ميشيل كيلو – الخروج من المجلس الوطني الى المعارضة!
بدعوة جامعة الدول العربية ووزارة الخارجية التركية أطياف المعارضة السورية المختلفة إلى اجتماع في اسطنبول يحضره أعضاء من المجلس الوطني السوري كمدعوين عاديين، من دون ذكر أي شيء يتصل بما يدعونه حول مجلسهم كممثل للشعب السوري ومعبر عنه أو عن الثورة، وبالتأكيد على انه ليس للاجتماع أية علاقة خاصة معه وأنه لا يعقد تحت إشرافه أو ظله باعتباره منظمة
هذه الأسباب مجتمعة، أجبرت المجلس على انتهاج خط مختلف، أقرب إلى الواقعية تجاه المسألة الوطنية السورية، وعلى دفع ثمن أخطائه الكثيرة، بعد أن بان واضحاً للجميع ما نجم عنها من تمزيق للصف المعارض، ولعب بأوراق محروقة أفاد منها النظام أكثر من أي طرف خارجي أو داخلي يعاديه أو يخاصمه. وأخيراً، على هبوط المجلسيين من سماوات الأوهام الوردية إلى ارض الواقع القاسي، خاصة بعد أن غدا الجيش السوري الحر قوة المعارضة الرئيسة في الداخل، وعجز المجلس عن مأسسة تعامل منظم وفاعل معه، وعن بلوغ تفاهم جدي ومنظم مع قيادته حول مسائل رئيسة تتصل بضرورة وحدة قواه، وخضوعه لخط سياسي يلتزم بأهداف الحراك الأولى المدنية، ويضع العمل المقاوم في خدمة السلمية والحرية، ينأى به عن العسكرة وما يمكن أن يترتب عليها اليوم وغداً من نتائج وخيمة.
لا عجب أن المجلس بدا وكأنه لا يدرك ما يجري من تبدل على الأرض، ولا يعي معنى وجسامة التطورات الحاصلة في موازين القوى داخل سوريا معارضة وموالاة، ويميل أكثر فأكثر إلى العمل كسفارة خارجية تمارس مراسيم لا تتقنها، لا حق لها في الإفادة من تضحيات من لا علاقة لها بهم، غابت غياباً متعاظماً عن واقع الحراك السلمي والمسلح، ولم تعد تلعب أي دور فاعل أو مؤثر فيه، خاصة على الصعيد الشعبي العام، حيث تراجعت مكانتها خلال الأشهر القليلة من عمرها القصير، وبدا وكأنها تؤثر نضال الفنادق، رغم زمن الموت الفظيع في الخنادق، حسب عبارات أهل النضال في الداخل، الذين أخذوا يتندرون ويسخرون منه ومن طرقه في العمل.
يئس العالم الخارجي، وخاصة منه التركي وبعض الأوروبي، من تفعيل دور المجلس وجعله جهة تمثل حقاً الشعب والثورة، وتحظى بموافقتهما وقبولهما. وتراجع طابعه التمثيلي رغم حقن الدعم الخارجي المتتالية، التي دعي إليها بمفرده، أو بوصفه حاضنة تنظيمية لا بد أن ينضوي الآخرون جميعهم فيها. هذا الواقع سيحتم نتيجتين مهمتين هما:
– تراجع دور تركيا التدخلي والتحكمي في شؤون المعارضة السورية، خاصة إذا ما تم نقل مركز ثقل الأخيرة من اسطنبول إلى القاهرة، حيث مقر جامعة الدول العربية. ولعله ليس أمراً قليل الأهمية أن تقبل تركيا ليس فقط دعوة أطراف المعارضة الأخرى إلى اسطنبول، بل كذلك مشاركة الجامعة في الدعوة إلى اللقاء، وانفرادها باجتماع المعارضة الثاني أوائل الشهر المقبل، مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من تغير في توجهات المجلس السياسية، التي بدا لوهلة أنها ترتبط بالأتــراك وتتـكامل مع دورهم العـربي والإقلـيمي، الذي عوّض المجلس بمزايدات فارغة ولا معنى لها عن تقلبه وتذبذبه وتعارضه مع آمال السوريين، ولا بد أن يقع شيء من انفكاكه عن «تعـويض» كهذا، وأن يساعده ابتعاده عن تركيا واقترابه من بقية فصائل المعارضة والجامعة العربية من استعادة شيء من التوازن في مواقفه وتقديراته، ومن تقريبه من الواقع الداخلي في سوريا، مع ما سيعنيه ذلك من توازن في الموقف الوطني العام، وتوقف عن إرباكه بما كان يتبعه من سياسات متناقضة وخيارات متضاربة، تغطي تركيا ولا تعبر عن مصالح الشعب السوري الحقيقية والمستقلة.
