أحمد سليمان: رُسل أديان يا أمي…يباركون حرب متوحشة
- يرموننا بالصواريخِ يا أحمد، كما لو أننا أهدافٌ عَسكريةٌ، بالأمسِ وقع بناءٌ بالقربِ منّا، لم ينهضْ من المكانِ سوى الغبار يا أحمد.
- ذهبتُ إلى الحرب، لا أعرفُ إنْ كان ذلك مُفيدًا بالنسبةِ لوحيدٍ مثلي ، كما أنني لا أعرفُ الكثيرَ، عن تلك الحربِ العابرةِ ، وقد سمعتُ فيما بعد أنّ نتائجَها مُقررةٌ، من قبل، ولم تكنْ في صالح بلادٍ ومواطنين
- أنا غائبٌ عن نفسي يا أمِّي، الربُّ يتأمّلُ كما يُقالُ يا دونا، أمّا سادةُ العالمِ الحُرِّ مُنشغلون، بتمويلِ القتَلة. القراراتُ الأمميةُ تصدرُ وفقَ فواتيرِ مضخّاتِ النفط.
كنْ عاقلاً يا أحمد، سوف أزوّجُكَ ابنةَ المحافظ، يُكرّرُ كلماتِه هذه ضاحكاً بعمقٍ، كنتُ وقتَها مأخوذاً بسحرِ الكتابةِ، والتلصصِ على منشورات الأحزاب السرية ، والعملِ مع اليسارِ المُنقسمِ ، شدّتْني أحاديثُ مؤلفاتٍ تتكلّمُ عن الثورة البلشفية، و حروبِ الأدغالِ، في كوبا وصولاً إلى فدائيي فلسطينَ. وضعتُ صورَ قادةِ الثوراتِ بين كُتبي، لكنَّ إحدى شقيقاتي أزالتْها صدفةً، قبل ساعاتٍ من دهمِ بيتنا.
وقتَها اصطحبوني بتهمةِ الانتسابِ، إلى خليةٍ يساريةٍ، بعد أيامٍ كتبُوا بمحاضرِ التحقيقِ أنني أتداولُ كُتباً “مناهضةً” ، حينَها طلبتُ من مُعدِّ التقريرِ الإشارةَ، إلى أنّ ذاتَ الكتبِ موجودةٌ، بدور الثقافةِ ومكتباتِ البلاد، حيث يُفاخرُ المسؤولونَ بوجودِها، كخلفياتٍ لمكاتبِهم مصحوبة بصورهم في مناسباتٍ تخصُّ الدولَ الاشتراكية.
تُهمٌ كهذه لا يصدقُها إنسانٌ متوازنٌ، لكنها ساعدتْني على فهمِ نوعِ الدولة، وطريقة إدارةِ مؤسساتِها.
أنا مازلتُ أتعلّمُ حكمةَ أن أكونَ ابناً لكِ يا دونا.
كنتُم تلهثون وراءَ الشقاءِ الذي أتركُه.
خلفي الطائراتُ تقصفُ مواقعَ الفدائيين، فيما أنتِ ومحمد تبحثان، عن أثرٍ يقودُكم إليَّ.
أعترفُ يا دونا.
إنني مجردُ ثرثارٍ في الحبِّ والثورة ! أتشيطنُ بالشعر، وأهزأُ ممّا تلفظُه شبكاتُ التجهيلِ والفقرِ المعرفيِّ.
العالمُ يا دونا يجلسُ على صفيحِ نارٍ، وأنتِ بالنسبةِ لي سيدةُ نساءِ العالم.
في حربِ القنيطرة تمَّ استدعاءُ محمد (أبي) لخدمةِ العلمِ، لأنَّ دائرةَ التجنيدِ، لم تقتنعْ بأنَّ محمداً هو وحيدٌ لعائلةٍ، تضمُّ ثلاثَ فتياتٍ وشقيقين توءَم، ماتَ أحدُهما منذُ زمنٍ طويلٍ بداءٍ، لا يقتلُ نملةً، لسببٍ تقاعستِ العائلةُ عن إبلاغِ وفاةِ التوءَم ، فبقيَ اسمُه في السجلاتِ على قيد الحياة .
كلفَ ذلك أبي أعواماً أربعة، قضاها في خدمةِ العلم، مع أنه مُعفى بموجبِ مرسومٍ قرأَه ضابطٌ عن طريق الخطأ، وتم تسريحُ أبي!
– كانوا كرماءَ يا بنيَّ، قال أبي مازحاً :
مجردُ خطأ في سجلاتِ الدولة ، تم تسريحي بعد أن تداولَ الكثيرُ، من المجندين اسمي أمام مسؤولي وحداتِهم، لم أحقدْ على أحدٍ، ولكنْ حزنتُ على سنواتٍ ذهبتْ عن غيرِ قصد، لم أكنْ إلى جوارِ مَن كانوا بحاجتي، كان بوسعي أن أتلقّى المزيدَ، من العلوم أو أعملَ كي أسدَّ رمقَ أهلي، لكنني ذهبتُ إلى الحرب، لا أعرفُ إنْ كان ذلك مُفيدًا بالنسبةِ لوحيدٍ مثلي ، كما أنني لا أعرفُ الكثيرَ، عن تلك الحربِ العابرةِ ، وقد سمعتُ فيما بعد أنّ نتائجَها مُقررةٌ، من قبل، ولم تكنْ في صالح بلادٍ ومواطنين، أهلُ الجولانِ أعلمُ مني، أنا لا أفهمُ بالسياسة، أنا الآن مجردُ بائعِ قماش.
بعد ذلك عدتُ إلى قريتي الرائعةِ، لأركضَ وألعبَ بمواسمِ الحصادِ، وبين كرومِ العنب، لكنني ما وجدتُ شقيقاتي!
لقد تمَّ تزويجُهنَّ، بمُباركةٍ من مفتي القريةِ الذي كان وصيًّا علينا، هو ابنُ عمِّ أبي ، كنت أسميه أبَ اليتامى، فهو علّمَنا مخارجَ الحروفِ، ومحبةَ الناس، ضمّنا إلى عائلتِه التي كانت تسكنُ بملحقٍ يخصُّ جامعَ القرية.
الحبُّ يا بني يجعلُكَ ملتهبَ الفطنةِ، بهيَّ الملمح.
حين تعرفتُ على ابنة الأثرياءِ أمِّكَ، كنتُ معدومَ الحال، بالكاد أحصلُ على ثمنِ بعضِ السلعِ، لبيعِها بنقطةِ حدودٍ مع بلاد الترك.
كانتْ دونا أطولَ منّي بشبرٍ ونصفٍ، كما هو الحالُ مع كلِّ عائلتِها، فهم أقوياءُ البُنيةِ بقاماتٍ طويلةٍ، استطعتُ إقناعَ الجميعِ أنني مُكافحٌ، أعملُ بثقةٍ وغيرُ يائسٍ، ومُقبلٌ على أيامٍ بيضاءَ، ثمّ استدرتُ إلى جهةِ الشرق، من هناك بدأتُ أولَ تجارةٍ جعلتْني في صدارة الوافدين، إلى مدينةٍ ريفيةٍ وبقوّة.
أتاني بعد حينٍ أبونا الشيخُ الجليلُ في زيارةٍ، ليخبرَني بأنَّ دونا ستكونُ من نصيبي، هكذا كتبْنا أولَ قرانٍ، على خلافِ منطقِ الشقيقِ الذي كان بمثابةِ آغا في قريةٍ لا يتخطّى عددُ سكانِها عشرينَ عائلةً.
كنْ نبيهاً يا أحمد، لا تُؤخذْ بقوةِ الآخرِ، أريدُك أن تكونَ قاسياً وليناً بآنٍ واحدٍ، مُكافحاً، صادقاً، ودوداً، ثمّ قلْ كلمتَكَ وامضِ .
ماتَ أبي في الأسبوعِ الأولِ من ثورةٍ بدأتْ من جنوبِ البلادِ إلى شمالِها.
ثمّ اشتعلتْ في بيتي انتفاضةٌ، نتجَ عنها ما يُشبهُ أبعدَ من الموت، ضرَبتْ ما اعتقدتُه مستقبلاً وحديقةَ عشقٍ، وأنا كنتُ مجردَ حطبٍ، على مائدةٍ في ليلٍ طويلٍ.
– دونا تطلبُ إليَّ أن أكونَ لصيقاً بطيفِ أبي.
عذابُنا طويلٌ يا أحمد، تقولُ دونا: انشغلْنا بضعفِنا يا بني.
يرموننا بالصواريخِ يا أحمد، كما لو أننا أهدافٌ عَسكريةٌ، بالأمسِ وقع بناءٌ بالقربِ منّا، لم ينهضْ من المكانِ سوى الغبار يا أحمد.
ستونَ دولةً يا حبيبي، قيلَ لنا بأنهم يدافعون عنّا، لكنْ هل لأحدٍ أن يشرحِ لنا من أدخلَ إلى بلدِنا مجموعاتٍ إرهابيةً، تضمُّ مُلتحين لديهم إمكاناتُ جيوشٍ، وعلى مبرةِ الجامعِ الأمويِّ يُعلنُ مفتي المخابرات انضمامَه، للحربِ الروسيةِ “المقدسة”؟
– إنهم رُسلُ أديانٍ يا أمِّي، بطاركة يُباركونَ مواثيقَ حربٍ دمويةٍ متوحشةٍ “حُلف ناتاشا “. ناتاشا يا أمِّي هي نموذجٌ لفتاةٍ، بلدُها غارقٌ في البطالةِ والديونِ، ورئيسُها مأجورٌ، لمَن يدفعُ له ثمنَ نفقاتِ مصانعِه التي تنتجُ أسلحةً، لحروبٍ خارجَ بلادِه ، ويرسلُ جنودَه لخوضِ أيِّ حربٍ ، ناتاشا يا أمي تقودُ طائراتِ (السوخوي) بعدَ رشفةِ فودكا.
سامحوها إذا قصفتْكم باسمِ (جمهورية روسيا العربية).
إنها مقدساتٌ مُعلنةٌ بكنيسةٍ تكتبُ مواعظها بمقراتِ كيه جي بي
طفلةٌ في عامِها العاشرِ، تابعتْ تقول: تأتينا طائراتٌ ومقذوفاتٌ من السماء.
أضافتِ الأختُ: بالقرب منا يقطعون الرؤوسَ، ويعلقونها في حدائقِ الأطفال.
أكملَ الشقيقُ الأكبرُ: في الأمسِ أحرقوا قرى وهجَّرُوا أهلَها في لعبةٍ، لاستعادةِ تاريخٍ مُبهمٍ.
باتَ لدينا في كلِّ شارعٍ مملكةٌ يحكمُها مُسوخٌ، كفرقِ موتٍ، باسمِ الدينِ تارةً، وأُخرى باسمِ قومٍ يبحثون عن مجدٍ مفقودٍ بديارٍ بعيدةٍ، نصبُوا شاخصاتٍ بلغاتٍ مختلفةٍ، وفرضُوا مستعمراتٍ للذُلِّ.
طائراتٌ يبعثُها رئيسٌ يُديرُ اللصوصَ والمجرمينَ، ومجموعات استقدمَها من مستنقعاتِ العالمِ السفليِّ.
تلك الطائراتُ تُبصرُ عن بُعدٍ . كم عائلةً ستُقّتَل؟ لكنها تغضُّ النظرَ عن الذين استباحُوا الحجرَ والبشر. هي حربٌ علينا كما نفهمُ، عقابٌ لكلِّ مَن رفضَ ظلمَ عقود.
أفلتُوا علينا مُلتحين، على جباهِهم أناشيدُ الثأرِ، بأيديهم سيوفٌ وراياتٌ كُتبتْ بحيضِ العذارى، علقُوا الصبيةَ والكهول، أخذُوا النسوةَ إلى أسواقِ العبيد.
- ” كدْتُ أموتُ يا أحمد ” تقولُ دونا، وتضيفُ “أنت صامتٌ بعيدٌ” يا أحمد
– يجيبُ أحمد: أنا غائبٌ عن نفسي يا أمِّي، الربُّ يتأمّلُ كما يُقالُ يا دونا، أمّا سادةُ العالمِ الحُرِّ مُنشغلون، بتمويلِ القتَلة. القراراتُ الأمميةُ تصدرُ وفقَ فواتيرِ مضخّاتِ النفط.
أما قبل، حاولتُ الزحفَ بعد أنْ فشلتُ بالنهوض، المكانُ مُعتمٌ يا دونا، لستُ أسمعُ سوى صدى أصواتٍ، أتحسّسُ صداعاً يتصاعدُ …
سحبتُ يدي اليسرى الى الأعلى، أزحتُ الترابَ عن وجهي، ثمّ رحْتُ أدفعُ بقايا مُتناثرةً عن جزءٍ من جسدي.
– سأعيشُ طويلاً تقولُ الحكايةُ يا دونا ، كذلك أتاني صوتٌ ينبّهُني دوماً.
إنه أنتِ يا دونا:
الموتى لديهم فرصةٌ لاستعادةِ علاقتِهم بالحياةِ
أنا لستُ في الأبدية، لكنني أتخاطرُ وأحبابي في مكانٍ ليس بينكم.
فهمتُ قبلاً أنّ إشاراتِ الموتِ تُنبّهُ إلى شريطٍ سينمائيٍّ يمرُّ أمام الكائنِ، في المسافةِ المتبقيةِ له.
أنا لستُ الفتى الهاربَ، قبلَ ربعِ قرنٍ يا دونا، ثمّ إنّ الجثةَ التي إلى جواري هي شبيهةٌ، بحلمٍ أبيضَ في ليلٍ طويلٍ .
لكنّهم كما أعلمُ قتلُوا الورداتِ والعشّاقَ وبلادَ الياسمين.
- النص مقطع من عمل طويل
المصدر : نشطاء الرأي