علي جازو : حذاءٌ أسود .. هديّة بيضاء
انتظرنا أكثر من ثلاثة أسابيع حتى وجدنا محلاً نجمع فيه الثياب. كنا متلهفين للعمل والتعاون. جاءتنا معونات لم نتوقع أن تكون بهذا الكم. أناس رائعون من سكان بيروت وغير بيروت، لم يسبق لنا أن تعرفنا إليهم جلبوا ما يمكنهم جلبه لدرء برد الشتاء القادم عن نازحين وهاربين من جحيم نار النظام السوري!
كانت الفكرة فكرة أمٍّ، إذ لا أحد مثلها يمكن أن يفكر الآن بالثياب، بالحاجة إلى الدفء، سيما لأولئك الذين يسكنون خيماً بالكاد تشبه الخيم. ثمة من وضع قطعاً كرتونية أعلى أوتاد خشبية وغطى الكرتون بنايلون لن يتحمل هبة ريح واحدة! ثمة من هرب بما عليه، بقطعة ثياب واحدة، واحدة وحسب. ثمة من بحاجة إلى حذاء.
أمور كهذه تكاد تُنسى، بسبب طغيان أخبار القتال والحرب. كأنما الحرب هي هذا النسيان الشرس لكل ما هو عادي وملح في وقت واحد. لمخدة نوم، لشرشف نظيف، لكنزة شتوية، ولمعطف واق من المطر، لقبعة. تخيلتُ حينها حاجة أي سياسي، أي مسؤول، أي عسكري إلى امتلاك قلب أمّ حينما يفكر في جوهر العمل السياسي، في حال مشردين وضحايا صراعات مجنونة لا يعلمون عنها شيئاً، أي شيء! فكرت أنه بإمكاننا جمع مزيد من الثياب بطرق سهلة، طالما عثرنا على مكان، إلى حين نقلها وتسليمها للأسر الهاربة من جحيم القتل. هذا أقل ما يمكننا عمله، وينبغي ألا أتوانى عن تشجيع أصدقاء آخرين على التعاون، سيما الذين لم يتحزبوا بعد، لم يتحولوا إلى سياسيين متحجري القلوب، ولم تمتلئ صدروهم جشعاً وقسوة.
وجدت كثيراً من الرجال والنساء خفيفي الثياب في البارات والمقاهي التي أمر من أمامها، وتساءلت إن كان لديهم ثياب غير التي بالكاد تغطي أجسادهم! بيروت معرض كبير مستمر، وأنا أتوه وأغرق فيما أرى، ولا شيء يحميني من أي شيء. هذا أفضل، السير ثم السير ومواصلة النظر حتى التعب حتى النوم. عمل سهل ولا يحتاج إلى عناء كبير، إذا ما طلبت معونة بسيطة: ثوب مستعمل، صالح ليلبس من جديد، ولا يدري صاحبه لمن يعطيه. إنهم متفتحون، يتبادلون الابتسامات، يخوضون نقاشات جدية. هذا ما توحي به ملامحهم، تدفعني إلى احترامهم احتراماً يبلغ حدّ الخجل، فيتعرق جبيني وصدغاي وفمي ولا أجد كلمة على لساني. إذا ما جمعنا الثياب خلال شهر، واستطعنا تأمين نقلها إلى عرسال الشهر التالي، يكون الخريف قد لامس مطالع الشتاء، ولربما نالنا شتمٌ من أمّ نازحة: ” شو، منيح والله، صرنا بالشتوية، وانت جايب تياب صيفية، لتكون مفكرنا جايين نشم هوا عالبحر. انقلع يا مسطول..”! لكنني في الحقيقة، أخافُ أن يعرضني طلبي المساعدة من أحدهم أو إحداهنّ لسخرية لا أستحقها، وربما ينقلب الأمر إلى عراك يحملنا إلى مخفر. إذا كان المحقق غير متعاطف مع السوريين، وكان خصمي أجنبياً مدللاً، نالني حبسٌ يحول مسعاي طلبَ المساعدة إلى ورطة أستنجد أصدقاء متنفذين كي يخلصوني من وحلها. أصدقائي بلا نفوذ، هم أقرب إلى نوافذ صغيرة أتنفس من خلالها أحياناً إذا ما تثاقل انقباض صدري، ولم أجد أحداً أبثه حيرتي وأفكاري التي إذا ما فكرت بها ملياً وعلى نحو جدي، لربما وقفت موقف الهازئ الذي تخيلته يطعنني بسخرية تقضي على ما تبقّى من حيائي، فأسبّ نفسي وألعنها مئة مرة!
