صبحي حديدي : ذكرى المجازر الكيماوية: أوباما ليس أفضل من أدونيس!
محطة CNN الأمريكية شاءت إحياء الذكرى السنوية الأولى للهجمات الكيماوية الوحشية، التي شنّها نظام بشار الأسد على الغوطتَين الشرقية والغربية، فجر 21 آب (أغسطس) 2013؛ بطريقة مبتكرة حقاً، أخلاقياً ومهنياً أيضاً: استضافة بثينة شعبان، مستشارة الأسد الإعلامية، وصاحبة الهرطقة الأشدّ بؤساً وابتذالاً وخبثاً حول تلك الهجمة (أنّ المعارضة السورية خطفت أطفالاً ونساءً وشيوخاً من منطقة الساحل، ونقلتهم إلى الغوطة، ثمّ قصفتهم بالأسلحة الكيماوية)؛ لا لكي تعلّق شعبان على تلك الذكرى، حتى من باب نفيها أو تكرار التخرصات إياها، بل لكي تشرح للمشاهدين دور «حكومة الرئيس بشار الأسد» في مكافحة «داعش»!
في عبارة أخرى، اختارت أتيكا شوبيرت، مذيعة الـCNN التي حاورت شعبان، أن تستذكر الهجمة الكيماوية عن طريق… عدم استذكارها نهائياً، وعدم إحراج شعبان بأيّ سؤال عنها، وعدم إثارة الرابط (كما صارت الموضة الرائجة اليوم) بين إخفاقات سياسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما حول سوريا، واستفحال جرائم «داعش» وانتقال أخطارها إلى الجوار… مدهش، في جانب ثانٍ خاصّ، ومهني وأخلاقي أيضاً، أنّ شوبيرت (أندونيسية الأصل، وبنت العالم الثالث على نحو ما) اشتُهرت بتغطيات صحافية دراماتيكية، حول الذكرى الستين لإسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما؛ وكذلك محاكمات شوكو أساهارا، مهندس هجمة غاز السارين الإرهابية على طوكيو، سنة 1995؛ والتوتر النووي في شبه جزيرة كوريا، سنة 2006.
ولكن لماذا يعتب المرء على شوبيرت في هذا التقصير، إذا كان المواطن السوري علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس)، لم يكتفِ بتجاهل هذه الذكرى، فحسب؛ بل تفادى نهائياً أية إشارة إليها منذ وقوعها، ويتباكى اليوم على ويلات سنجار وقراقوش والموصل، بل ويترحم على أيام «جنكيز خان وهولاكو وبقية الطغاة قبلهما وبعدهما»، ممّن «كانوا على بدائيتهم ووحشيتهم أكثر إنسانية وأصدق إسلاماً من الطغاة الجدد في القرن الحادي والعشرين»؟ ثمّ، في مستوى آخر سوري بدوره، لماذا يُلام أدونيس إذا كانت جهة معارضة مثل «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي» قد تجاهلت الذكرى ـ حتى ساعة كتابة هذه السطور على الأقلّ، واعتماداً على موقع الهيئة الرسمي ـ ولم تنسَ، في المقابل، الترحيب بقرار مجلس الأمن الدولي 2170، «المتعلق بالجماعات الإرهابية المتطرفة في كل من سوريا والعراق»؟
انعدام الاكتراث، أو ندرته، أو قلّته، بصرف النظر عن النوازع الأعمق خلف كلّ مستوى؛ ليس جديداً على مأساة السوريين مع نظام لم يعد يأبه لرادع، أو يقيّده وازع، حتى حين تكون المجازر بين الأشدّ وحشية وبربرية. هنا استعادة، وجيزة، لنماذج من جرائم النظام، ابتداءً من كانون الثاني (يناير)، 2013، وحتى مجازر الغوطتين: مصرع 87 من طلاب جامعة حلب، و106 من أبناء حمص، بينهم نساء وأطفال قُتلوا حرقاً أو بالسلاح الأبيض، والعثور على 80 جثة في نهر قويق بحيّ بستان القصر في حلب؛ وفي شباط (فبراير)، مقتل 83 من المدنيين، بعضهم سقط جراء تفجير قرب مقرّ حزب البعث في دمشق؛ وفي نيسان (أبريل)، أكثر من 483، بينهم نساء وأطفال، في مجزرة «جديدة الفضل» التي ارتكبتها وحدات الحرس الجمهوري؛ وفي أيار (مايو)، إعدام قرابة 50 من السجناء في سجن حلب المركزي، ومقتل 145 رمياً بالرصاص في مجزرة شهدتها مدينة بانياس الساحلية؛ وفي حزيران (يونيو) أجهز الجيش النظامي على 191 مواطناً في مجزرة قرية «رسم النفل» في ريف حلب؛ وفي آب (أغسطس) أسفرت الهجمات الكيماوية على الغوطة عن أكثر من 1500 ضحية.
