زملاء
عبد الرحمن مطر : تجربة الألم / الـكـتـابـة داخـل السـجن !
وجب عليّ أن أدفع ثمناً باهظاً من أجل ممارسة حقي في الكتابة، وأنا داخل السجن. كلما أمعنت في التمسك بالقلم أكثر واستخدامه سراً أو علناً، مكثت في السجن وقتاً أطول، لأن لساني أيضاً لم يكن ليدخل حلقي، فامرؤ مثلي لا أمان فيه إن أُفرج عنه، طالما أن السجن لم يكسر قلمه، ولم يخنق صوته!
لم يكن ممكناً لي أن أكتب في البدء. حصلت على دفتر وقلم بواسطة سجين قديم، أسدى إليَّ نصيحة في الليلة الأولى، لتحويلي من جهاز المخابرات الى السجن، ونحن نتهيأ للدخول الى الغرفة 3 من القسم السابع، بأن لا أحادث أحداً في السياسة، وألا أكتب هنا على الإطلاق. مع مرور الوقت خالفت النصيحة، ورميتها خلفي. كلما طالت أيامي ازدادت خبرتي بالمكان وطبيعته، فتمرست على تجاوز المحظور، بل كنتُ أسعى إلى ذلك بلا وجل.
روحي وثّابةٌ، فلم تنطفئ جمرة التمرد، على الرغم من أجواء المعتقل وحالة التوتر والقلق والكآبة والخوف: خوفٌ على أولادي، و خوف من مصير مجهول ينتظرني. كان دمي يحترق، أمسك طوال الوقت بالقلم بين أصابعي، أبرمه ..أعبث به، دون أن أجرؤ على كتابة حرف واحد.
ينام الـ110 سجيناً في الغرفة، بالتناوب، ودائماً ثمة من لا ينام في الليل. حمّام واحد فقط لكل هؤلاء، فلا يمكن لأحدنا أن يقضي حاجته براحة..أو بمتسع من الوقت. ذلك – كما فكرّت – لا يُمَكنني فعل شئ هناك: أعني الكتابة. في اليوم الثاني والعشرين اغتنمت هدوء وصمت المكان عقب صلاة الفجر، تشجعتُ وقد أخفيتُ ورقة صغيرة، وانسللتُ الى الحمّام، أسدلت الستارة، وقرفصتُ أكتب على ركبتي، مع خرير الماء الدالّ على وجود أحد هنا.
كتبتُ بضعة أسطر لا أذكر شيئاً منها الآن بعد هذه السنوات الطوال، لكنها كانت كافية لامتصاص حمم بركان الحروف الذي كان يغلي في داخلي. ولكني في اليوم ذاته تشاحنت مع شاب قال أنه يؤيد بقاء السلطة في حوزة آل الأسد، ويحب أن تكون بشرى هي الرئيس! خرجت عن طوري.. ولم أصمت، لأرى نفسي بعد ساعات قليلة فقط ، أنا وهو، معاقبان بالنقل الى أكثر الأقسام سوءاً.
هناك كتبت النص الشعري الأول، داخل الغرفة 4 من القسم الخامس، حيث عتاة المجرمين في قضايا القتل والمخدرات. كان تحدياً بالنسبة لي، حين اتكأتُ الى الجدار مع كأس الشاي، لأكتب ” رفاق السجن “. وطوال الأشهر اللاحقة التي تنقلت فيها من قسم لآخر، كان الحمام المكان الأكثر أماناً و أريحية، ووقت معقول للكتابة. قصاصات الورق لا تتجاوز حجم نصف الكفّ، والكتابة بخط ناعم وصغير، مستغلاً كل هامش أو فراغ في الورقة التي بين يدي وعيوني وأضلعي.
بعد أشهر سُمح لي بالخروج إلى المكتبة، شرطي جديد على الباب، ربما لا يعرف أن ثمة كتاباً رسمياً في لوحة إعلانات ” البلاغات ” تنبة لضرورة مراقبتي الدائمة، ومنع الزيارات. مضيت ضمن مجموعة أتخفى بينها. وعبر كوّة صغيرة ضيقة حصلت على ديوان أحمد رامي، احتفظتُ به لأسبوع كامل، أقرأه ودموعي تنساب بلطفٍ فرحاً بالكتاب والقراءة..وبالشعر الذي لم أكن أهوى فيه غناء أم كلثوم. لكأنني عثرتُ على كنزٍ جديد، فقد كان الحرمان والعذاب واللوعة، صورتي التي تنضح بها أشعار رامي.
الكتاب التالي هو الجزء الثاني من الأعمال الكاملة لأدونيس، طبعة دار العودة التي يمكن تمييزها ببساطة عن غيرها من الكتب، فكنت أشير إليها لموظف المكتبة من بعيد.