– نشوء أرضية مناسبة للقاء أطراف المعارضة السورية، وتراجع الرهان على نظام بديل يستأثر به حزب واحد وتنفرد بالسيطرة عليه جهة بعينها هي الجهة الإسلامية الموالية لتركيا. هل ستقوم هذه الأرضية نتيجة تغير السياسات التركية، أم بسبب تيار موحد سيتخلق داخل المعارضة وبين فصائلها يقوم على تدارك أخطاء الماضي، بينما تلوح في الأفق علامات تفاهم دولي لا زال في بداياته، سيكون لموقف المعارضة دور في تسهيله أو جعله مستحيلاً، فهي مطالبة بمهام محددة لا مفر من القيام بها، إذا كانت لا تريد أن توضع جانباً أو تهمش أو تموت.
تشير هذه القرائن والبينات جميعها إلى أننا في الطريق إلى حقبة ما بعد المجلس الوطني السوري، التي تفرض على بقية فصائل المعارضة اتخاذ موقف جديد من المجلس كتنظيم وكظاهرة، والتعامل معه من دون عقد وخارج منطق الأحكام المسبقة والتنافس الإقصائي، وطي صفحة الماضي البائس، علماً بأنه هو الذي حدد بسياساته جوانب متنوعة من سلوك هذه الفصائل حياله، عندما نجح، بسبب قصور وعيها وردود فعلها غير العقلانية على عقد الدونية المتحكمة بها، في جعلها تتبنى سياسات ليست غير ردود أفعال بدائية غالباً على مواقفه غير الإيجابية والمتعالية، فلا اقل من أن تدخل من الآن فصاعداً في حوارات صريحة معه حول مختلف جوانب المسألة السورية، وأن تتعاون معه ويتعاون معها في سبيل رؤية مشتركة يمكن ترجمتها في سياسات عملية جامعة بدورها وقابلة للترجمة على أرض الواقع، للخروج من احتجاز شل الجميع وقلص حضورهم في حراك تحولوا في حالات غير قليلة إلى متفرجين عليه، بينما نسوا دورهم المطلوب وانهمكوا في مهاترات متنوعة مع مجلس وطني يقصيهم عن الوطنية والمعارضة في آن معاً، لم يكن قسم مهم من قادته فاعلين أو حاضرين فيهما خلال زمن طويل وصعب.
لا بد من خروج المعارضة من حقبة المجلس الوطني الحافلة بالتشويش والأخطاء، ما دام هو نفسه قد بدأ يخرج منها وينتقل إلى قبول الآخر والتعاون معه، والتخلي عن أوهامه التي دفع الشعب السوري ثمنا فادحا لها من دماء بناته وأبنائه، شيوخه ونسائه وأطفاله. ولعل أولى التجارب التي ستؤكد نجاح المعارضة في التحرر من سطوة المجلس والتغلب على سياساته الإقصائية ستكون خلال لقاء الجامعة العربية في القاهرة أوائل الشهر المقبل، الذي لن يضر التخلف عنه بفرص بلورة بدائل دولية مقبولة للأمر الرسمي السوري القائم، وإنما سيحول كذلك دون مساعدة العالم على الوصول لحل سياسي للأزمة السورية، يفترض أن يكون للداخل المعارض دور مفتاحي فيه، كي لا يطول أمد القتل والدمار وينتشر الموت والخراب في كل مكان من وطننا المنكوب، ويتصاعد العنف بالوتيرة التي نعيشها، وكان من الصعب تصورها حتى في الخيال.
هل تتجاوز المعارضة بمواقف موحدة أو متقاربة، مدروسة وعقلانية، عقدة المجلس ورهاب التعامل معه؟ فهي إن فعلت هذا تكون قد بدأت تتخطى حقا القصور المفجع الذي أبدته منذ بدء الأزمة، ويأمل الشعب السوري والعالم أن تتمكن هي والمجلس أن يتم التغلب عليه!