على صعيد مواقف قوّة كونية عظمى مثل الولايات المتحدة، تحيل ذكرى المجازر الكيماوية إلى ذلك الخطاب المخاتل، والمتحذلق، الذي اعتمده الرئيس الأمريكي في هذا الملفّ. كان النظام السوري قد استخدم الأسلحة الكيماوية مراراً، في مناطق سورية مختلفة، حين أصرّ أوباما على أنّ استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا ما يزال مسألة «تصوّر»، واحتمال «انطباعي» فقط، وليس واقعة ملموسة ومرئية، تستند على أدلة مادية قاطعة. الإدارة، استطراداً، لم تكن متأكدة، أو ليست متأكدة نهائياً وقطعياً، من أنّ النظام السوري قد تجاوز ذلك الخطّ الأحمر الشهير الذي رسمه سيّد البيت الأبيض. لهذا يصعب «تنظيم تحالف دولي» حول أمر «مُتصوَّر» فقط؛ و»لقد جرّبنا هذا من قبل، بالمناسبة، فلم يفلح على نحو سليم»، قال أوباما، في إشارة (صحيحة) إلى الخطأ الذي ارتكبه سلفه جورج بوش الابن في العراق.
هذا بالرغم من أنّ أوباما كان المعنيّ الأوّل بتداعيات ما وقع بعدئذ، وقبلئذ، من استخدام للأسلحة الكيماوية، لأنه كان صاحب الوعد الشهير بأنّ اللجوء إلى هذا السلاح سوف يغيّر قواعد «اللعبة»، وبالتالي سوف يستدعي خطوات أخرى تصعيدية من جانب واشنطن، ضدّ النظام السوري. وقبل شهرين، فقط، من وقوع مجازر الغوطتين، كان أوباما قد أعاد التأكيد على هذا الخطّ، ثمّ تابع طرائق الالتفاف على تبعاته (التي كان هو الذي ألزم نفسه بها!)، حين أكّد: «مهمتي هي أن أزن المصالح الفعلية الحقيقية والشرعية والإنسانية لأمننا القومي في سوريا، ولكن أن أزنها على أساس الخطّ الأساس الذي رسمته، وهو البحث عمّا هو أفضل لمصلحة أمن أمريكا والتأكد من أنني لا أتخذ قرارات مرتكزة على أمل وعلى صلاة، بل على تحليل صلب بمصطلح ما يجعلنا أكثر أماناً، ويكفل استقرار المنطقة».
وفي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية تقريراً بالغ الأهمية، حول مجازر الغوطة، وقّعه ثلاثة من خيرة أعضاء الفريق الذي يغطّي الشأن السوري: آدم إنتوس، نور ملص، وريما أبوشقرة. الخلاصة، التي تتكىء على شبكة من التفاصيل المترابطة والمتقاطعة، تفيد التالي: كان البنتاغون قد علم بالضربة مسبقاً، وبالتالي يصعب القول إنه لم يسكت على مذبحة كانت وشيكة، كفيلة بالانقلاب إلى صيغة إبادة جماعية؛ تماماً كما حدث بعدئذ، باعترافات مسؤولي البيت الأبيض أنفسهم، ابتداءً من أوباما نفسه، وانتهاءً بوزير خارجيته جون كيري، مروراً بمستشارته للأمن القومي سوزان رايس. الفارق أنّ ضجيج الإدارة وعجيجها لم يصطخب إلا خلال مراحل التلويح بضربة عسكرية ضدّ نظام الأسد، ثمّ خفت وخمد تماماً حين استدار أوباما على عقبيه، وصرف النظر.
أخيراً، كان الموقف الشعبي العامّ في أمريكا، وضمنه معظم التغطيات الإعلامية، يذكّر بمناخات ما بعد انكشاف مذبحة «ماي لاي»؛ التي نفّذتها قوات أمريكية نظامية في فييتنام، سنة 1968، ضدّ المدنيين العزل، وأسفرت عن مقتل قرابة 500 شيخ وامرأة وطفل، وارتكاب فظائع بربرية كالإعدام الجماعي والاغتصاب واللواط والتمثيل بالجثث. ذلك لأنّ عشرات الأصوات الأمريكية، التي ترتدي اليوم أقنعة الطهارة، وتحضّ على تجريد حملات صليبية ضدّ مَنْ تصنّفهم في خانة «الإرهاب»، عشوائياً وكيفما اتفق؛ هي نظائر الأصوات ذاتها التي لم تكتف بالسكوت عن مجرمي الحرب، منفّذي مجزرة «ماي لاي»، فحسب؛ بل حاولت تبريرها ومباركة أبطالها طيلة أسابيع، قبل انكشاف الحقائق على النحو المروّع المعروف.
وفي هذا السياق، تظلّ الدلالة الأهمّ هي الاجذاب الأمريكي، الجَمْعي والهستيري، الشعبي وليس الشعبوي فقط، نحو قراءة المذابح الجماعية بوصفها سيناريوهات لا مفرّ منها؛ أو، في خطّ تأويل آخر، أنها أقلّ ويلات من سواها. الأمر الذي يسمح بتساؤل مشروع: لماذا يتوجب أن يكون الأمريكي أوباما، أفضل من السوري… أدونيس؟
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي