مرّت بها، مساحةً جسدية جماعية جديدة تستطيع ذات الفرد فيها أن تبحث عن نفسها، شرط أن يبقى السؤال حيّاً فينا: وينك يا سوري وينك؟
في مسام الجسد
في إحدى تظاهرات دمشق “الطيّارة”، تجمع عشرات الشابات والشبان في شارع الحلبوني للمطالبة بإسقاط النظام ولنصرة المدن المكلومة. لكن ما إن انفضّت التظاهرة حتى انقضّ على فلول المتظاهرين الشبّيحة بهراواتهم الغليظة وشتائمهم التي تحقّر الجسد. تجمّد أحد الأصدقاء، ثلاثينيّ العمر، أمامه ارتعدت فتاةٌ محجّبة كانت تشارك في التظاهرة. قال لها بعجل امسكي بيدي كي يحسبونا خطيبين نتسكّع مصادفةً هنا فلا يشكّوا فينا. لم تتردد الفتاة، فلفّت يده بيدها لتتشابك الأصابع، والتصق الجسدان بتناقضاتهما: الكتف على الكتف، والوجه الذي لم يعرف الصلاة أوشك أن يلامس وجهاً يطأ الأرض خمساً في اليوم. مرّا بهدوءٍ من بين عصابات النظام التي قلبت التظاهرة مسيرةً مؤيّدة، من دون أن يكلّمهما أحد. استمرّ المشوار دقيتين أو ثلاثاً، لكنه بدا دهراً، والعرق غسل جبينيهما من حذر الماضي. عبَرا الطريق، ثم وقفا، فشكرها وشكرته، لكن الوداع كان عصيّاً، فالجسد السوري سرى في مسامهما متسامياً على تناقضات قديمة حكمت جسديهما طويلاً. التناقضات القديمة هذه لم تندثر بالطبع اليوم، فهي لا تزال تعمل في أجسادنا. لكن وعلى الرغم من ذلك، صار في إمكان الجسد ألا يبقى هوّةً نتمزّق فيها بين عجز الماضي وغرابة الحداثة، وصار في إمكان الجسد أن يصير مشروع حياة، لا بل مشروع وطن نصوغه في شغف السؤال: وينك يا سوري وينك؟