زملاء

عبير فاطوم : عَالم مِنْ أَجليْ

Photography:

جثة مارغريت:

قضي الأمر. ووُضعتُ في قائمة المجانين. وتم تصنيف حالتي وانتهى كل شيء. يحيط بي أطباء من أقسى البشر. يحلّلون كل فعل أقوم به على هو أهم. وحتى وإن كان ما أقوم به طبيعي وحتى لو فعلوه قبلي سيُفسر على أساس أنني أفعلها لأني فقدت عقلي. حتى إنهم إذا لاحظوا أن غريزتي الجنسية تحركت. يسخرون مني. يعتبرونني حيوان لا أكثر مع أنهم مستعدون في كل لحظة ليمارسوا كل الطقوس بطريقة حيوانية.

كنت أستطيع أن أرى ركناً صغيراً من السماء من خلال نافذة صغيرة في مسكني وكان هناك مريضاً آخر لم أتحدث مع أحد سواه هنا. كان يعتقد أن هذه هي مساحة السماء فقط بحجم النافذه.

مع أنه وعند خروجنا للباحة حاولت إقناعه أن مافي الأعلى في هذه الباحة سماء أيضاً. كما وأنه كان يظنّ أن من في هذا المَصَح هم الناس المتواجدون في هذا العالم فقط ولايوجد أحد سواهم على الإطلاق أي أن العالم محصور هنا فحسب. هذه الفكرة تحديداً لم أحاول أن أُغيّرها له لأن من في الخارج يعيشون في مصحِّ أكبر دون حراس وربما يتناولون الدواء نفسه الذي يعطوننا إياه لكن بإرادتهم ودون رقيب.

تنتابني رغبة ملّحة بأن أقوم بإيذاء أحد ما. منذ مدة وأنا أتهرب من هذا. ثم لم أقم إلا بإيذاء نفسي. ولا أعدُني أن أتوقف عن هذا. لقد أحببتُ هذا المكان لأنه يتيح لي على الأقل وقتاً كافياً لأتأمل الأحداث العادية التي مررتُ وأمرّ بها. علىَّ أن أقلق بشأنها أيضاً. وأن أبدأ بطرح أسئلة حيالها. أنا بأمسّ الحاجة للحصول على فرصة لرؤيتها من جديد.

قبل إحضاري إلى هنا كانت تجتاحني أيضاً حاجة ملّحة أن يغيب كل الناس من حولي. أريد أن أشعر بأهميتهم. لم أعد أشعر. لم يعد لدي وقت لكي أشعر. علىّ القيام بأشياء تُجدي نفعاً. لقد شعرتُ كثيراً ولم أخرج إلا بهذا الكم من الهذيان. سأتخلص منه هنا. ليس لدي مكان آخر. كما وأنني قبل مجيئي كنتُ أُفكر لماذا لم يعد يهمني ولم يعد يؤثر بي رؤية شخص ميت لمَ لم أعد أخاف ما الذي عوّدني على رؤية الجثث؟ مع أني لم أفقد أحداً حتى أَتعوّد.أذكر جيداً جثة رجل مقتول مررت بجانبها وكانها لعبة بلاستيكية ولم أتأثر.

لكني مثلاً عندما قرأتُ قصة غادة الكاميليا. أصبحت جثة مارغريت تطاردني حتى اللحظة. تعلّمت رسم دوائر كبيرة بيدي على الأرض هنا وبعد انتهائي من الرسم صرتُ أجيد الخروج منها. بقيت الدوائر التي يرسمها غيري علىّ أن أقطعها دون أن تمسّها قدمي. علىّ أن أنجح قبل أن أخرج.

في كل صباح أحسُّ أن هذه الشمس تُشرق عنوةً عن الجميع غير آبهة بمن يريد أن يبقى في العتمة أو في الظل. كأنها تقول لهم. أنا من واجبي أن أشرق بالتساوي عليكم ومن يريد أن يدفن نفسه فليفعل. سيتسلل بعضاً مني اليه. كمحاولة أخيرة لطرد عفونةٍ داخله. وبعدها فليذهب إلى الجحيم. فغيره أحقّ منه بالنور المتبقي لدي. تُرى هل أستحق أنا هذا النور؟

أجلس في. العتمة وأفكر. وما إن يشعل أحدهم الضوء. حتى انكمش خوفاً من أن يعلم بما أفكر. علّمت كل أفكاري أن تعود إلىّ عند سماع أي صوت من الخارج. أفتح فمي فتدخل دون جهدٍ وحدها إلى داخلي. وتجلس دون ضجة. وعند اختفاء الصوت. تعود لتخرج وحدها بالترتيب. لأن التفكير ممنوع أيضاً هنا كما في الخارج.

هذا المريض الذي تحدثت لكم عنه تمكن من الهرب من المَصَحِّ نهاراً ثم عاد في الليل بات عندي. كان خائفاً جداً. كان يرتجف. لا أدري مالذي رآهُ خارج هذا المكان.

روحي تستريح:

منذ دخلت إلى هذا المَصَح قمتُ بالتخلي عن كل افكاري الثابتة تحديداً والتي بنيتُ عليها نصف حياتي. علىّ أن أعطي لتجربتي هذه هنا حقها بالكامل. مرت بي لحظات في هذا المكان العظيم كنت سعيداً سعادة كاملة حُرِمت منها كل الوجوه التي في الخارج وحتى هنا في الداخل. كان دائماً مايشغل بالي سابقا وقبل دخولي هي أحلام المجانين بماذا يحلمون. وعندما أتيت إلى هنا أقسم أن أحلامي أصبحت مكتملة كل الإكتمال.

 

أريد أن أسأل سؤالاً واحداً فقط هل عقلي يعرف اشياءاً في الحياة ويخفيها عني؟ إنه يعمل جيداً وأنا نائم يُريني ما أودُّ رؤيته في الأحلام ولكن ما إن أصحو حتى أنسى كل ما رأيته ولكنني متأكد أني رأيت أشياء مهمة وخطيرة لا يمكن لي أن أكتب عنها. ولا حتى أن أرسمها. لايهمني من يعيش حالات الاكتئاب. أنا سعيد يجب أن لا أضيع فرصة وجودي هنا. علىّ أن أكون صادقاً مع نفسي وأن لا أدّعي كرهي لوجودي في الحياة فأنا أحبها.

 

بدأتُ فعلاً بتصديق فكرةَ أني أعيشُ في حلم أحدهم. أحسّ أنّ هناك عينان كبيرتان تتبعاني. ولا أستطيع أن أراهما. أرتكبُ افعالاً كنتُ قد منعتُ نفسي عنها في مَشَاهد مشابهه. مالذي حل بي. هل جننت حقا؟ فَلْيكن. ولكن الذي وضعني في حلمه يلعب بي. يجعلني أتفوّه بحماقات وأرتكب أفعالاً متناقضة. لو أني أراه لكي أطلب منه أن يخبرني فقط بماذا أحلم. ثم فليعبث بي كما يشاء. . سأحاول أن أتحكم بردة فعلي تجاه أي شيء سيحدث لي. هذا ما يمكنني فعله. هذا ما أملك. لأنه سيحدث بكل الاحوال.

والآن بدأ الليل يهبط والظلام يتكاثف. كل شيء جاهز علىّ أن أنام فقط. أن أكون جاهزاً لأبدأ بالحلم. ولن أحاول إنقاذي من أية خطورة ستحدث لي في حلمي كالعادة. سأعتبر نفسي بطلاً في أحد الأفلام التي شاهدتها والتي بُحَّ صوتي وأنا أصرخ باسم البطل لكي يحذر خطراً يحيط به ولم يسمعني. لقد وضعتُ آلة تسجيل لصوتي ربما أتحدث عمّا أراه في حلمي الآن واستفيد.

لقد نمت نعم. الآن أنا نائم وأحلم. حسناً لن أتدخل في حلمي فأفسدُ كل شيء وأستيقظ. سوف أتأكد فقط أني لستُ ميتاً سأقوم بتحريك قدمي اليسرى. إنها ثقيلة لكنها تتحرك ذلك هو المخدر الذي له علاقة بالنوم. جيد انا حيٌّ فلأُكملْ.

 

أرى الآن شخصاً يشبهني إنه أنا لكنه ضبابي. لا إنه كالزئبق لايمكن أن يُمسَكْ. سأتبعه لقد دخل أو التصق بجسد رجل أعرفه. نعم رجل. لكن هذا الرجل أخرس لايتكلم. أعتقد أنها روحي كانت تَوَدّ أن تستريح قليلاً وتتوقف عن الكلام. لا بدَّّ لها أن تعود إلىّ. عرفتُ الآن لماذا كنتُ أُعاني حتى أعود للنطق عندما استيقظ.

كان هذا هو الشريط الذي تركه قبل أن يموت يبدو أنه قد ضغط زر التسجيل قبل أن ينام بكثير. لقد مات دون أن يعلم.

