سوريا ومجزرة شارلي إيبدو : ماذا قال علي مملوك للمسؤول الأميركي ؟
فلاديمير غلاسمان- ترجمة معن عاقل: لم تكد هوية وصورة منفذي الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو تنكشف، حتى اتجهت الأصابع نحو سورية ونظامها لتتهم دمشق بأنها حرَّكت من خلف الكواليس وحرضت الإرهابيين على اقتراف الجريمة. صدرت هذه الاتهامات عن سوريين ينتمون إلى اتجاهات مختلفة من المعارضة، وقد أتاحت لهم إقامتهم خارج بلدهم إمكانية التعبير عما يجول في عمق تفكيرهم دون أن يخشوا الانتقام المباشر. لم يغب عن بالهم أن القتلة من الإسلاميين ولم يراودهم شك بانتماء المجموعة المنفذة إلى الجماعة التي ادعوا الانتماء إليها. لكن هذا لم يغير شيئاً من قناعتهم.
ومع أنه لا توجد أدلة ملموسة تدعم هذه القناعة، إلا أن عدداً من مواطنيهم شاطروهم هذا الاعتقاد، فهم يعرفون نظامهم منذ زمن طويل، ولا يزالون منذ أربع سنوات يكتشفون كل يوم ما يمكن أن يفعله هذا النظام وإلى أي مدى هو مستعد للذهاب في سبيل الحفاظ على سلطته وعلى الموارد والامتيازات المتعلقة بها.
على أية حال، لا أحد ملزم بتصديقهم وتأييد موقفهم، لكن يمكن الاستماع إلى ما يقولونه لدعم شكوكهم.
لا يسعهم أن يمنعوا أنفسهم في مثل هذه الظروف من مقاربة حدث آخر أقل دراماتيكية لحسن الحظ – إحراق العديد من السفارات الغربية في دمشق-وذلك منذ ما يقارب التسع سنوات بسبب الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد. والمفارقة هي أن سوريا التي كانت تريد تمرير إدعائها “بالعلمانية” كدليل على الحداثة، كانت البلد العربي الوحيد آنذاك الذي وصل فيه التعبير عن الغضب إلى أعمال من هذا النوع.
لكن سرعان ما اتضح أن أجهزة استخبارات النظام السوري هي التي نظمت وراقبت بصرامة هذه المظاهرة. إذ كان النظام ينوي الاستفادة من الاستياء المشروع الحاصل في المجتمعات الإسلامية ليوجه رسالة إلى العالم عموماً وإلى فرنسا جاك شيراك بشكل خاص .
في نهاية كانون الثاني عام 2006، أخطرت سوريا بعض الدول رسمياً “بمعاقبة” أولئك الذين انتهكوا المشاعر الدينية للمسلمين ممن رسموا النبي أو نشروا الرسومات الكاريكاتورية عنه. كان المقصود بذلك الدنماركيين – إذ نُشرت الرسوم أولاً في 30 أيلول عام 2005 في صحيفة بولاند بوستن -والنرويجيين – أعادت نشرها ماغازينت في طبعة سرية بعد نحو ثلاثة أشهر في 10 كانون الثاني عام 2006 – والفرنسيين – فقد نشرتها فرانس سوار وشارلي إيبدو، بدورهما، في الأول والثامن من شباط على التوالي، وذلك لإظهار تضامنهما وللتأكيد على حقهما بحرية التعبير.
في الرابع من شباط عام 2006، احتشد مئات المحتجين في وقت متأخر من الصباح أمام سفارة الدانمارك في حي أبو رمانة بدمشق، وذلك تلبية لدعوة إلى التظاهر. وبعد أن شتموا رسامي الكاريكاتير، هاجموا المبنى بالحجارة، وحطموا نوافذه الزجاجية وأضرموا النار فيه، وخربوا بالمثل السفارة السويدية الواقعة في المبنى ذاته، ثم انتقلوا إلى السفارة النرويجية في حي المزة. رشقوها بالحصى لعدم قدرتهم على الاقتراب منها، وتوجهوا مساءً إلى مقر البعثة الدبلوماسية الفرنسية في العفيف في حي الجسر الأبيض وحاولوا اقتحامها.
ولم يلبث الدمشقيون أن فهموا ما يجري إثر أحداث ذلك النهار.
– كانت المجموعة التي دعت للتجمع من أجل “الدفاع عن شرف النبي” مجهولة تماماً. وبقيت مجهولة ولم يسمع أحد ذكراً لها بعد ذلك، ولم يعرف السوريون قط من دعاهم وما غاياته ولا إلى أين كان ينوي أن يقود أولئك الذين استجابوا لندائه.
