فواز تللو: سوريا.. إما انتصار الثورة أو سقوط المنطقة
الأطراف الراعية أو المشاركة في مؤتمر جنيف (الغرب، الروس، النظام السوري) بالإضافة إلى الإيرانيين لم يلهثوا جميعا وراء مفاوضات جنيف دون حساب الخطوة التالية.
فبعد انقسام المعارضات المتوقع في المحادثات التي لن تتوقف رغم فشلها، ستُنزع بعض الأقنعة، وستجري عملية إعادة اصطفاف وتموضع لهذه المعارضات على أسس وأهداف جديدة، وسنرى بعضا من المعارضات وقد اقتربت مشاريعها كثيرا مما يطرحه النظام وحلفاؤه والغرب لتصبح “مكافحة الإرهاب” هدفا وأولوية.
وستنتقل العدوى -كما جرت العادة- إلى التنظيمات المقاتلة لتعيد تموضعها، ولن نستبعد عندها إنشاء شبه تحالفات ما بين بعض فصائل التشبيح في الجيش الحر (وقد كانوا شبيحة وقطاع طرق سابقا) وبعض مليشيات النظام، وما حوادث التواطؤ لتسليم بعض المناطق ببعيدة.
وكتائب التشبيح على استعداد لتغيير اتجاه البندقية حسب المصلحة المليشياوية، وسيجد الغرب فيهم من يستحق تلقي “أسلحته الفتاكة”.
“الكتائب المعتدلة والإسلامية سيجري العمل على تفتيتها واختراقها بوعود المال والدعم، وإشغالها بأعداء جدد، ناهيك عن الصدامات فيما بينها مع انفلات عقال العمل العسكري بعيدا عن الشريك السياسي بعد الفشل الذريع للائتلاف “
أما الكتائب المعتدلة والإسلامية فسيجري العمل على تفتيتها واختراقها بوعود المال والدعم، وإشغالها بأعداء جدد (وفق التحالفات الجديدة)، ناهيك عن الصدامات فيما بينها مع انفلات عقال العمل العسكري بعيدا عن الشريك والتوأم السياسي الضروري بعد الفشل الذريع للائتلاف وهيئة أركانه ومجالسه العسكرية.
وستنزلق هذه الكتائب الإسلامية والمعتدلة تدريجيا إلى العمل المليشياوي وسط ضياع المشروع السياسي العسكري الواحد وتجاذبات الدعم المادي.
أما الخسارة الكبيرة فستكون في استهلاك وقت ثمين توشك سوريا والمنطقة بعده أن تدخل نفقا طويلا لن تخرج منه إلا بعد قطعه كاملا بكل آلامه، وذلك بعد أن تخرج عناصر الصراع تماما عن السيطرة.
ففي معسكر كتائب الثورة العسكرية ستعاد الاصطفافات وفقا للفشل المتوقع لمؤتمر جنيف، وستنتشر تدريجيا الممارسات المليشياوية مدعومة بـ”اقتصاد المليشيا” الذي يفرض نفسه لاستمرار الكتائب بتمويل وجودها، وهو ما تفرزه الأزمات المسلحة الطويلة عادة، وهي ظاهرة لن يقتصر انتشارها على كتائب التشبيح و”التشويل” الذي تمارسه حاليا (أي اقتصاد المليشيا) بل ستعم الجميع.
وهكذا ستجد القوى الإسلامية المعتدلة والسلفية وباقي فصائل الجيش الحر مصادر تمويلها المحلية التي تجنيها في مناطق نفوذها لتصبح أكثر استقلالية.
وتخسر بالتالي الدول الداعمة الحالية حظوتها تدريجيا، وسيصبح هم كل فصيل بسط نفوذه في مناطق محددة لتأمين موارده، وهذا سيدخل الجميع (بمن فيهم أطراف الجبهة الواحدة) في صراع بيني، كما ستتقلب بندقية كتائب التشبيح لتختص بالأعمال القذرة من اغتيالات وخطف ونهب وسط هذه الفوضى.
أما الهيئات العسكرية الشكلية، كهيئة الأركان والمجالس العسكرية، فستبحث عن أتباع (لا عن توحيد البندقية كما تدعي) وهو ما تفعله عمليا منذ أنشئت، وستجد دائما بندقية للبيع من حلفاء أتقنوا لعبة تبديل ولائهم باستمرار وسط هذه الفوضى التنظيمية والسياسية.
