سلامة كيلة : المسألة السورية في المساومات الدولية
إذا كانت المسألة السورية هي بداية تحوّل عالمي فهي كذلك بداية تغيّر في وضعية القوى التي تريد الهيمنة على المنطقة
بغض النظر عن اختلافات ما زالت قائمة بشأن الملف السوري، فإن قمة الثماني التي انعقدت في بريطانيا اعترفت بدور روسيا في سوريا، وأسست على مبادئ جنيف وفق المنظور الروسي، وبالتالي وضعت جهودها خلف “الحل الروسي”. لقد باتت تعترف مجتمعة بأن روسيا هي المعني الأول فيما يجري في سوريا، وأنها صاحبة الحل فيها.
هذا ما يجعل تناول كل المسائل الأخرى خاضعاً لهذه النتيجة، أي إن كل الخلاف الذي سيبدو على السطح سيكون محكوماً بهذه النتيجة، وليس من أجل تجاوزها وتحقيق حل آخر.
هذا متغيّر عالمي كبير، حيث يجري “التنازل” عن بلد كسوريا لها أهميتها، وكانت أميركا إلى وقت قريب تريد تغيير نظامها لكي تفرض “نظاماً أميركياً”. وحيث ظهر التصارع العالمي على من سيسيطر على وضعها عبر دعم قوى “معارضة” ملحقة به. هذا ما حاولته فرنسا التي باتت تعترف بأن سوريا هي من حصة روسيا في إطار التقاسم العالمي. أو حتى تركيا التي كانت تريد الحفاظ على ما حققته عبر العلاقة مع بشار الأسد.
وهو متغيّر يكسر كل المنظومة “الذهنية” التي تشكلت خلال وبعد الحرب الباردة، والتي انطلقت من ميزان القوى حينها، فكانت أميركا هي “زعيمة العالم الحر” الذي يسعى للسيطرة والهيمنة، وروسيا الدولة السوفياتية التي تدعم حركات التحرر. ليبدو أنْ ليس من معسكرين الآن، وأن المعسكر القائم يعيد اقتسام العالم من جديد.
خصوصاً هنا أن “التخلي” عن سوريا لروسيا سوف يفتح على “توسع روسي” في كل المنطقة التي كانت تعتبر أولوية أميركية لعقود، أي المنطقة العربية. وبالتالي فإذا كانت المسألة السورية هي بداية تحوّل عالمي فهي كذلك بداية تغيّر في وضعية القوى التي تريد الهيمنة على المنطقة.
ما يبدو واضحاً هو أن المنظور التقليدي لفهم الوضع ما زال يتحكم في النظر لدى كثير من القوى، وليس اليسار أو بعض اليسار وحده. حيث تظل أميركا في مركز الحدث “الشرق أوسطي”. وما زال يُنظر إلى أنها كما كانت تعتبر أن هذه المنطقة هي أولويتها، سواء نتيجة وجود الدولة الصهيونية أو نتيجة النفط (رغم أن وجود الدولة الصهيونية قائم انطلاقاً من أهمية المنطقة وأولويتها للإستراتيجية الأميركية).
وإذا كانت الأحداث تتوضح بالتدريج، ولا تصبح “مكشوفة” إلا حينما تكتمل، فإن ما يبقي النظر القديم هو أننا في “لحظة التحوّل” التي لم تكتمل بعد. أي في لحظة تشهد تحولاً عالمياً كبيراً لم تظهر معالمه بعد بشكل واضح. لكن ذلك يشير إلى أن المقدرة على فهم متحولات الواقع ضعيفة أو غير قائمة، ليبقى النظر صورياً لا يعطي سوى المعرفة بما بات “موجوداً”، دون مقدرة على تلمس صيرورة الواقع، وفهم ممكنات تحوّله، والسياق الذي يجري فيه.
ما يتوضّح هو أميركا لم تعد أميركا التي انبنت عليها كل الرؤى القديمة، أي أميركا المسيطرة والمهيمنة على العالم، والتي تريد تغيير العالم بما يحقق مصالحها، وأيضاً تريد الاستفراد به. وأن الرأسمالية القديمة ليست في مجد قوتها كما كانت. ومن ثم أن قوى جديدة باتت تتقدم لكي تسيطر على مناطق نفوذ تلك الرأسمالية. وبالتالي أن عالماً “متعدد الأقطاب” يتشكل، أو يحاول التشكل. ومن ثم أن تقاسماً جديداً يتحقق على ضوء موازين القوى القائمة الآن.
العالم، بالتالي، لم يعد هو العالم القديم، وإنْ لم يتشكل عالم جديد بعد. والأمور تجري أمامنا بشكل يتلمسه كل من يدقق بما يجري. لماذا هذا التحوّل؟ هل ضعفت أميركا بالفعل؟ وهل تعيش الرأسمالية أزمة حقيقية تفرض كل هذا التحوّل؟
”
أميركا لم تعد أميركا التي انبنت عليها كل الرؤى القديمة، أي أميركا المسيطرة والمهيمنة على العالم، فثمة قوى جديدة باتت تتقدم لكي تسيطر على مناطق نفوذ تلك الرأسمالية
” النمطية القديمة في التحليل لن توصل إلى نتيجة سوى أن العالم باقٍ كما كان، وأن كل الصراعات هي ذاتها التي حكمته منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن لا بد من أن نقف ملياً أمام “الأزمة المالية” التي حدثت في 15 سبتمبر/أيلول سنة 2008، والتي أفضت إلى هزة في كل النمط الرأسمالي، وفتحت على انهيار أكبر. ولقد كان أثرها على أميركا هائلاً، وإذا اعتقدت الإدارة الأميركية خلال سنوات 2008 – 2010 أنها قادرة على تجاوزها، فقد اكتشفت بعد إذ أن تجاوزها غير ممكن، وبالتالي لا بد من “إدارة الأزمة” فقط لكي لا تحدث انهيارات أكبر تطيح بالاقتصاد الأميركي.
وإذا كان جرت الإشارة إلى أن ما جرى هو أزمة، فإن الواقع يشير إلى أنها أكبر من ذلك بكثير، فهي “هرم” نمط اقتصادي و”تعفنه” كما كان يشير ماركس. وهي ليست كالأزمات السابقة، وأخطرها أزمة “الكساد العظيم” التي حدثت سنة 1929. وأيضاً ليست أزمة من الأزمات الدورية التي هي في صلب وجود الرأسمالية.
ونقصد “أزمة فيض الإنتاج” التي تفترض توسيع الأسواق، سواء عبر فتح أسواق جديدة أو عبر تصفية “قوى إنتاج” في بلد رأسمالي لتقليص حجم التنافس في السوق. لا شك في أن هذا المظهر هو جزء من الأزمة الراهنة، لكنه الجزء “الأقل أهمية” فيها لأن واقع الرأسمالية اليوم هو أعقد مما كان خلال مراحل نشوئها وسيطرتها العالمية.
فكما كان هناك فيض إنتاج كان هناك كذلك فيض أرباح، تراكمت بعد أن حصلت عملية إشباع التوظيف في كل قطاعات الاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات) وباتت عبئاً على البنوك.
الآن نجد أن الكتلة المالية التي تنشط في الاقتصاد “الوهمي” (المضاربات في أسواق الأسهم والسندات والسلع والعملة، والتوظيف في ما أسمي المشتقات المالية، وفي الديون) أصبحت هي الأضخم، وهي التي تهيمن على مجمل الاقتصاد. وهو الأمر الذي حوّل الاقتصاد الرأسمالي إلى اقتصاد مضاربات، الأمر الذي جعله يدخل نفق التضخم المتصاعد دون إمكانية لوقف هذه العملية.