لعبة الأسئلة :

ثمّة عذوبة أشعر بها عندما أعاني. إن نفسي متخمة بالوجع. أتذكر ذلك اليوم الذي مشيتُ فيه لتسع ساعات وأنا لا أعرف إلى أين أذهب. ويحدث أن الإنسان عندما يكون في حالة كهذه ينسجم الطقس مع تشرّده فتمطر. وتهب رياح عاتية ليكتمل المشهد.كان ظلي قصيراً يومها مع أني بقامة تبلغ المائة والثمانين سانت. عندما أبرد وأخاف أنكمش فأقصر. لا لا أعتقد أن ذلك هو سبب قصر قامتي يومها. كنتُ خائفاً نعم وكانت خطاي ثقيلة مغروزة بالوحل لذلك كان ظلي قصيراً. بعد أن استأجرتُ غرفة مضحكة تكادُ تكون بطولٍ أقصر مني كنت أنام بشكل أتكوّر فيه على نفسي ليتسع المكان لجسدي. ما أكذبني!

كانت غرفة حقيرة لكن ليس لهذه الدرجة. أكره عندما انسجم بشكل كبير وأبدأ الحديث عن معاناتي السابقة فأُبالغ بالوصف ولكني أتلذذ بذلك. لا أدري لماذا أنكأ جراحي الآن. كنت أظن في تلك الأيام أنه لو سنحت لي الفرصة لأجمع حشداً كبيراً من الناس وأتكلم لمدة نصف ساعة فقط يذرفون الدموع تأثُراً بكلامي الذي عشعش داخل ضمائرهم فاقتنعوا بأنهم مُنحطين مثيرون للشفقة.

لم أجتمع إلا بشخصين أو ثلاث في تلك المدة بشكل متقطع فتراهم يتركوني باكراً لأنهم يملّون من ثرثرتي. كنت فقيراً بثياب رثّة ربما لهذا السبب لم يكترثوا لي وأقوالي. ما أقبح الفقر والفقير معاً. كنتُ أمشي في الشارع بقلق شديد وأنا أنظر للناس وأنا متأكد أنهم يتحدثون عني. وينتقدون مظهري. ربما لم أشغل بال ذبابة حتى في تلك الأيام ولكن لأني فقير فلم أكن أتمتع بثقة بالنفس. لايحق لي أن أحيا حياة خاصة. ومهما فعلت سأبقى مكشوفاً أمام الجميع فلايوجد في جيبي ما يتستّر علىّ ويساهم في غضِّ النظر عن تصرفاتي. ما السبب وراء كتابة روايات عن فتاة غنية قد وقعت في حب رجل فقير.

مع شرط أن يمتلك كتباً بأوراق صفراء ومكتبة خشبية صنع يديه. يسكن في شارع لا يحوي إلا المزاريب والحفر. كم أصبح مقرفاً هذا الوصف الذي قصد به كاتبه أن الحب شيئاً آخر. وأن الرجل هذا عميق ساحر من حيث لا ندري. لقد تعرضت لإهانات لاتحتمل كان علىّ أن أردّ عليهم جميعاً أن أقتل نفسي أمامهم فانتقم. يا إلهي أريد أن أنام لا أستطيع التوقف عن التفكير لقد عددتُ حتى رقم أربعة آلاف ولم أنم.

حسناً سألعبُ لعبة الأسئلة ريثما أغفو:

– هل تعتقد أنك منسجم مع نفسك؟ نعم أستطيع أن أفهم وأسمع ما أقوله حتى في مكان يعجُّ بالأصوات.

– وما الذي يجعلك تطيل البقاء في غرفتك؟ أحوم حول الكرسي والطاولة أفتح وأغلق كتب أمامي ثم أقرر أن أخرج لأني لم أستطع أن أكمل كتاب أو أخرج بفكرة. أحياناً أخاف فأخرج. ممَّ تخاف. من كتاب قرأته.

أخاف من كافكا واستمر في قرائته وأخاف ما أراد قوله فان جوخ في لوحاته وأطيل النظر إليها. أنا أخافني حين أتوقف عند سطر أو لوحة فأخرج.

لماذا تفضل البقاء في الظلام؟ كي أصنع شخوصاً أحادثها كما أنت. دون أن أرى علامات الاستفهام والنفور في وجه من أخبره عني. فامتنع عن الإجابة. انظر كم اتفقنا أنا وانت. الآن جاء دوري. هل أعجبك ماقلته عن نفسي؟

لا لم يعجبني لانك تجيب بطريقة تدل على أنك غير مستعد للنقاش بما قد بُحتَ به. نعم هذا صحيح أردتُ القولَ وحسب. أنت دائماً تستحضرني لتملي علىّ مابداخلك ثم تفتح الستائر لأختفي دون أن تراني. ذلك صحيح حسناً اسمع لديّ أناس كثيرون يوّدون أن أسمعهم . أنا مستمع جيد ولكني لا أستطيع أن أبوح به أمامهم ليسوا كما أحببت أن يكونوا ولن يكونوا.

