ملف / ورقة فرج بيرقدار : هل استطاع النظام خلال أربعين عاماً تدجين المثقف السوري؟
بقدر ما يتقدم قانون القوة، تتراجع قوة القانون، ليغدو كل شيء مباحاً، أو قابلاً للانتهاك، بدءاً من أصغر تفصيل في الحياة وانتهاءً بالثقافة. ولعل صراعنا كمجتمع وكسلطة، منذ أكثر من أربعين عاماً، إنما يتركز في هذه المساحة اللفظية شكلاً والدامية مضموناً.
لقد استطاعت سلطة الأسد الأب وابنه الوريث، بما تنطوي عليه من صلف وشمولية، أن تقوِّض الكثير من المعاني والأسئلة والاحتمالات على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق. وإذا كان لذلك من فضيلة، فإنها لا تتعدى أن السلطة قد حكمت على نفسها بالشيء نفسه، وإن كان بوسعها حتى الآن تأجيل الإعلان عن بداهة نهايتها.
لا تستطيع السلطات الشمولية أن تملأ حتى نفسها، لأنها ببساطة فارغة من غيرها، فارغة من نعمة النقيض.
كما أنها لا تستطيع في سياق تقويضها المعمم للدولة والمجتمع، أن توفر حتى نفسها. ولعل هذا هو المسرب الأهم لإمكانيات استمرار الأمل.
لقد أدركت سلطة الأسد منذ البداية أن الجمال هو الحد الأدنى للآداب والفنون، بينما الحد الأقصى للسياسة هو التجميل.
أما التسييس بكل أشكاله فيبقى أدنى من السياسة. بصيغة أخرى هو انحطاط السياسة، وذلك هو ما اشتغل عليه الأسد الأب وأتقنه بمهارة تُحسَب له.
ولأن كل ثقافة حقيقية هي ضد الطغيان، فإن الطاغية لم يكن معنياً بتقديم أي ثقافة حقيقية لشعبه، إلا إذا اعتبرنا أن القمع والخوف والصمت والدجل والفساد نوع من أنواع الثقافة!
بالطبع لم يكن مستغرباً أن يكرّس الأسد جهوداً وأموالاً طائلة من أجل تسييس الثقافة، لأن كلفتها أدنى بكثير مما تقتضيه سياسة مثقفة. بالطبع من الصعب على الأنظمة الشمولية أن تفكر بتثقيف السياسة، إذ لا مصلحة لها في ذلك من جهة، ولأن التثقيف من جهة ثانية يحتاج إلى زمن، والأنظمة الشمولية تريد الأمور على مبدأ كن فيكون. وتثقيف السياسة أو أي شأن آخر يحتاج إلى تراكم وطول نفس وتفاعل مع مصادر متنوعة، وقبل كل شيء يحتاج إلى استعداد للتعلُّم، ومن طبيعة المستبد أو الديكتاتور أو الطاغية أنه منزَّه عن قابلية التعلم، لأنه بدون أذنين في حين أنه يمتلك أكثر من فم. ولهذا تلجأ تلك الأنظمة إلى تسييس الثقافة بدلاً من تثقيف السياسة، وحين لا تنجح في ذلك تلجأ إلى المنع والإقصاء والإلغاء، وعند الضرورة إلى التهديد والسجن وحتى القتل.
بالطبع الثقافة دائماً أعمق وأبعد حتى من السياسة المثقفة، ناهيكم عن السياسات الأمية والأمنية ومشتقاتها.
وتسييس الثقافة يعني تحويل الثقافة إلى إطار أو ديكور، وفي أحسن الأحوال إلى جوقات من المداحين الركيكين الذين حظي الأسد بكم وافر منهم سورياً وعربياً وأحياناً عالمياً، ولكن للمفارقة السوداء فقد حظي أيضاً ببعض المدّاحين البلغاء الذين يمتلكون حظاً من الثقافة والإبداع، وإن كان إبداعهم بعد التحاقهم بالسلطة أخذ يتراجع، أو أصبح أشبه بكتابة وظائف ثقافية باردة وكسولة.
ولكن رغم كل جهود الأسد الأب ودهائه، إلا أنه فشل في استقطاب معظم المفكرين والأدباء والفنانين والمثقفين المهمِّين، وإن كان نجح بتدجين نسبة ليست قليلة منهم ومن أنصاف المثقفين.
القامات العالية أدبياً وفكرياً وفنياً وثقافياً بقيت في غالبها عصية على التسييس المطلوب، إلا أن بعضها آثر الصمت أو الهجرة، وبعضها راح يكتب في شؤون لا تورثه الكثير من وجع الرأس من مثل الاستدعاءات والمساءلات أو التهديدات الأمنية، وهناك من كان مصيرهم السجن، وفي السجن رغم كل مضاضاته وما أكنُّه له من كراهية، وُلِدَ كُتَّاب ومثقفون من طراز خاص استطاعوا بعد الإفراج عنهم، بعد سنوات طويلة من الاعتقال، أن يرفعوا سقف الخطاب الثقافي والسياسي الديموقراطي المعارض في سوريا.
لجأ نظام الأسد في تسييس الثقافة إلى استثمار عدة أساليب وقضايا، وقد نجح إعلامه بالاضطلاع في المهمة على نحو ملفت.
