مازن كم الماز : مأزق الثورة السورية , و الثورات العربية
إننا في ورطة , صحيح أن الثورة كثورة , كما بدأت في آذار 2011 أو حتى كما كانت في بدايات حملها للسلاح , قد توقفت , هذا في أفضل الأحوال , لكن هناك في سوريا صراع سياسي و عسكري أحد طرفيه النظام الذي ثار السوريون في وجهه , صحيح أن الطرف الآخر لم يعد الجماهير السورية التي خرجت مطالبة بحريتها , لكن مع ذلك لا يمكن أبدا السماح بانتصار الديكتاتورية في هذا الصراع .. احتمال مثل هذا الانتصار يذكرنا على الفور بإسبانيا فرانكو بعد سحقه للقوات الجمهورية ( التي كانت قد سحقت هي نفسها الثورة الإسبانية من قبل , ما يشبه بعض الشيء ما جرى في سوريا أيضا ) .. ليس فقط أن إسبانيا فرانكو كانت نظاما توليتاريا شموليا , يقوم على الصمت و الخوف , بل أنها كانت نظاما سحق للتو مقاومة جيل بأكمله , و ربما أجيال قادمة , و أصبح منيعا لفترة طويلة على أي تغيير من خارجه .. أيضا لا يمكن السماح بانتصار القوى الأصولية , التي ستخلق هي الأخرى وحشا توليتاريا شموليا , يذكرنا ببدايات النظام الفاشي البعثي .. كيف وصلنا هنا ؟ لقد جرت تدريجيا عملية إعادة صياغة للصراع السياسي العسكري في سوريا بحيث استبعدت الجماهير السورية منه و بحيث جرى دمجه مع صراعات عالمية و إقليمية على السلطة و الثروة و النفوذ .. و بينما أجبرت الجماهير على دفع ثمن باهظ لوقوفها في وجه الديكتاتور , جرى شراء النخب و إعادة تشكيلها , بفعل قوى خارجية و داخلية أي من داخلها , وفق هرمية خاصة وضعت الأكثر ابتذالا و الأكثر عمالة للنظام العالمي الجديد ( النظام الرأسمالي النيوليبرالي العالمي و الإقليمي ) على رأسها .. لا يكفي هنا تجريم و اتهام كل من ساهم بهذه العملية على أهمية ذلك , إننا أمام واقع يجب تغييره لا الاكتفاء بنقده.. يجب هنا أن أشير إلى نقاط التشابه الفعلية بين حكم مطلق أصولي و بين استمرار الحكم المطلق لبشار الاسد كنتيجة للدمار الذي لحق بسوريا , و الأهم ربما , باستعداد جماهيرها على المقاومة : في كلتا الحالتين سنكون ليس فقط أمام نظام شمولي بل أمام نظام شمولي “مستقر” إلى حد بعيد , دون أية مقاومة جدية ضده من الجماهير , و وسط استسلام ( كيلا نقول رضا ) شعبي واسع نسبيا لهيمنته .. يذكرني ذلك بتحليل كورنيليوس كاستورياديس عن الاتحاد السوفيتي في أوائل الثمانينيات عندما رأى أن الطبقة الحاكمة هناك لم تعد البيروقراطية الحزبية الدولتية , رأى ذلك الاشتراكي التحرري اليوناني – الفرنسي يومها أن الاتحاد السوفيتي كان قد أصبح ستراتوكراسي * أي حكومة قادة عسكريين , أن الطبقة الحاكمة يومها في الاتحاد السوفيتي قد أصبحت النخبة العسكرية التوسعية في الخارج , و أنها أيضا ليست ديكتاتورية عسكرية بالمعنى الكلاسيكي , لأن الديكتاتورية تمارس على الضد من القوانين و الدساتير السائدة , أما الحكومة العسكرية فهي تمارس بحماية مباشرة من تلك القوانين و الدساتير و في كثير من الأحيان ب”رضا” شعبي أيضا ( في ميانمار تخصص القوانين السائدة ربع مقاعد البرلمان للعسكر و القوانين المرعية في تركيا تحتفظ للمؤسسة العسكرية بدور قيادي فوق بقية مؤسسات الدولة التركية حتى المنتخبة منها ) .. هنا تندمج الدولة و الجيش معا , و يتولى معظم المناصب المدنية العليا ضباط حاليون أو سابقون .. إني أعتقد أن هذا هو أفضل وصف للنظام الاسدي , أو الناصري أو الصدامي , ( و ربما السوفيتي أيضا على رأي كاستورياديس ) و أن هذا هو سر صمود النظام الاسدي في وجه الثورة الشعبية ضده .. لقد