– لم تتضمن الملصقات المعلقة على جدران المساجد الخارجية والداعية للتجمع أمام السفارة الدانماركية اسم المطبعة التي طبعتها. هذا “التفصيل” ليس تافهاً. إذ كان يمكن اقتراح ذلك بمبادرات فردية من أئمة راديكاليين وخلافاً للقانون. لكن عند النظر إلى مجريات ذلك اليوم، يتضح في النهاية أن هناك ما يشير إلى وجود تلاعب.
– تجمع مئات من الأشخاص أمام السفارة الدنماركية واتضح أنهم لم يكونوا من سكان الحي. بعضهم جاء من مدن دوما وحرستا المجاورتين في حافلات تعود، حسب شائعة انتشرت فيما بعد، إلى شركة نقل يملكها رامي مخلوف، ولم يستطيعوا أن يخفوا انتماءهم للسلفية بلحاهم الكثة و”قمصانهم القصيرة” التي تكشف عن سيقانهم. وبعضهم الآخر كان يشبه أعضاء الميليشيا الشعبية لحزب البعث. وهؤلاء الأخيرون كانوا يرتدون قمصاناً من الجلد الاصطناعي أو سترات داكنة يفترض أن تجعلهم مجهولين وتخفي انتمائهم للمخابرات.
– لم يكن بإمكان الحشد أن يتفادى الشرطة وأجهزة المخابرات، لأن رجال الشرطة وعناصر الأمن منتشرون أمام السفارات بشكل دائم وخاصة السفارات العديدة الموجودة في الحي. وبما أن هؤلاء لم يتدخلوا على الفور لتفريق المظاهرة، فذلك لأن من يعنيه الأمر نظمها، ولأن السلطات كانت مستعدة لتغطية كل ما يمكن أن يجري فيها. وأيضاً بحسب العديد من الشهادات، شارك رجال بالزي الرسمي في رشق الحجارة وكان البهلوان الذي تسلق واجهة المبنى لينزع العلم و يحرقه موظفاً رسمياً.
– بعد أن أنجز المتظاهرون مهمتهم، اتجهوا في مسيرة نحو حي المزة ليهاجموا السفارة النرويجية, لم يحاول أحد ردعهم أو إعاقة طريقهم. واللافت أيضاً أن الوقت سنح لهم للحصول على الأحجار التي يحتاجونها من موقع بناء نفق تحت الأرض أثناء عبورهم ساحة الأمويين. وأكثر من ذلك لم يتدخل أحد: لا المخابرات المكلفة بحراسة المبنى الرسمي للإذاعة والتلفزيون الواقع على طرف الساحة، ولا الحراس المنتشرين أمام وزارة الدفاع ومقر الأركان على الطرف الآخر للساحة.
– ولأن رجال الشرطة شكلوا طوقاً على مسافة من السفارة النرويجية، لم يستطع المحتجون القيام بشيء إلا رشقها من بعيد. ولأن اللعبة بلا فائدة، استجابوا لتعليمات جديدة وساروا نحو السفارة الفرنسية. اجتازوا دون إزعاج ودون أن يعترضهم أحد أحياء حساسة جداً في المالكي والروضة حيث توجد سفارات – ومنها سفارة الولايات المتحدة الأميركية – تجاور مكاتب كبار المسؤولين، وبشكل خاص مكاتب بشار الأسد.
– لم يتغير حجم المسيرة التي وصلت إلى هدفها الجديد. ومع أن الرسوم الكاريكاتورية عن النبي صدمت القسم الأعظم من أبناء الطائفة السنية بدمشق، ويدل على ذلك مشاركتهم الفعالة في مقاطعة البضائع الغذائية الدانماركية، إلا أنهم امتنعوا عن الانضمام لما بدا لهم أومني، أي كائن مجهول الهوية. فهي ليست مظاهرة ولا مسيرة احتجاجية، لأنه لم يجر تفريقها على الفور ولم يعتقل المشاركين فيها. لم تكن أكثر من مسيرة، مسيرة رسمية، لأن المشاركين في هذا العمل جرت دعوتهم وجرى نقلهم وتجمعوا غالباً مكرهين، وهم يمرحون ويضحكون في الطرق المجاورة عند كل تقاطع.
– بعد أن رمى المتظاهرون حجارتهم الأخيرة على السفارة وحاولوا إضرام النار فيها، تسلقوا سورها وحاولوا اقتحامها. جرى ردهم عنها بصعوبة قبل أن تقرر قوات حفظ النظام التدخل لردع المهاجمين، بعد أن أنذرتهم في النهاية وزارة الخارجية السورية التي بقيت لفترة طويلة تتجاهل المكالمات الهاتفية للسفارة.
