أحـمـد مـولـود الطـيـار : الرقّة – خسارة عسكرية.. ربح استراتيجي
يُعتبر اختفاء الأب باولو، رجل الدين الايطالي السوري، في مدينة الرقة، ذروة التراجيديا في ما آلت اليه الأمور في مدينة محرّرة.
يمكن القول وبدون مجازفة وفي سياقات الثورة السورية حيث الحسم ممنوع عليها، وضمن التعادل الممسوك بين طرفي الصراع الذي يبدو أنه نتاج رغبة أطراف إقليمية ودولية كثيرة، إنّ تحرير الرقة شكّل في البداية خسارة عسكرية قاسية للنظام. فيما بعد، باتت هذه الخسارة ربحاً استراتيجياً له ما كان يحلم به أو يتوقعه. فالمدينة التي أسقطت أضخم تماثيل الأسد الأب في كل سوريا، تعاني من أصنام أخرى أشدّ قتامة وقسوة.
طبعاً أصحاب العقول المسترخية والمستقيلة، كذلك عشاق نظرية المؤامرة، حسموا الأمر: عملية التحرير هي من هندسة النظام، واختراقاته في صفوف جبهة النصرة والدولة الاسلامية وكل ما تعيشه الرقة من عبث وفوضى الآن، هو مقرّر ويُدار عبر الريموت كونترول.
لا أحد ينكر بالطّبع في نقاش هذه النقطة، قدرة أجهزة مخابرات النظام السوري الفائقة في الاستثمار في هكذا جماعات، فهي التي صنّعت الكثير منها وأرسلتها شرقا وغربا محمّلة بالموت. إنّما يبدو أن قدَر الرقة دائما أن تكون مسرحاً للتجارب.. كانت كذلك زمن النظام، والآن يُختبر فيها الممكن واللاممكن. على مسرح المدينة المحرّرة، يحتلّ النظام وفلوله مشهداً صغيراً. الواجهة الرئيسية تحتلّها كتائب إسلامية متشدّدة وكتائب للجيش الحر وعشرات الجمعيات والمنتديات من كل صنف ولون.
لا داعيَ لأن يسرد هذا المقال تجاوزات الكتائب المقاتلة، فاقتتالها في ما بينها ونزوح الأهالي اليومي من مناطق القتال، كذلك انتهاكاتها المتكررة مبادئ الدين الاسلامي الذي تتذرّع خلف آياته وأحكامه وهو منها براء، وكذلك ضربها لأبسط مبادئ وشرعة حقوق الانسان العالمية، كل تلك التجاوزات والانتهاكات الصارخة باتت مادة بارزة في أغلب المواقع الاعلامية سورياً وإقليماً ودولياً. ما لم يتم تسليط الضوء عليه وإيفاؤه حقه بالنقد، ذلك المتعلّق في مَن يُعقد عليهم الأمل، رافعو شعارات الدولة المدنية الديموقراطية، ضامنو سوريا المستقبل في الحد من أوجاعها وانحدارها المريع.
يروي ناشط من الرقة، أنّ ثلاث تظاهرات خرجت في المدينة لهدف واحد إنما في ثلاثة أماكن مختلفة ومتباعدة، والسبب في عدم انطلاقها مجتمعة ومتوحدة هو “الاختلافات والأمزجة الشخصية بين منظميها، ولم يستشعروا بعد أنهم أمام خطر تلك الكتائب المسلحة التي لا تميز في ما بينهم، وتمارس انتهاكاتها عليهم بالتساوي”.
هذه الاختلافات، كما يقول، “ما زالت تشرب من عهودٍ مضت سابقةٍ على زمن الثورة، التي يُفترض أنها قد امّحت وتجاوزها الزمن، وما كان من داع للتوقف عندها لولا أنّها باتت تسمّم الأجواء وتزيد من حالات الاستقطاب والتشرذم”.
من المظاهر الشاذة والمضرّة والتي يجب إيقافها ـ كما يطالب ـ “الاسترخاء والفساد” اللذان باتا يسرقان بعضاً من الوجوه “النقيّة” التي كان لها فضل لا يُنكر في انطلاقة الثورة، فالدورات التدريبية “التي باتت تهطل كالمطر” في الادارة والإعلام والاسعافات الأولية واختصاصات مختلفة أخرى والتي تجري في المدن التركية، عائدها، كما يقول، في الواقع الميداني لا يُذكر، مقارنة بحجم الاستنزاف الذي باتت تشكله، “فالذي يغادر سوريا للخضوع لتلك الدورات، لا يعود اليها في الغالب ويبقى خارج البلد، أضف الى ذلك المحسوبيات المتّبعة في الترشيح لتلك الدورات، وغياب المعايير الحقيقية”.
ظاهره ثالثة يوجزها الناشط الذي فضّل عدم ذكر اسمه منعا للحساسيات كما يقول، هي تكاثر صفة “إعلامي” التي باتت تنتشر كالفطر، ويعلّق ساخرا: “كلما ازداد عدد الاعلاميين، تناقص عدد المتظاهرين”، ويُرجع السبب الى “حبّ البروز وبعض الفُتات المالي، إضافة الى بعض القنوات الاعلامية غير المحترفة التي تلهث الى الخبر كيفما كان في سياسة إعلامية باتت مضرّة للثورة أكثر من فوائدها”.
كيف نحوّل تحرير الرقة من خسارة عسكرية للنظام الى خسارة استراتيجية أيضا؟ هذا يتطلّب ما تتطلّبه دائما الاستراتيجيات البعيدة المدى.
نقلا عن موقع https://now.mmedia.me