لم يكن لدي سوى قميص واحد، بكُمّ طويل، إضافة إلى كنزة صيفية زرقاء بخطوط بيضاء عريضة. وجدت بنطالاً أيضاً، قماشه متين، يشبه القماش الذي تصنع منه خيم عسكرية قوية، إضافة إلى حذاء رياضي أسود، اشتريته منذ ثلاث سنوات من دمشق. أخبرني البائع حينها أن نعل الحذاء صناعة تركية، والجلد سوري، وبذلك أكون قد حصلت على مزيج ممتاز. كان يمكن لحكام سوريا وتركيا تطوير صناعة الأحذية، وتخفيض أسعارها بدل تبادل الاتهامات حول سرقة مياه الفرات، وتبادل تصدير “الإرهابيين” ، على ما يقول ساسة الطرفين الذين يزيدون المتاهة متاهة، فلا نعلم صدق أحد من كذب آخر.
كان حذائي خفيفاً، وأذكر أنه أسعدني وأراحني عندما سرت به أول مرة مزهواً أمام سور البرلمان في الصالحية بدمشق قريباً على بعد خطوات قليلة من محل “أبو شاكر” حيث تلمع ألوان الجزر والبرتقال والموز والحليب والليمون بعد أن تعصر وتسكب في أقداح كبيرة. سرت بخفة وانتعاش كما لو كنت رياضياً خفيف الروح. بالحذاء نفسه عبرت معبر قامشلي إلى نصيبين، وعدت به حاملاً دستة من أقداح الشاي ذوات الخصور المضمرة إلى الداخل. قالت أمي حينها: “سأخبئ الأقداح، لئلا يكسرها أولاد عمك الصغار، إنها جميلة، وعندما تجد زوجة وبيتاً، تحمل معك الأقداح”. كانت تضحك وهي تتخيل البيت والزوجة. ها أنا ذا قريب من بحر بيروت، ثمة بواخر عديدة واقفة، وأمامها ساحة واسعة مليئة بسيارات لم يركبها أحد بعد. أفكر أن النظر إلى البحر الآن مناسب لكي يصفو ذهني فلا يضيع مني شيء هنا، وهناك. أتذكر فجأة كلاماً عنيفاً تبادله شخصان عملا في مؤسسة ناشطة تنشر دراسات جادة ورصينة عن اللاعنف، عن كيفية الارتقاء بسلوك الإنسان من خلال تعميق إدراكه لما يجره العنف على المجتمعات من مصائب وأحقاد. تلمستُ جيبي، وتأكدت من وجود مفتاح المنزل، ونظرت إلى الشارع، لعل سيارة تمر فأركبها، أعود إلى غرفتي. ماذا يمكن لتائه مثلي أن يفعل وسط سيارات تبدو نظرات سائقيها أسرع منها. يا لسوء حظ سكان بيروت، ويا لسوء حظ النازحين الذين لا يمكن حتى أن يصلوا إلى بيروت! يا لخوفي، يا لخوفي من كل شيء مسرع! عندما وصلت إلى البيت أخيراً، حملت كيساً، وبحركة بطيئة من يدي المتعبة، وضعت فيه البنطال، والقميص، الكنزة، والحذاء الأسود. هذه ثيابي التي يمكنني أن أعيرها لك يا أخي الذي لم أره. يا من تركت أمّاً، أو أختاً، أو حبيبة، أو بيتا مدمراً. يا من تتجمد الدمعة في عينك التي هي عيني، وتحرق الصرخة حنجرتك التي تستحق أن تغنّي، أن ترفع صوتها الشجاع الفقير الشريف. هذه ثيابي الضعيفة العادية، مزيج من الجغرافيا والحنين، من الذاكرة والحلم، من رائحة المدن ودخان ضياعها. إنها الآن في طريقها لتكون على جسد ما، على جسدك المقدس، جسدك المحروم والمتألم. هو جسدي الذي يشترك معك في سموّ الألم ووحدة الشعور الإنساني، قبل أي شيء آخر، أي شيء.
المستقبل