عقل العويط : لا أريد أن أصير إلهاً
“أسافر، ليس لأتعرّف إلى الأشياء، بل لأتغرّب وأضيع. أسافر من أجل أن لا أعود أعرف نفسي” (أوجين يونسكو)
هل السَّفَر هربٌ من الذات، وتغريبٌ عنها، على قول يونسكو، أم هو حجٌّ إليها، على طريقة أن نقطة “الهرب” المظنونة هي نفسها النقطة التي تفضي إلى المكان “المهروب منه”؟
لستُ في وارد اللجوء إلى مفهوم كروية الأرض، ولا إلى المحاججة المنطقية في هذا الشأن. أريد فقط أن أسافر، على طريقة مَن لا ييأس من تحدّي “عقوبة” سيزيف، ولا من مراودة “طواحين” دون كيشوت.
لا أكفّ عن السَّفَر يومياً، وفي كلّ آن. ليس هناك مكانٌ محدّد أسافر إليه. كلّ الأمكنة لي. تلك التي أستطيع الذهاب إليها مشياً على الأقدام، أو بالحبر، أو بسواهما. أكثر الأسفار، هي تلك التي يأخذني رأسي إليها. بعضها أسافره بحواسي كلّها، وبانتباهي الكلّي، أما بعضها الآخر الكثيف فلا أعرف به، ولا أُدركه، بل أسافره بمعزلٍ عنّي.
هل يسافر المرء بمعزلٍ عن ذاته المدركة؟ وإلى أين يسافر؟
لو لم يكن المرء يسافر، في رأسه، كما يسافر الماء، أو الغيم، لكان ضاق ذرعاً بكلّ شيء؛ بوجوده الشخصي أولاً، ثمّ بالدنيا كلّها. ماءٌ غائم، يسافر باستمرار في خلايا الرأس، خارج الأمكنة، وخارج الوقت. كما لو أن السَّفَر يتحقّق في النوم، أو في اللاوعي. يحلو لي أن أشبّه هذا السَّفَر بالحلم، الذي لا قدرة للمرء أن يتذكّر منه إلاّ لحظةً من لحظاته فحسب، وتكويناً هيولياً من تكويناته. فلأُعطَ أن أقبض على السَّفَر – الحلم. فلأُعطَ أن أعي ما أسافر وما أحلم. فلأُعطَ أن أسافر ما لا يسافَر. فلأُعطَ أن أكتب ما لا يُكتَب. مثل هذا، يجعلني أعقل كامل عقلي. وأعيه. وأسجّل لغته وتعبيراته وصوره وأحاسيسه ومفهوماته وهلوساته.
أريد أن أسافر، كما لو أن شخصاً “آخر” هو الذي يسافر.
أريد أن أتعرّف إلى هذا الشخص “الآخر”.
أليس لهذا السبب ينام المرء؟ أليس لهذا السبب يحلم؟ أليس من أجل أن يسافر في نومه وينام نومه كلّه، ويحلمه كلّه، لكن – يا لليأس – من دون أن يتمكّن من أن يعقله كلّه، ويكتبه كلّه؟
ذلك، ليس رغبةً في الاستيلاء على هذا النوع من الإدراك الذي يقع تحت سلطة الغامض، بل رغبةً في كتابته.
إذا كان الله موجوداً، أليس الفارق بين الله والإنسان، هو هذا الفارق؟ فإذا كنتُ أريد ردم هذا الفارق، فلأصِر، والحال هذه، إلهاً. أي، فلأعِ نومي كلّه. ولأحلمه كلّه، واعياً، كاتباً، ما أنامه وما أحلمه.
لو كان لي أن أصير إلهاً، لكنتُ أردتُ أن أصيره لهذا السبب فقط: أن أصير أملك القدرة على وعي “معارف” رأسي المطلقة، وعلى مخض مياهها وهلوساتها وأحلامها وكوابيسها وشحناتها ومطامحها، باللغة، وتسجيل ذلك كلّه شعراً.
أريد أن أدرك هذا “الآخر”. أريد أن أصير إلهاً. نعم. لكن لغايةٍ محض شعرية.
* * *
عندي سببٌ ثانٍ، لأصير إلهاً. فأنا أريد أن أكون إلهاً، لأتدخّل “مباشرةً”، ولأضع حدّاً لهزيمة الشرط البشري الأحمق، الذي يدمّر نفسه بنفسه.
أكلّما تقدّم العقل في إدراك مواهبه وأسراره الخبيئة، وفي تشغيل هذه المواهب والأسرار، ازداد الإنسان إمعاناً في تدمير الجمال والحبّ والخير والسلام والحقّ والعدل والحرية؟
لو كان لي أن أصير إلهاً، لأردتُ أن أصيره لأُوقِف الشرّ الذي يتحكّم بالعقل البشري، ولأمنع هذه المظالم الكارثية التي نشهد الكثيف الكثيف منها في ديارنا اللبنانية والعربية. أريد أن أصير إلهاً. نعم. ليس لمنع العقل من “حرّية” تشغيل مواهبه وأسراره، بل فقط من أجل حماية ما بقي على وجه هذه الأرض من “حرّية”، ومن جمال وحبّ وخير وسلام وحق وعدل.
فلأصر إلهاً، والحال هذه، من أجل أن أجد حلّاً لهذه المعضلة.
* * *
هل الله يجب أن يفعل شيئاً كهذا؟ أم يجب أن يفعله الإنسان؟
بالنسبة إليَّ، ما كنتُ أُحبّ، ما كنتُ أريد، أن أصير إلهاً، لو أن في إمكاني، كشخصٍ بشري، أن أفعّل شحنات رأسي إلى غاياتها القصوى، بما يجعلها قادرةً على صنع “شيء ما” يوقف هذا الشرّ المهول.
لا أريد أن أصير إلهاً. أريد فقط أن يُرفَع هذا الكابوس عن بلادنا المشرقية هذه، من فلسطين إلى سوريا فالعراق، مروراً طبعاً بلبنان.
ولكي لا أُتَّهم بالأنانية والعنصرية، أريد، في الواقع، أن أصير إلهاً، لأرفع كابوس المظالم الكونية كلّها.
وعدٌ منّي أن أتدخّل فور أن أصير إلهاً. لم يعد مسموحاً ترك “الحرّية” على غارب الوحوش البشرية.
أكثيرٌ أن أطلب هذا الطلب؟ أكثير أن أحلم هذا الحلم؟ أكثير أن أسافر هذا السَّفَر؟
فلأسافر هذا السَّفَر كلّه، فلعلّني أصير إلهاً.
* * *
وأنتَ، يا الله، الذي يؤمن بكَ هؤلاء الناس، ها هنا، في بلادكَ الأولى، ألا “يجب” أن تفعل شيئاً ما من أجلهم؟
تدخَّلْ مباشرةً، وعلناً، وعلى الفور. افعلْ شيئاً كهذا مباشرةً، وعلناً، وعلى الفور، ما دمتُ، أنا، لا أستطيع أن أسافر هذا السَّفَر المدرَك كلّه، ولا أعرف أن أصل بالعقل إلى ما يفوتني من مدركات عقلي.
افعلْ شيئاً، يا الله، ما دمتَ إلهاً، وما دمتُ، أنا، لا أستطيع أن أصير إلهاً.
افعلْ شيئاً، لأنّي، حقّاً، لا أريد أن أصير إلهاً.
* * *
… وهذه الحروف التأليفية، الأنيقة، الحكيمة، الذكيّة، الخلاّقة، المتقنة، المحسوبة التكوين بالدقّة الكثيفة الإرهاف، أليست سَفَراً؟
وإذ أسفِّر كياني وكياناتكم فيها، أليس لأنّ صانعها، الفنّان السوري القدير منير شعراني (معرضه في “آرت أون 56”) مسافرٌ، هو الآخر، ربّما هرباً وتغريباً، على قول يونسكو، والأرجح بحثاً عن المطلق المقيم فيه أو… في “الآخر” الذي هو خارجه أو… إيّاه؟!
- شاعر وصحافي لبناني ، النص عن المُلحق