جرى التركيز على الصفة العائلية المافيوية للنظام الاسدي , لكن هذه الصفة لم تكن لتفسر صموده كل هذا الوقت أمام ثورة و تضحيات على المستوى الذي قدمه السوريون .. منذ أيام اللجنة العسكرية و صعود صلاح جديد , كان النظام السوري قد تحول بالفعل إلى نظام عسكري , و رغم الفردية المطلقة لحكم الأسد الأب لكنه مع ذلك حرص على استمرار الدمج بين السلطة و الجيش , و إلى جانب التمجيد الشخصي للزعيم الخالد في الخطاب الإعلامي للنظام بقي تمجيد الجيش و قيم الحياة العسكرية جزءا اساسيا من هذا الخطاب , الجزء الأكثر نجاعة اليوم ربما .. نفس الشيء وقع أيضا في مصر , رغم استقلال عبد الناصر النسبي بمؤسسة الرئاسة حرص الرجل على المحافظة على العلاقة المحورية بين الجيش و السلطة , حتى بعد صراعه قصير الأمد مع عبد الحكيم عامر حرص على استمرار تلك العلاقة بصيغتها الندية و لم يعمل على إخضاع النخبة العسكرية له بالكامل كما قد يعتقد , و مع صعود السادات و مبارك استمرت هذه العلاقة التي ميزت النظام و حددت القوة الاجتماعية المهيمنة فيه , و كان حكم المجلس العسكري ثم صعود السيسي تكريسا لنفس النهج , لنفس النظام , لا انقلابا عليه .. و قد يصح نفس التحليل على الجزائر و اليمن و دول أخرى شبيهة .. و حتى حيث جرى توريث السلطة بنجاح داخل العائلة الحاكمة ككوريا الشمالية بقي ابن الزعيم أو حفيده مجرد رمز أو تجسيد شخصي للسلطة او للطبقة الحاكمة يجب تقديسه أو احترامه , لكن السلطة الفعلية بقيت بيد النخبة العسكرية .. على الطرف المقابل , انتهت أحوال الثورة السورية لتنتج نظاما مشابها تماما لذلك النظام العسكري .. إن العارف بأحوال المعارضة السورية المسلحة , الإسلامية منها خاصة , سيعرف فورا أننا أمام صورة بالكربون , أو بالنيجاتيف , عن تلك السلطة العسكرية , و أيضا أمام خطاب إيديولوجي يعاكس خطاب النظام الاسدي بالاتجاه لكنه يشبهه تماما بكل صفاته إن لم يكن يطابقه .. هذا يضعنا أمام عدة مخارج محتملة اليوم للوضع في سوريا , أغلبها أو كلها مريع : استمرار الوضع القائم , لسنين , الأمر الذي سيترافق بتآكل أكبر في قدرة الجماهير السورية على المقاومة و النضال المستقلين و تركيز أكبر للقوى بيد حفنة من القادة العسكريين , أو انتصار النظام الذي سيعني تأسيس عبودية قد تكون أسوأ من عبودية القرون الوسطى , عبودية ستستمر لجيل أو جيلين على الأقل دون أية مقاومة جدية ربما , أو انتصار المعارضة المسلحة و تشكيلها لنظام عسكري بإيديولوجيا جديدة يعيدنا في الواقع إلى المربع صفر و لن تخرج دولة داعش المفترضة عن شكل حكم النخبة العسكرية الشعبوي هذا , أو حلول وسط مفروضة خارجيا أو بفعل التوازن بين الطرفين ستلعب فيها النخب دورا هامشيا و ستبقى القوى العسكرية هي الفاعلة فيها , أو استمرار حالة التقسيم الراهنة بشكل رسمي أو ضمني , مع صراعات في المناطق “المحررة” على السلطة و النفط , حيث سيعاد تقسيمها مرة تلو أخرى , و أيضا تدميرها مرة تلو أخرى .. لا أعتقد أن الجماهير السورية تمتلك الكثير من الإمكانيات اليوم لتفرض حلولها أو لتوسع حصتها من الثروة و السلطة , أرجو من كل قلبي أن أكون مخطئا , لكن الأوهام لا مكان لها في التاريخ , رغم أهميتها لصنع أمجاد شخصية أو لإثبات “علمية” فرضية ما .. أعتقد أن الصراع اليوم , من زاوية الجماهير , سيتركز على معنى و جدوى المقاومة أساسا , و على ابتكار أساليب مقاومة أقل عنفا ضد النظام القائم , و بدائله السلطوية , باختصار , على بقاء و تطوير ثقافة المقاومة ..
مازن كم الماز