وهي العملية التي تقود إلى نشوء “فقاعات” تنفجر بشكل مستمر مدمرة قطاعات اقتصادية وشركات وشعوبا. وأزمة الرهن العقاري التي انفجرت في الولايات المتحدة سنة 2008 أفضت إلى انهيارات كبيرة في قطاع البنوك، حمّلت الدولة عبء حمايتها بمراكمة مديونية هائلة عليها. والآن نجد أن دولاً مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وقبرص تغرق في المديونية، وتقف على شفير الانهيار.
ولأن التراكم المالي يتمركز في أميركا نلمس أن أثر الأزمة هذه أضخم عليها. وإذا كانت قد عملت على “السيطرة على العالم” بعد انهيار الاتحاد السوفياتي من أجل تجاوز الأزمة التي كانت تتراكم لديها، فقد ظهر بعد احتلال أفغانستان والعراق، والنشاط العسكري في مناطق واسعة من العالم، أن الحرب لم تعد هي الحل كما كان في الأزمات السابقة (الكلاسيكية)، بل إنها باتت تعمق الأزمة.
الأمر الذي فرض على إدارة أوباما التراجع عن سياسة السيطرة على العالم، والتخلي عن حلم قيادة العالم الرأسمالي والانكفاء داخلياً لحماية أميركا ذاتها، أولاً من وضعيتها الاقتصادية التي تشير إلى أنها تسير نحو الهاوية، وثانياً من الصين التي باتت تشكل خطراً حقيقياً عليها (الصين تملك تريليونات الدولارات كاش، ومن سندات الخزينة الأميركية، وتتغلغل اقتصادياً في مناطق منافسة).
هذا الأمر فرض على الولايات المتحدة “التواضع”، حيث بدأت في التعامل من منظور مختلف، يقوم على تركيز أولويتها في آسيا والمحيط الهادي أولاً، والإقرار بعجزها عن خوض حروب متعددة ثانياً، وثالثاً التعامل من موقع محاولتها حل مشكلاتها لكي تبقى قوة عالمية وليس القوة العالمية الأولى.
”
جرّت أميركا كل “حلفائها” إلى المساومة التي تجريها مع روسيا بشأن سوريا, وأقرت بالمصالح الحيوية لروسيا في سوريا, بالتالي سلّمت حل الأزمة وإنهاء الحرب
”
بالتالي كان من الطبيعي أن تصبح هناك مناطق كانت لها السيطرة فيها ميدان مساومة. و”الشرق الأوسط” الذي كان أولوية أميركية لعقود (خصوصاً بعد الحرب الثانية)، بات يحظى بأهمية من الدرجة الثالثة أو الرابعة (مع الاحتفاظ بالأهمية الكبيرة للخليج، ليس من أجل الحصول على النفط، حيث ستصبح أميركا بلداً مصدراً، بل لنهب الأموال النفطية في سياق العمل على حل الأزمة الاقتصادية).
من هذا السياق جرّت أميركا كل “حلفائها” إلى المساومة التي تجريها مع روسيا بشأن سوريا. وأقرت بـ”المصالح الحيوية لروسيا في سوريا”. بالتالي سلّمت حل “الأزمة” و”إنهاء الحرب الدائرة” لروسيا التي هي الداعم الرئيسي للنظام، ومن أجل “بيع” سوريا لروسيا.
قمة الثماني كانت المرحلة ربما الأخيرة في هذا المسار بعد أن فرضت على “أصدقاء سوريا” القبول بالحل الروسي، وباتت تضغط على معارضة الخارج (ذات الهوى الغربي) من أجل القبول بالحل الروسي.
ماذا ستأخذ من روسيا؟ هذا ما سوف يظهر بعد اكتمال الحوار بين الطرفين حول القضايا العالمية التي يجري الحوار حولها من أجل الوصول إلى توافق شامل. فأميركا معنية جداً بالتفاهم مع روسيا، ربما لأنها تخاف من تشكيل تحالف روسي صيني قد يقطع عليها طريق تجاوز أزمتها، ويدفعها إلى انهيار متسارع. فأزمتها كبيرة إلى حدّ أن هذا أمر ممكن.