كذلك فإن الدول المعنية ستجد دائما مثل هؤلاء وسط الفوضى لأنهم حلفاء المصلحة اللحظية المتغيرة، وقد اتقنوا اللعبة التي فرضت عليهم واندمجوا فيها ولم يعودوا أتباعا بل “معلمين” فيها ويتعاملون مع “معلميهم” كمجرد أطراف بأحسن الأحوال.
أيضا، ستزداد تنظيمات القاعدة (جبهة النصرة خاصة) نفوذا وقوة، وستسعى للسيطرة على مناطق جديدة بشكل كامل لتغذي من خلالها مواردها، وهو ما سيدفعها للصراع مع تنظيمات الثورة بكل أشكالها، وهذا ما بدأنا نرى إرهاصاته مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام توأم النصرة ليكون خبرا يوميا بعد أشهر، وستجذب سوريا المزيد من مقاتلي القاعدة، وهذا سيبث السرور في قلب النظام والغرب الذي سيسعى بعد جذبهم للتخلص منهم على الأرض السورية.
أما من ناحية النظام، فمعلوم أن جيشه النظامي بات لاعبا ثانويا وتفكك إلى درجة بعيدة، وسيتلاشى خلال عام أو أكثر قليلا إن استمر الصراع، فالنظام بات أقرب إلى المليشيات منه إلى الدولة، وباتت تنظيماته العسكرية في كل منطقة مشكلة من شبيحة الجيش الوطني واللجان الشعبية وتنظيمات أجهزة المخابرات العديدة، وبات الجميع منخرطين في عمليات النهب والخطف التي أضحت جزءا أصيلا من أهداف هذه المليشيات، ومهنة مربحة، وليس فقط للقتال الطائفي إلى جانب النظام كما قد يتصور البعض.
“مع الوقت ستصبح إيران لاعبا مباشرا وطرفا لا يمكن تجاوزه، بل ستجبر العالم على التعامل معها كطرف ثالث مستقل حتى عن النظام، مستخدمة الورقة السورية في مشروعها في المنطقة”
لذا فإن سيطرة النظام عليها ستضعف تدريجيا كما يحصل حاليا، وعند نقطة معينة، حتى لو سقط النظام في دمشق، فستستمر هذه المليشيات في كل منطقة بل ستصطدم فيما بينها كما ستصطدم مع حلفائها من أتباع إيران في صراع المصالح والنفوذ المناطقية.
وعندها سيصبح النظام عاجزا إلى حد بعيد عن التحكم فيها، لتستمر في الصراع كأطراف مستقلة حتى عن بقايا النظام الذي قد يستمر بدويلته الطائفية في مناطق نفوذه.
أما بالنسبة لحلفاء النظام الذين يقاتلون معه اليوم، فبعد أشهر وربما عام أو أقل سيصبح الإيراني لاعبا مباشرا ليس لأن سحبه من المعادلة اليوم سيؤدي لانهيار النظام السوري وهو ما لا يرغبه الغرب الراضي ضمنا عن وجوده في المعادلة السورية حاليا (بعكس ما قد يتصوره البعض) ضمانا لتوازن المعادلة وعدم سقوط النظام الأسدي عسكريا، بل لأن مرتزقة إيران في المنطقة سيصلون إلى أعداد يعجز حتى النظام السوري عن إخراجهم من سوريا فيما لو أراد ذلك (وهو ما لن يحدث)، بما في ذلك وجود مباشر “لمتطوعين إيرانيين” لسد العجز في الأعداد نتيجة تراجع متوقع في وتيرة تجنيد المرتزقة من العراق ولبنان لارتفاع خسائرهم.
ومن ثم سيصبح الإيراني لاعبا مباشرا وطرفا لا يمكن تجاوزه، بل سيجبر العالم على التعامل معه كطرف ثالث مستقل حتى عن النظام، مستخدما الورقة السورية في مشروعه في المنطقة، وهو ما ستدفع ثمنه كل المنطقة وعلى رأسها دول الخليج العربي التي ستجد نفسها جزءا من صفقة بين الإيراني والأميركي باتت ملامحها واضحة اليوم.
وسيدفع الثمن أيضا لبنان والعراق بعد أن يفقدوا فرصة تاريخية لإضعاف أذرع إيران في البلدين عبر إسقاط النظام السوري، لتصبح تلك الأذرع مطبقة على خناقهم بشكل غير مسبوق.