فمن قضية فلسطين، إلى الإمبريالية، وجبهة الصمود والتصدّي، ثم اسطوانة التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي، ثم وحدة المسار مع لبنان الشقيق، ثم الممانعة، وصولاً إلى التمَنُّع، أكل الأسد حلاوةً بعقول ليس فقط بعض المثقفين السوريين من شيوعيين وقوميين وإسلاميين، وإنما أيضاً بعقول كثيرين من أشباههم في العالمين العربي والإسلامي والعالمي.
عبر عقود من الضخِّ الإعلامي في تلك الاتجاهات،لم يستطع جزء كبير من أولئك المثقفين، إدراك اللعبة أو التناقض ما بين شعارات النظام وممارساته، رغم إدراكهم أن شعارات حزب الأسد في الوحدة والحرية والاشتراكية تعني نقائضها، فالوحدة تعني الانغلاق القطري باستثناء ما فرضته آلته العسكرية والأمنية على لبنان، والحرية تعني كبت واعتقالات وسجون يصعب حصرها طالت اليمين واليسار وما بينهما، والاشتراكية تعني كل شيء غيرها وانتهى الأمر إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وما أدراك ما اقتصاد السوق الاجتماعي!
يكاد النسق في ذلك يتسق مع كل ما يعلنه النظام وما يمارسه. تعدد أجهزة الأمن يأخذ ذهن معظم السوريين في اتجاه الرعب أو اللا أمن.
بعد الإفراج عني دُعيت من مؤسسة ثقافية ألمانية للإقامة قي ضيافتها لبضعة شهور. كنت خارجاً حديثاً من السجن ولا أعرف شيئاً عن السيستم الأوروبي والمطارات. خرجت من مطار ميونخ ونسيت حقائبي. ولكني على باب المطار تذكّرتها فعدتُ أدراجي، غير أن الأبواب لم تفتح لي باتجاه قاعة الحقائب. شرحتُ أمري لإحدى الموظَّفات، فقالت: لا عليك.. سأطلب الآن رجل أمن فيساعدك. انخضَّ قلبي واهتزَّت ركبتاي لثوان من قولها: “رجل أمن”، ولكني حاولت التماسك قدر الإمكان وأنا أتخيَّل أن رجل الأمن في ألمانيا غيره في سوريا، وهكذا كان.
أعود إلى المثقف السوري وإذا ما استطاع النظام تدجينه عبر أربعين عاماً لأقول: ربما استطاع النظام تدجين البعض بدرجات، وتضليل البعض بدرجات، وتحييد البعض بدرجات، واعتقال البعض بدون درجات، ولكن رغم كل هذا وذاك، بقي في سوريا ما يكفي من المثقفين الشجعان الذين حين انطلقت الثورة لم يترددوا في الانحياز إليها. أما بقية المثقفين الذين لجمهم، أو “بلجمهم” الخوف المزمن، فسيلتحقون بالثورة وفق وقائعها التي تحرزها على الأرض، حالهم حال معظم مثقفي العالم الذين يرون الثقافة ترفاً، والترف بطبعه ليس ميَّالاً للمواجهة أو التحدي أو دفع ضرائب باهظة. وأرى أن على الثورة أن ترحِّب بأي مثقف ينضم إلى اليها ولو متأخراً، ولكن أيضاً بدون أن تمنحه أكثر مما منحه له تلجلجه ومراوغته وتأخره.
أسمِّيها ثورة لأنها تضمِر تغييراً جذرياً على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة والأخلاق. فإن نجحت إلى النهاية فهي ثورة شاملة، وإن نجحت فقط بإسقاط النظام وتغييره بنظام سياسي آخر، فهي ثورة سياسية، أو ثورة مجازاً وليس بالمفهوم المتعارف عليه.
ولكن لو افترضنا نظرياً أنها انهزمت، وأرى ذلك احتمالاً غير واقعي، فسيسمِّيها التاريخ انتفاضة.
أخيراً يهمُّني القول، بصدد حدود تدجين المثقّف السوري من قِبَل نظام الأسد خلال أربعين عاماً، إن تأسيس رابطة الكتَّاب السوريين في الآونة الأخيرة، وانضمام قرابة 300 كاتب إليها حتى الآن، بالإضافة إلى رابطة الصحفيين السوريين، وتجمع فناني ومبدعي سوريا، من شأنه التأكيد على حقيقة أن السلطة كانت واهمة في اعتقادها بتدجين المثقفين بنسبة مقاربة لنسبة نجاح الرئيس في أكذوبات استفتاءاته، غير أن مفاجأة النظام بل فضيحته الكبرى، كانت مع شعبنا السوري الذي اعتقد النظام أنه دجَّنه إلى الأبد، ليكتشف بعد اندلاع الثورة في 15 آذار 2011، أن غالبية الشعب السوري ضده، وأن التظاهرات في معظم أرجاء سوريا أثبتت بالصوت والصورة،انتهاء شعارات حقبة “للأبد”، لتحل محلها حقبة تحطيم الخوف والتماثيل والصور، وإعلاء اللعنات الواثقة والمموسقة على روح الأسد الأب ووريثه. إنها حقبة: ألله سوريا حرية وبس. واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد. وغير ذلك من الشعارات التي أبدع شعبنا في استنباطها وصوغها على نحو ربما لا تضارعها فيه أي ثورة أخرى.
أما الكُتَّاب والمثقفون الذين كانوا يبحثون عن حرية الإبداع، فإنهم مدعوون إلى تكريس مواقفهم وكتاباتهم الآن من أجل إبداع الحرية مع شرفاء وأحرار شعبهم.
شاعر سوري وناشط سياسي