منتصف الليل أغارت علينا قوات التدخل السريع، بعد مقتل سجين بسبب مشاجرة دامية. كنت أدفن وجهي في الكتاب والضوء شحيح. خلال دقائق كنّا شبه عراة نزحف تحت المطر، وديوان أدونيس، يركله الشرطي بعيداً في المهجع. ومع خيوط الصباح الأولى كنتُ أكتبُ على الغلاف الداخلي الأخير: ” يباغتُ الجندُ النيامَ، كالتتار..كالطليان..”.
واصلت الكتابة سرّاً في الحمّام لعدّة أشهر، ثم أخذت أجمعها على صفحات، بعد أن حصلت على سبع أوراق كاملة، قدّمها لي أحد السجناء. فتدبرت أمر تهريبها كرسائل، عبر أحدهم، لأكتشف بمرور الوقت أنها كانت تصل الى البيت بعد مرورها الى جهاز المخابرات، فتوقفتُ عن الإرسال، حتى حُكمت بالسجن المؤبد..!
مضى عام حين وصلني أول كتاب من خارج السجن، كان رواية ” موبي ديك ” لـ هيرمان ملفل، أرسله لي صديق كاتب وصحافي شجاع، وكنتُ قبلها بأسبوع قد غامرتُ بإدخال كتابي الشعري ” أوراق المطر “، عبر شبّاك الزيارات مدسوساً بين الألبسة الداخلية، فوقع بين يدي ضابط شاب حديث التخرج، أدهشه أن أكون السجين المؤلف، فمرره لي شريطة أن يبقى لديه حتى الصباح. صار هذا الضابط نافذتي إلى العالم، يهرّب لي كتباً وجرائد، فيما أكتب له قصائد الغرام لصديقته.
تدبرتُ سطلاً صغيراً أُخبئ فيه كتبي وأوراقي، وهو مقعدي في الساحة وقت القراءة. ومع توفر كتب جديدة، تراجعت قراءتي للكتاب الوحيد الذي لازمني منذ اليوم الثالث للإعتقال: القرآن الكريم الذي ختمته أكثر من مئة مرّة. أما الجرائد، فغالبا ماكنت أحتفظ بها، وأعيرها للسجناء فتنام كل ليلة في غرفة للقراءة..إلى أن بدأت المواجهات مع ادارة السجن فصرتُ أعلّم السجناء حقوقهم، وألصق بمعجون الأسنان ورقات الجريدة على الحائط..إمعاناً في التمرد والتحدي.
صار لي سرير.. أخيراً نقلتُ فراشي من المستطيل المحاذي للحمامات، إلى صدر الغرفة. أضحى بيتي، مكتبتي وفضائي اللامحدود لأحلامي. كنت أجعل من بعض الثياب ستاراً يحجب بعضاً مني كي أكتب خفيةً. وشيئاً..فشيئاً لم يعد الحذر ملازماً لي، وطردتُ الخوف من داخلي..فما عدتُ أخاف أحداً أو شيئاً. صداقتي لزعماء القسم، منحتني فرصة كي أصنع هالةَ ” مثقف ” لنفسي. ما مكنني أن أتحدث باسم الجميع عن مطالباتنا، أمام الإدارة التي ترتاب من حضوري..ومعرفتي للحقوق والواجبات بشكل رئيس.
اغتنمتُ ذلك في الكتابة، فكنت أكتب مقالاً وأهرّبه، ثم يُنشر باسم مستعار، بمساعدة أصدقاء. نشرتُ في الصحافة المحلية والعربية، منها جريدة الوطن القطرية، التي نشرت عدّة مقالات..قبل أن تكتشف المخابرات ذلك..فحاصرتني.
شتاء 2011 اقتطفتُ حريتي عنوةً من سجاني، خرجتُ وقد هزمته مرات عديدة، على الرغم من التعذيب، العذاب والحرمان والألم، هزمت سجاني بالقراءة والكتابة المتواصلين، لما يزيد عن 500 كتاب. واستطعت خلالها كتابة رواية ” سراب بريّ” حول الاعتقال والسجن..تجربتي أنا، وجزءاً من روايةٍ أخرى حول المستبد ” الساطر”، وعشرات النصوص الشعرية، والقصصية، والمقالات. قمت بتهريبها ورقة ..ورقة. ولا زلت أحتفظ بجزء كبير منها على الرغم من احتراق المكتبة بقذيفة هاون، والاعتقالات اللاحقة.
الكتابة والقراءة، هي التي حققت لروحي سلامها.. توازناً في مهب الخوف والقلق، في أوقاتٍ وأمكنة صعبة ومرّة، مكنتني من اجتياز أقسى اختبارات الحياة: السجن!
أورينت نت