وسيؤدي هذا لاحقا إلى انفجار كامل للأوضاع في البلدين تزيد فيه فرص إيران في استغلال تلك الفوضى، وحتى المليشيات التابعة لإيران في سوريا ستبدأ مع الوقت ببناء مناطق نفوذها المستقلة نسبيا داخل سوريا (برضا نسبي إيراني) وستدخل في صراعات مع حلفائها من العلويين.
كل هذه السيناريوهات تمثل نفقا ستدخله الثورة السورية والمنطقة خلال فترة قد لا تتجاوز العام بأفضل الأحوال، وستحتاج سنوات لتخرج منه الثورة، وعقودا لتخرج المنطقة من آثاره، ولن نحصل في نهايته بالضرورة على سوريا التي نطمح لها.
ولن تستطيع دول الخليج العربي النجاة من هذا الانتصار الإيراني الكبير، بل سيدخل الجميع هذا النفق إن استهلك الوقت الثمين المتبقي في اللهاث وراء “فخ الحل السياسي” بمفهومه الحالي الذي يهدف إلى تفتيت الثورة وإضعاف صفوفها معتمدا على زيادة معاناة السوريين لدفعهم لطلب النجاة بأي طريقة حتى بصفقة مع النظام تعيد إنتاجه (كنموذج الحل اليمني) كنظام حكم أقلية علوية وتحالف للأقليات وربما بوجود مؤقت لبشار الأسد.
هي لحظة التعب التي ينتظرها الغرب والنظام وحلفاؤه من الثورة، لذلك تركوا النظام يفعل ما يفعل، فإن لم تحن هذه اللحظة في مسلسل مؤتمر جنيف الطويل الذي سيحافظون على استمراره كعملية مهما فشل ليستطيعوا تمرير ما يريدون في لحظة الضعف، فسيناريوهات ما بعد جنيف جاهزة كما ذكرت.
“الحل بسوريا يتطلب قرارا شجاعا من الدول الحليفة في الخليج وتركيا بتخطي كل المقاربات السابقة من معارضات وهيئات عسكرية لبناء حلف من قوى الثورة الحقيقية له هدف واحد ينتهي بعده”
ولا مشكلة -حينئذ- أن ينتظروا سنوات حتى تتعب الثورة والسوريون وينتظموا في “فخ حلهم السياسي” في جنيف آخر بنفس الشروط الحالية، أو تقسم سوريا بفيدرالية تضيع فيها الحقوق والحدود وينجو القتلة، كنموذج “الحل البوسني” وليفرض الغرب ذلك على المقاتلين المتعبين أو حتى عندما يشعر أن النظام قد يسقط عسكريا (ولو بعد حين)، عندها سيتدخل عسكريا وربما استخدم طيرانه وسيخرج علينا بقرار أممي، لكن لتجريم الثورة هذه المرة وإرسال قوات دولية مسقطا أقنعته بحجة حماية الأقليات ومكافحة الإرهاب، وذلك ليفرض الحل “البوسني” عسكريا إن عجز عن إنتاج الحل “اليمني” سياسيا بإعادة إنتاج النظام كما يخطط له في جنيف.
إن “نموذج الحل البوسني” حيث تضيع العدالة والحقوق، يعني أيضا إعطاء العلويين وباقي الأقليات مناطق نفوذ فيدرالية تستحوذ على كل الموارد الطبيعية (بحر ونفط وغاز ومياه) مع إضعاف المركز في دمشق التي ستكون مستحوذة من قبل كل الأطراف.
أما الفيدراليات “السنية” العديدة فستكون ضعيفة بلا موارد اقتصادية أو طبيعية ليرتبط كل منها سياسيا واقتصاديا بدولة مجاورة يعتمد عليها وتسيره.
المخرج مختلف عن الحلين اليمني والبوسني اللذين يصبان بمصلحة إيران والنظام الأسدي. إنه يتطلب قرارا شجاعا من الدول الحليفة في الخليج وتركيا بتخطي كل المقاربات السابقة من معارضات وهيئات عسكرية لبناء حلف من قوى الثورة الحقيقية له هدف واحد ينتهي بعده، وهو إسقاط النظام عسكريا حين لا يوجد حل سياسي مقبول للثورة.
وفي النهاية، فإن الخلاص من النظام الأسدي الطائفي قبل فوات الأوان هدف إستراتيجي وأولوية، حتى لو كان الثمن بعض الفوضى المتوقعة التي تليه، فثمن معالجتها مهما كبر أقل بكثير من ثمن استمرار النظام وانتصار المشروع الإيراني.
فواز تللو, معارض سوري
المصدر : الجزيرة