قد يكون من محاسن “داعش”، إن كان له محاسن، أنه مارس واقعياً ما يعتبره الإسلام، بألف العهد ولامه، من دون تزويق أو تأويل أو تلكؤ يمكن أن تفرضه مراعاة معايير العصر. زاد من محاسنه أنه لا يخشى في “إجرامه” لومة لائم، ولا يخجل من عرض أفعاله “الإسلامية” مصوّرةً على الـ”يوتيوب” وفي كل مكان. ليس الذبح لدى “داعش” كلمة تقال، بل فعل يُفعَل. وليس الجلد عقوبة قديمة ورسماً منسوخاً بحكم التقادم، إنه ممارسة عملية يفخر “الداعشيون” بها، ويفضلون أن تشهدها “طائفة من المؤمنين”. وكذا حال الرجم وقطع اليد واستحلال النساء وملك الأيمان وما إلى ذلك.
لا يهتمون بتزوير جواز سفر للإسلام (إسلامهم) كي يدخلوا به إلى عالم اليوم. إنهم يدخلون به كما هو في عقولهم. يدخلون به بكامل تفسخه وغرائبيته. لا يسترون رائحة تحلل تصوراتهم بعطور حديثة، ولا يلقون على جثث مفاهيمهم غلالات من لغة معاصرة، كما يفعل إسلاميون “معتدلون” يحافظون على اعتدالهم، حتى إذا آنسوا من نفوسهم قوة بدأوا في تحولهم “الداعشي”. ليس في قولي هذا محاكمة نيات أو مصادرة ظنية على المستقبل. من الطبيعي أن يكون في ذهن كل إسلامي “معتدل” انشداد إلى مثال أعلى يتمثل في التحول الذي شهدته الدعوة الإسلامية الأولى على يد الرسول محمد، من المرحلة المكية المهادنة إلى المرحلة المدنية التي بدأت فيها المواجهة، ثم إلى “الفتوحات”، وذلك تبعاً لمنسوب قوة الدعوة واشتداد عودها. لا يمثل الاعتدال (احترام الآخر) في ذهن الإسلام السياسي خياراً نهائياً. إنه بالأحرى لحظة اضطرارية تدوم ما دام الاضطرار إليها. ومن الطبيعي أن كل التطور الذي يشهده العالم اليوم إنما هو في نظر الإسلامي “المعتدل” انزياح عن “الحق” الذي جاء به الرسول محمد (القرآن) ومارسه (السنّة)، والعودة إلى “الحق” واجبة. لذلك يمكن القول إن في كل إسلام سياسي جنيناً لـ”داعش”.
القوة الفائضة التي يحوزها “داعش” شكلت الجسر الذي نقل إلينا حقيقة الإسلام السياسي. امتلاك القوة الكافية هو الشرط المناسب لظهور الإسلام السياسي في طوره “الداعشي”. كثيراً ما جرى تحليل انعكاس ظاهرة “داعش” على “الإسلام السياسي المعتدل” بالقول إن همجية “داعش” زادت من رصيد الإسلام السياسي المعتدل حيث بدا هذا الأخير “رحمة” أمام قسوة الأول وفظاعته. على طريق هذا التحليل، سارت السياسة الأميركية في مقاربتها “الربيع العربي”، وعليه تسير في مقاربة المسألة السورية اليوم. الحق أن “الداعشية” هي المقصد الموضوعي لكل إسلام سياسي، طالما أن الإسلام السياسي، كل إسلام سياسي، يقدس النصوص والسنّة التي تسوّغ الممارسات التي يقدم عليها “داعش” اليوم: الرجم والذبح واستحلال النساء واستعبادهن وكل ما تمنحه لهم “خلافة الله في الأرض” من صلاحيات. ظاهرة “داعش” اليوم ينبغي أن تضع كل من يأمل خيراً في الإسلام السياسي، ولا سيما في سوريا، أمام سؤال ثقيل: ما الخير في من يشكل “داعش” صورة تفتحه القصوى؟
لا شك أن كل سلطة مهما كانت (إسلامية أو غير إسلامية)، تنطوي على نزوع “داعشي”. لكن ليس كل سلطة تمتلك من المسوّغات ما يجعلها تتباهى بإجرامها على أنه التقوى والنموذج. بلغ النظام السوفياتي من القمع حدوداً قصوى في زمان عزّه وسطوته العالمية. وكان ناقدو السلطات السوفياتية يركزون على نزعة “تقديس النصوص” لدى السلطات. تقديس النصوص كان تهمة تهرب منها السلطات وتنكرها حتى لو مارستها. غير أن تقديس النصوص هو جوهر الإسلام السياسي. إيجاد أي رابط بين ممارسة سياسية ونص مقدس هو مدخل أكيد إلى الفاشية. هنا مكمن الخطورة. مثلاً، حين دخل الاتحاد السوفياتي في سياق التفكك جراء استراتيجيا غورباتشيوف في “البيريسترويكا” و”الغلاسنوست”، لم نشهد أي ردّ فعل جماهيري كبير. حتى حين جرى حل الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان يصل تعداد عضويته إلى 20 مليون عضو، لم تشهد موسكو تظاهرة واحدة. لنا أن نتخيل ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن الحزب الشيوعي السوفياتي كان حزباً يستند إلى نصوص دينية مقدسة.
كما كشفت ممارسات النظام “القومي” السوري، البذرة الفاشية في كل نظام قومي، يكشف “داعش” اليوم البذرة الفاشية في كل إسلام سياسي. ما يسمح للبذرة الفاشية بأن تنمو هنا وهناك، هو توفر القوة، عبر سنوات من احتكار تام للسلطة (النظام السوري)، أو عبر دعم هائل مستور حتى الآن (داعش).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.