أرليت خوري : كشفها ميشال سورا وتحدث عن أساليب الأسد في “دولة البربرية”
قبل حوالى ثلاثين عاماً شكلت المجزرة المروعة التي نفذها الجيش السوري في مدينة حماه السورية محطة توقف عندها الباحث الفرنسي المستعرب ميشال سورا، وحلّل انطلاقاً منها بنية النظام السوري وركائزه الذي كان في عهدة الرئيس الراحل حافظ الأسد.
والملفت في ما كتب سورا الذي عمل وأقام في دمشق ثم بيروت حتى وفاته، هو أن هذا النظام الذي كان يعاني تأزماً منذ تلك الفترة تمكن بأساليبه وأدائه أن يحكم قبضته على سورية ويضمن استمراريته وأن هذا الأداء لا يزال مستخدماً اليوم وبعد أن تحولت مجمل الأراضي السورية إلى مسرح لمجازر يومية تفوق بوحشيتها ما شهدته حماه عام 1982.
الوقائع الدامية الدائرة في سورية اليوم تظهر كم كان سورا الذي اعتبر احد اهم المختصين في شؤون الشرق الأوسط محقاً في اختيار عنوان «دولة البربرية» لتحليله وهو العنوان الذي اعتمد للكتاب الذي صدر عن «برس اونيفرسيتر دو فرانس» ويتضمن مجموعة من كتاباته حول حكم آل الأسد.
وبانتقال الحكم من الأب إلى الابن الرئيس الحالي بشار الأسد، لم ير الأخير أي داع لتغيير نهج اثبت جدواه على مدى عقود، من دون الاكتراث للتحولات التي شهدها العالم العربي، بل العكس، فقد تستر وراء ذريعة الحداثة والتحديث إضافة إلى المفاعيل الأخرى التي اعتمدها والده أملاً بتأمين استمرارية نظامه.
يبدأ سورا تحليله بالصيغة التي اعتمدت لتبرير مجزرة حماه وتبناها الغرب عموماً ومفادها أنها «مجرد عملية جراحية لا بد منها» ضد معقل أصولي في سورية، ما جعل الدولة السورية تبدو في حينه «دولة علمانية تعمل للحداثة في مواجهة معارضة دينية ظلامية» تمثلت في ذلك الوقت بالإخوان المسلمين.
ويستعرض الباحث مدى قدرة النظام على «استغلال الانقسامات الاجتماعية بمهارة مذهلة» وعلى «اللعب على كل الازدواجيات من دون السماح لأي منها بالسيطرة»، فاستغل المشاكل الطائفية وصراع الطبقات والنظام العسكري وحكم البعث والإسلام التقدمي والإسلام الرجعي، وأيضاً اليمين واليسار والشرق والغرب وفلسطين وإسرائيل، مستخدماً كل ذلك لأحكام قبضته على البلاد.
وفي مواجهة الحركة الشعبية التي بلغت أوجها في تلك الفترة استنفر النظام الأجهزة البيروقراطية للمجتمع من نقابات واتحادات وقوى سياسية منضوية في إطار «الجبهة الوطنية التقدمية»، وأيضاً الحركات الحليفة في العالم العربي مثل الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.
ومن منطلق تزويد نفسه بعمق دولي وقع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي ودعمها بتحالف استراتيجي مع الثورة الإيرانية من منطلق الرابط التاريخي بين الطائفتين العلوية والشيعية.
واعتبر سورا أن التجزئة على طريقة «فرّق تسدْ» شكلت مصدر القوة الرئيسي للنظام الذي أوكل دوراً محورياً على هذا الصعيد إلى احد أشقاء الرئيس الراحل، جميل الأسد، الذي عمل على تطبيق هذا التوجه عبر جمعية «علي المرتضى» التي استمالت القبائل المختلفة والمتناحرة وعملت في الوقت ذاته على تقليب سكان الريف على سكان المدن.
لعب النظام السوري وفقاً لسورا على التناقضات بين القوى والطبقات الاجتماعية وعلى كل المستويات ومن كل الزوايا، ليحصر الجميع ضمن صيغة مفادها أن المشكلة ليست مشكلة صراع بين أكثرية وأقلية لأنه في سورية «ما من طرف إلا ويمثل أقلية بالنسبة إلى الآخر» بحيث أن الأقليات تتمحور جميعها حول النظام «وفقاً لمبدأ العصبية الجماعية»، وهو ما يبرز وجود «دولة قوية ومستقرة».