– أتاح استجواب بعضهم الكشف عن الجهاز الاستخباراتي الذي ينتمون إليه، كما كشف عن شخصية عامة وعضو في العائلة الرئاسية تكفل بتنفيذ هذه المهمة فائقة الخصوصية.
– سعى النظام في اليوم التالي لتحوير التجربة. حرص على التحقق من أن رسالة أحداث الأمس فُهمت جيداً. كان يختصرها بثلاث جمل: المسلمون بشكل عام والسلفيون بشكل خاص هم أشخاص خطرون وإرهابيون محتملون؛ النظام بحكم موقعه هو وحده القادر على التعامل معهم لمصلحته ولفائدة أصدقائه؛ وبالتالي من الأفضل التحدث معه، وعلاقات المنفعة المتبادلة أجدى من مقاطعته. لذلك دعت ملصقات جديدة على أبواب بعض جوامع حي الشعلان”المسلمين المهانين” إلى مظاهرة جديدة، هذه المرة موجهة ضد سفارة فرنسا وحسب.
– على الفور استنفرت الأجهزة الأمنية ودب الحماس فيها. تظاهرت أن التهديد حقيقي وأوفدت عدداً كبيراً من الرجال بحيث يخال للناظر من فوق أن الشارع رصف بالخوذ. ولو أن بعض المتظاهرين أرادوا الاستجابة لهذه الدعوة، لما استطاعوا على أية حال الاقتراب من المكان، خاصة أن الدعوة لم تخصص لتكرار السيناريو السابق وإنما فقط للتأكد أن الدرس استوعب وأن الخوف فعل فعله.
جاءت هذه المسخرة على خلفية التوتر بين فرنسا وسوريا، الناجم عن الخلاف بين البلدين حول التجديد للرئيس ايميل لحود الذي أنهى ولايته الرئاسية، ويحظر الدستور اللبناني عليه الترشح من جديد.
– في الثاني من أيلول عام 2004 تبنى مجلس الأمن بمبادرة من باريس وواشنطن القرار 1559 الذي يلزم القوات الأجنبية بمغادرة لبنان ويطالب بحل الميليشيا، ويحذر دمشق من التدخل في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
– في 14 شباط عام 2005، اغتيل رفيق الحريري وخمسة عشر شخصاً آخرين في هجوم بسيارة مفخخة في بيروت.
– على الفور علقت فرنسا كل محادثاتها السياسية مع النظام السوري، لكنها احتفظت بالإجمال بعلاقاتها الثقافية.
– أكمل الجيش السوري مجبراً و مكرهاً الانسحاب المخزي لقواته العسكرية في لبنان في 26 شباط 2005، واحتفظ فيه طبعاً بكل أجهزته الأمنية وشبكاتها.
عملية شارلي إيبدو يوم الأربعاء 7 كانون الثاني 2015 سُجلت هي أيضاً على خلفية توتر مستمر بين فرنسا وسوريا.
– التهديد “بتدابير ثأرية” الذي صاغه وليد المعلم وزير الخارجية السوري بتاريخ 9 تشرين الأول 2011 لم يمنع باريس من إعلان دعمها في 10 تشرين الأول للمجلس الوطني السوري الذي تأسس في اسطنبول قبل ذلك بثمانية أيام.
– أججت فرنسا حنق المسؤولين السوريين حين قررت إغلاق سفارتها بدمشق في 2 آذار عام 2012
– وفاقمت حالته باعترافها في 13 نوفمبر عام 2012 بائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية الذي تأسس في الدوحة في الحادي عشر من الشهر ذاته كممثل شرعي وحيد للشعب السوري.
– كما أنها اعتمدت المعارض منذر ماخوس كسفير للائتلاف في باريس، ثم أكدت تسليم أسلحة لفصائل موثوقة من المعارضة.
– في مداخلة على الفرانس أنتر، الاثنين 5 كانون الثاني 2015، أعرب رئيس الجمهورية في النهاية عن “أسفه لأننا لم نتدخل عند استخدام السلاح الكيميائي في سوريا في آب 2013”. وربط ظهور وتطور الدولة الإسلامية بهذه الحالة، واستبعد التحالف مع بشار الأسد لمكافحة المنظمة الإرهابية.
وطبعاً، لم يستطع السوريون الذين ينسبون قتل رسامي الكاريكاتير في صحيفة شارلي إيبدو إلى النظام القابع في بلدهم، لم يستطيعوا تقديم أي دليل على ذلك.
لكنهم يروجون أن استخبارات بلدهم اعتادت أن تهدد حتى الدول التي لا تتفق معها عبر مرتزقة مأجورين وأفراد ومنظمات. ومنذ بداية الأحداث ضاعفوا التحذيرات تجاه الدول الغربية التي أعلنت دعمها للثوار.
