دلال البزري : مثل إعصار كوني
- ” هذه الثورة، أيضا، أيقظت وحوشاً كانت نائمة تتغذى من نومها ومن النظام الذي كان يرفع العلمانية بيد ويشجع كل أشكال الظلامية الدينية بيد أخرى؛ وذلك عملاً بمقتضيات النظام “المؤمن” الذي اخترعه أنور السادات، أول رئيس عربي معاصر “مؤمن”. وخلفه وحش الإثنيات والطوائف والمذاهب ”
ما الذي يجعل الثورة السورية مثل إعصار سديمي يضرب الكون كله؟
جبروت النظام، إنتحاريته، رغم مناوراته “الذكية”، الموت النهائي لضميره؛ كل هذا صاغ ردّه على المطالب السلمية لمتظاهرين يرفعون شعارات جذرية. ما مكّن النظام من الضرب بيد من براميل وتجويع وكيماوي… دمر بهم سوريا والسوريين؛ فانقلبت ملامح هذه البلاد، وانقلب عيش مواطنيها، وفاض على الجوار لاجئين ونازحين ما يفوق كل النكبات العربية، وربما العالمية، المعاصرة. بين مطالب إصلاح النظام بدايةً، ثم إسقاطه لاحقاً، وبين تشبّث النظام بسلطته، لعب الدهر بالجغرافيا، فتغيرت ملامح المنطقة مع تغير ملامح سوريا.
ليس لأن سوريا هي في قلب الرهانات الجيوستراتيجية، أو لأنها في قلب الصراع العربي الإسرائيلي، أو قلب العروبة النابض…. الخ من أوصاف، تحال إلى أسباب المركزية السورية ومحوريتها. هي كلمات صحيحة، ولكن “تفسيرها” السياسي (الشيطان دائماً في التفسير) حجبَ سبباَ جوهريا آخر من أسباب جذرية الثورة السورية: وقوامه ان النظام قاد، بالنيابة خصوصاً، حرباً “متوازنة” ضد إسرائيل، بأذرعها الخارجية ومناوراتها الفذة وبفكرتها المهيمنة. كل من الأذرع والمناورات ما كان لها أن تثبت، لولا شمولية الفكرة. الثورة السورية هي الآن بصدد تحطيم ذاك الوثن، الذي اسمه مقاومة وممانعة. معها، ينهار ذاك الصرح الأيديولوجي، وتتحول فلسطين إلى مخيم اليرموك، وحصار وتجويع… كشفت الثورة السورية عن الهوة السحيقة القائمة بين تبخر كل مقومات الصراع الذي يقوده النظام ضد إسرائيل، وبين الرسوخ العميق لفكرة انه مازال بصدد مقاومة وممانعة. الوعي التدريجي لهذه الهوة هو بمثابة ثورة ثقافية على ما استقر عليه النظام من أكاذيب وألاعيب وإبتزاز وطني ونضالي… من انطلاقة الثورة فصاعداً، تعرت الفكرة العظيمة، وإن لزم أنصارها الكثر بيوت عقولهم المغلقة. لكن سكة انهيارها دُشنت، وما من قوة في الوجود تعيدها الى هيمنتها القصوى، وكل الترسانة اللغوية التي أنتجت من الخشبيات ما فلق عقولنا الى نصفين.
هذه الثورة، أيضا، أيقظت وحوشاً كانت نائمة تتغذى من نومها ومن النظام الذي كان يرفع العلمانية بيد ويشجع كل أشكال الظلامية الدينية بيد أخرى؛ وذلك عملاً بمقتضيات النظام “المؤمن” الذي اخترعه أنور السادات، أول رئيس عربي معاصر “مؤمن”. وخلفه وحش الإثنيات والطوائف والمذاهب. ما كان لهذا الوحش أن يستفيق من نصف غفوته لولا النهج الذي بُنيت به أوطان المشرق هذه منذ استقلالها. الذي حصل بعد حين من التقلبات، الواعدة أو الخائبة، ان الأنظمة التي استقرت في حكم هذه البلدان لم تبنِ دولا أو أوطاناً، إنما بنت أنظمة سياسية لها من الديمومة والصلابة ما لا ينالها من إصلاح أو تغيير إلا جذرياً، بحرب أهلية أو بنهاية وطن. هذه الأنظمة التي شيدت أوطاننا المعاصرة، ما كان لها دوام حياة لولا البنى التي اعتمدتها، ضمناً، من العصبيات الطائفية والإثنية. هشاشة الكيان الوطني وقوة وعمق الكيانات الـ”دون وطنية”: هذا ما أخرجته الثورة السورية الى العلن. هذا هو سبب الحديث عن سايكس- بيكو جديدة، عن إعادة ترسيم الحدود “الطبيعية”، القائمة على عصبيات سحيقة، تبني هي مناطق نفوذها وحدودها. الثورة السورية هزت الكيانات الوطنية السابقة، لأن هذه الكيانات قامت على أنظمة، لا على دولة.
مقارنة توضيحية: في تركيا، التأرجح بين دولة ونظام، خصوصاً بالعلاقة مع أقليتها الدينية والإثنية، جعلها مثلنا، وإن بدرجة أقل، عرضة للإهتزاز الكياني بعد الثورة السورية، بحكم الجيرة وتلازم التكوين. أما مصر، وعلى الرغم من اضطراباتها الطائفية، ومن الإنقسام الوطني بين الإخوان المسلمين والجيش، فان كيانها لم يهتز قيد أنملة، لأن دولتها أعمق وأقدم من نظامها. وبين ثورتها والثورة السورية فرق أساسي: ان ثورتها نالت من إستقرارها وإقتصادها وموقعها و”ريادتها” العربية، فحسب؛ فيما الثورة السورية أعادت توزيع الهويات، فاختلطت الحدود وبات الأفق يحْبل بكيانات جديدة. مثل ذاك الكيان الناشىء في مدينة الرقة السورية بقيادة “داعش”؛ دولة هويتها القصاص الشرعي. قد لا يدوم، هذا الكيان، ولكنه قام، ولو لأيام… وسوف تسجله الذاكرة.
كاتبة لبنانية والمقال نقلا عن الزميلة “المدن” الالكترونية