ويلفت سورا إلى التباين بين العلويين (10 في المئة من الشعب السوري) والغالبية المؤلفة من حوالى 70 في المئة من السنّة، الذي يشكل تناقضاً جوهرياً جعل الإخوان المسلمين يعتبرون أن سورية عرضة لمؤامرة تهدف إلى الإبقاء على العلويين في موقع السيطرة فيما حزب «البعث» والجيش هما مجرد أدوات في أيديهم.
وهو يشارك الإخوان في موقفهم هذا، إذ يقول انه بدافع تحصين الطائفة العلوية وتحصين صفوفها انصب نشاط جمعية «علي المرتضى» على تحويل الطائفة العلوية إلى «طائفة سياسية متمحورة حول «شخصية علوية» وذلك بحجة الحداثة. ويرى أن الجيش شكل مجالاً للتجنيد لمصلحة «العصبية» ما اقتضى التحقق من انه «لا يوجد في داخله أي قوة كفيلة بتهديد النظام». واستخلص من هذا المنطلق أن النظام سيعرف «وجوداً مديداً» ما لم يحصل ما هو مفاجئ مثل «الاعتداء على شخص الرئيس».
أما «البعث» فهو في رأي سورا «الواجهة المدنية للنظام» إذ إن المؤتمر الذي عقده الحزب في كانون الثاني (يناير) 1979 أطاح «أي أوهام» حول «إمكانية انفتاحه سياسياً على الكتلة السنّية» بداخله، وضمت شخصيات من أمثال رئيس الأركان السابق حكمت الشهابي ووزير الدفاع السابق مصطفى طلاس وغيرهما، وهؤلاء تحولوا عبر المؤتمرات المتتالية إلى «رهائن سنّة لدى الأقلية الحاكمة». ولفت سورا إلى أن المشرف على تنظيم مؤتمر العام 1979 كان الشقيق الآخر للرئيس، رفعت الأسد، الذي استبدل ببساطة مبدأ «المركزية الديموقراطية» التي تقضي بانتخاب المندوبين الحزبيين من القاعدة بمبدأ آخر يقضي بساطة بتعيينهم من القيادة.
بهذه الطريقة «ضبط البعث صفوفه» لكنه لم يتجاوز وفق سورا «الإفلاس السياسي للنظام» الذي برز عبر الانتخابات الاشتراعية في عام 1981 إذ اقتصرت نسبة المشاركة فيها على 4 في المئة من السكان، ففي سورية كما في المشرق إجمالاً «تعمل الأحزاب على طريقة العصابات وتعمل الدول على طريقة المنظمات السياسية» متسترة بشعارات مطلقة.
هكذا فإن النظام السوري صنف نفسه «الوريث الكوني للحركة الوطنية العربية» و»التجسيد الملموس للدولة الحديثة اللاطائفية» بهدف صيانة الطائفة العلوية «عصبيتها» بما يفقد الطوائف الأخرى «عصبياتها من منطلق «ايديولوجيا البناء الوطني»، ودائماً «التحديث» بما يقتضي تخلي الكل عن تمايزه «كشرط للوحدة والمساواة في المجتمع المدني».
ويؤكد سورا أن الطائفة بالتالي تحل فعلياً محل الحزب ما يؤدي إلى تردٍ على صعيد النظام السياسي وتأزم الحزب، في حين أن ما تحتاج سورية هو «نظام سياسي حقيقي» و«ديموقراطي» ينقذ النظام والمجتمع المهددين بالانفجار.
هذا التحليل المفصّل لبنية النظام السوري لم يعد ربما يكشف عن خفايا في أيامنا هذه، في ضوء ما خبره العالم من دهاء ودموية أثبتهما النظام السوري، لكن ما تجرأ على كتابته سورا كسر محظوراً كان سائداً في العالم اجمع قبل ثلاثين عاماً وهو ما دفع حياته ثمناً له في احد أقبية الضاحية الجنوبية لبيروت حيث توفي في 1985 بعد حوالى عام على اختطافه من «منظمة الجهاد الإسلامي اللبنانية».
الحياة