من بين هؤلاء المرتزقة، يشيرون إلى مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون. منذ شهر تشرين الأول 2011، كان يهدد الولايات المتحدة وأوربا بعمليات انتحارية على أراضيهم، وهو أمر صاعق من طرف ديني مسؤول، وقبل بضعة أيام من الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو، أكد أن خلايا نائمة منتشرة في أنحاء أوربا وأنها ستنتقل إلى الفعل إذا هاجم الغرب النظام السوري.
إذاً، وبحسب مراقب مطلع، “مثل هذه العبارات، بالنسبة لمن يعرف طبيعة النظام السوري، لا يمكن أن تصدر دون توافق عليها الأجهزة الأمنية أو توحي بها”.
يروجون أيضاً أنه في عهد حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد، لم تتردد تلك الأجهزة ذاتها في الإنتقال إلى الفعل، متخفية بالطبع وراء وكلاء أو عبر التحكم بمجموعات إرهابية. هكذا رعت هجمات في العديد من البلدان الغربية… ومنها فرنسا. ونفذت في كل مكان تقريباً عمليات تصفية لأولئك الذين اعترضوا مصالحها أو مشاريعها في بلدانهم. ويدعمون تأكيداتهم بالشواهد المختارة التالية:
– محاولة اغتيال السياسي اللبناني ريمون إدة (١٩٧٦)
– اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط (١٩٧٧)
– اغتيال رئيس نقابة الصحفيين اللبنانيين رياض طه (١٩٨٠)
– اغتيال اللبنانيين سليم اللوزي وموسى شعيب وعلي الزين وعدنان سينو.
– اختطاف ملحق السفارة التونسية في بيروت فرح بلعبدي
– اغتيال مفتي الجمهورية اللبنانية حسان خالد (١٩٨٩)
– محاولة اغتيال رئيس وزراء الأردن مضر بدران
– محاولة الهجوم على طائرة تابعة لشركة طيران اسرائيلية عند مغادرتها لندن (١٩٨٦)
– اغتيال صلاح البيطار أحد مؤسسي حزب البعث في باريس (١٩٨٠)
– الهجوم على مقر مجلة الوطن العربي في باريس (١٩٨٢)
– التحضير للهجوم بمتفجرة على جمعية للمجتمع المدني في الكويت (١٩٨٠)
– قنبلة بلاستيكية في مطعم سوري بدبي (١٩٨١)
– اغتيال بنان علي الطنطاوي في ألمانيا (١٩٨١) وهي زوجة عصام العطار المراقب العام السابق لجماعة الأخون المسلمين في سوريا
– إرسال أسلحة إلى خلايا إرهابية في تركيا (١٩٨١)
– تصفية طالب سوري في يوغسلافيا (١٩٨١)
– تصفية داعية اسلامي في اسبانيا (١٩٨١)
ويوردون أن سلسلة هجمات وقعت في لبنان منذ وصول بشار الأسد إلى السلطة، وأنها قتلت وجرحت، قبل وبعد اغتيال الحريري، نحو عشرة من المفكرين المعروفين والمناضلين السياسيين: سمير القصير، جورج حاوي، جبران تويني، بيير الجميّل، وليد عيدو… مروان حمادة، الياس المر، مي شدياق… وجميعهم كانوا معروفين بمعارضتهم الحازمة للوجود السوري في بلدهم وتدخله في شؤونه.
لا تعوزهم الأمثلة المميزة المتعلقة بتوجيه تلك الأجهزة للجماعات الإسلامية الإرهابية، لكنهم يكتفون في هذا الإطار بالإشارة إلى عبارات أدلى بها اللواء علي مملوك مدير الاستخبارات العامة أمام مسؤول أمريكي رفيع خلال زيارته لدمشق. وحتى يقنع مملوك المسؤول الأمريكي بأن من مصلحة الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى التعاون مع بلده لمكافحة المنظمات الإرهابية، شرح له أن المخابرات لا تسعى لمهاجمة الجماعات التي تكتشفها مباشرة ولا تقتل أعضاءها. وإنما على العكس من ذلك، ترافقها وتتغلغل فيها، وتنقض عليها في اللحظة المناسبة… بعد أن تكون قد استخدمتها، كما في حالة فتح الإسلام وشاكر العبسي بالنسبة للجماعات المسلحة، أو مثل الشيخ الحلبي أبو القعقاع بالنسبة للأفراد.
لا أحد مضطر لسماع ما يقوله أولئك السوريون.
لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذه العناصر التي لا تستغرق الموضوع، تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار في الظروف الراهنة
نقلا عن كلنا شركاء