دعني استطرد أمامك لديّ الكثير لأقوله. لاتذهب انتظر!

وحشة الاماكن :

كان لديّ شعور قوي داخلي أن هذا العالم موجود من أجلي فقط . وعندما أموت سيختفي كله بمن فيه. لكني لم أنجح تماماً في إيصال فكرتي القديمة هذه للناس كالعادة فبدت مضحكة. قررت من يومها أن أحتفظ بالأفكار العظيمة التي تشبه هذه الفكرة لنفسي. لأنه ومن وجهة نظري أن الكلام الذي أفشل في التعبير عنه أو أُبقيه داخلي هو الأصدق. هو الأعمق. هو الأقل إضحاكاً إن صح التعبير.

وكل فكرة جديدة تصبح في حوزتي أعتني بها بشكل كبير وأُنظف لها مكاناً خاصاً في رأسي وأتصرف بتعالٍ وكأني أملك كنزاً عظيماً. ولكن ما إن يحين موعد تلك اللحظة التي ستقابل فيها فكرتي عقل الآخر ومشاعره. حتى تموت وكأنها لم تكن. ولكنني عند الإفلاس أهدّد بها شخصاً لم يسمع بها من قبل. تعلّمت الكذب منذ زمن طويل. وكنتُ مضطراً إلى ذلك فعندما أكذب يصدقني الناس أكثر لذلك بدأتُ بمزج كل ماهو حقيقي صادق ببعض الأكاذيب التي تشدّ المستمع كي يستسيغها ويعطي لها بالاً. وفي كل مرة أشعر فيها أني خالٍ من أي فكرة وأن بئر الأفكار العظيمة لدى بدأ ينضب.

أشغل نفسي بأي شيء كي أُحافظ على ثقتي وتوازني. فمثلا أُفكّر من كل عقلي بالعودة للبحث عن الحوار الحقيقي الذي دار بين الأرنب والسلحفاة يومها غير الحوار الذي قيل نقلاً عن. أرى أن الأرنب وإن فاز في السباق.

فعليه أن يسابق كل حيوانات الغابة كي يغسل العار الذي لحق به. أعتقد أن هذه الفكرة كفيلة بأن تستوقفني لأيام. المهم أن لا أتوقف عن التفكير. لماذا؟ أتساءل لماذا؟ حسناً سأقول لك لماذا. لأنه أحياناً تصل الأمور بي لأخلع ملابسي وأعطيها لكل محتاج وأنا سارح بخيالي على أني منقذ البشرية جمعاء عن طريق ملابسي.

حتى أني أذرف دموعاً من التأثر والمضحك أنني لا أحتمل قطة أن تشاركني في السكن ولا حتى عنكبوتاً. حتى أحتمل بشراً مهما كان يحتاج إلى هذا السكن. حسناً علىّ أن أعود إلى الكتابة الآن حقيقةً لا أدري ما السبب وراء قدرتي على وصف الأماكن والأشخاص في قصة ما أحكيها أو أكتبها. أكثر من قدرتي على التأقلم مع تلك الأماكن والانسجام مع أولئك الأشخاص في الواقع. أجد صعوبة في فهمهم. وما إن أُفكر بوضع ورقة أمامي لأكتب عنهم أو أن أتحدث لأحد عما رأيتُ فيهم. حتى أجدني قد عرفتهم جيداً وفهمتهم كما ينبغي وكأنني زحفت إلى داخل جلدهم ورأيتُ العالم بأسره في عيونهم.

ومكثتُ في حناجرهم ونطقت بأصواتهم وتسللتُ إلى أدمغتهم. حتى إن تلك الأماكن التي أهجرها أو أشعر بوحدة فيها أجيدُ وصفها وكأني تعلقت بها حقاً سيشعر من يقرأ المكتوب أني نادم كل الندم على هجرانها لانها جميلة في عيوني. فما كتبته عنها أقرب إلى قصيدة. ولو حدث وعدتُ إليها لشعرت بوحشة ووحدة وكره لها وتمنيت لو أني لن أعود.لا أدري أين الحقيقة هنا. هل ماحدث معي في الواقع مع الشخوص والأماكن هو الحقيقة بعينها؟ أم أنَّ الحقيقة تكمن فيما اعتقدتُه أنا عندما شرعت بالكتابة عنهما؟ علىّ أن أبحث الآن عن السطور التي تحدثت فيها عن سَكَني يجب أن أكون صادقاً فالسقف الذي تنهمر منه حبات المطر لم يكن سقف غرفتي.

علىّ أن أتدرب على كبحِ تلك اللذة التي أشعر بها وأنا أُهين نفسي ولو على ورق

عبير فاطوم : كاتبة سورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق