فرج بيرقدار يكتب عن “ذهنية التشبث والتوريث”
من غير رصد أو تتبُّع تراكمَتْ لدي، خلال سنوات وجودي في السويد، وقائع كثيرة تتحدث عن رؤساء نقابات ومؤسسات وأحزاب ووزراء وحتى رؤساء حكومات، استقالوا أو أقيلوا أو انتهت دورتهم الانتخابية، وأحياناً يمكن أن تجد وليَّ عهد يستقيل أو يتنازل عن موقعه لسبب لا يتعلق بفضيحة أو انقلاب أو مؤامرة. وأعتقد أن الوضع في أوروبا لا يخرج عموماً عن هذه الصورة.
“ما يعنيني هو التشخيص العام العميق والمضمر لعقلية التوريث عربياً ابتداء من القبائل مروراً بالأحزاب، وانتهاءً بما يسمّى دولاً”
كذلك من غير رصد ولا تتبع تراكم لدي أن تلك الأمور غير معروفة ولا مرعية ولا واردة عند شيوخ وزعماء وقادة القبائل العربية القديمة ولا عند تطويراتها الشكلانية من إمارات وممالك ودول. فكما كانت الحال في قبائلنا العربية، كانت في أحزابنا العربية وبرامجها وقياداتها وحتى أسمائها، ولا يغيّر في هذا الأمر وجود بعض الاستثناءات الجزئية في تغيير القادة أو في تغيير برامج وأسماء الأحزاب.
تبقى الوراثة الأسرية أو الحزبية أو على مستوى الدولة محكومة بنفس الطابع القبلي أو العشائري المعروف عربياً منذ ما قبل الإسلام؛ ما يعني أن الوضع العربي الحالي ما زال في موقعه القديم الذي لم يرقَ يوماً إلى مستوى الدولة.
يمكن أن نجد، في أكثر من بلد عربي، حزباً شيوعياً تناوشته الانشقاقات حتى غدا ثلاثة أو أربعة أو خمسة أحزاب أو أكثر، ومع ذلك فإن جميع الانشقاقات تحمل نفس الاسم، لأن كل انشقاق يعتقد نفسه الأصل أو الوريث الشرعي. أحياناً ولضرورات التمييز بين هذا الانشقاق وذاك اضطر بعض المهتمين بالشأن السياسي، وأحياناً اضطرت الأحزاب نفسها إلى إضافة صفة أو اسم شخص لنعرف من هو الحزب المقصود. في الحالة السورية مثلاً حدثت أول حالة انشقاق في الحزب الشيوعي في مطالع سبعينيات القرن العشرين، وكان الحزبان يحملان نفس الاسم، ولكن واقع الحال اقتضى مع الزمن التمييز بينهما بإضافة لاحقة لاسم الحزب تتضمن “المكتب السياسي” أو رياض الترك في مقابل بكداش، هذا قبل أن يغيّر المكتب السياسي اسم الحزب وبرنامجه ليصبح حزباً اشتراكياً ديموقراطياً، وكان ذلك استثناء في الحركة الشيوعية السورية. لاحقاً صار عندنا الحزب الشيوعي السوري مع لاحقة “منظمات القاعدة” أو مراد يوسف، ثم الحزب الشيوعي السوري مع لاحقة يوسف فيصل ثم وصال فرحة بكداش وقدري جميل صهرها وعمار بكداش ابنها.
“التشبث والتوريث عربياً أقرب إلى أن يكونا ذهنية وليس حالة عارضة”
وقبل انشقاقات الحزب الشيوعي لدينا انشقاقات الأحزاب القومية كحزب البعث أو حزب الاتحاد الاشتراكي وتشظياته “الناصرية” في أكثر من بلد.
الوضع في العراق لا يختلف كثيراً عن الوضع في سورية. كل انشقاق يحاول وراثة الأصل كما يرث أبناء وأبناء عمومة شيوخ القبائل حكم قبائلهم.
الوضع في لبنان ليس أقل سوءاً، فالوراثة في أغلب أحزابه تسير وفق إقطاعيات سياسية تتوارثها عوائل نافذة منذ التأسيس.
يبدو لي أن التشبث والتوريث عربياً أقرب إلى أن يكونا ذهنية وليس حالة عارضة.
هناك على السطح ما يخرق هذا النسق، ويتجلى ذلك لدى بعض الأحزاب الإسلامية. في الواقع هو خرق على السطح وليس في العمق. الوراثة بمعناها القبلي هنا قد تزدلف وفق نفس النسق إلى وراثة عائلية أو مذهبية كما في العراق، أو وراثة مناطقية ما بين دمشق وحلب وحماة كما في سورية.
في السويد، كما في أوروبا عموماً، هناك تطابق بدرجة كبيرة بين الشعب والقومية والأمة، وذلك ما يسهّل وحدة القوانين والأحزاب والنقابات وبالتالي بناء الدول.
أما عربياً، فللأسف ليس هناك بين المحيط “الهادرِ” والخليج “الثائرِ” بلد واحد يمتلك مواصفات الدولة بمعناها المعاصر وما تقتضيه من اندماج اجتماعي وحريات واحترام للقوانين التي تتعامل مع الناس كمواطنين لا كأغنام ورعايا، وبحقوق وواجبات يتساوى فيها الجميع، وتحميها قوة القانون الشرعية وليس قانون القوة الاعتباطي.
“ما تقوله الحكمة والعدالة والأخلاق أنه إذا كان المرء مستعداً لاحتلال موقع قيادي بدافع الخدمة العامة، فينبغي أن يكون لديه نفس الاستعداد للاستقالة”
القذافي ملك ملوك أفريقيا، ولا أدري كيف اكتفى بأفريقيا، حاول توريث ليبيا لأولاده، ومبارك في مصر حاول توريثها لابنه جمال، والأسد وصدام توأمان بصقتهما الشياطين على نفس البلاطة. بوتفليقة الجزائر وبن علي تونس لم تمهلهما الظروف لترتيب شأن الوراثة. لم أتطرق إلى الأنظمة العربية الملكية أو الوراثية في الأصل، فما يعنيني هو التشخيص العام العميق والمضمر لعقلية التوريث عربياً ابتداء من القبائل مروراً بالأحزاب، وانتهاءً بما يسمّى دولاً.
الملكية في السويد وراثية أيضاً ولكنها دستورية أساساً، والملك في واقع الحال لا يملك أن يتدخل في شيء من شؤون الحكم، إذ تقتصر صلاحياته على القيام ببعض المراسم الرسمية والاحتفالية الفلكلورية.
التشبث والتوريث نظيرا الإفراط والتفريط.
ما تقوله الحكمة والعدالة والأخلاق أنه إذا كان المرء مستعداً لاحتلال موقع قيادي بدافع الخدمة العامة، فينبغي أن يكون لديه نفس الاستعداد للاستقالة، إذا شعر أن أمراً ما يحول دون تحقيق ما جعله يوافق على أن يكون قيادياً.
هذا شرط غير جازم لغةً، ولكن غيابه ينذر بمستقبل عربي كارثيّ قد يضرب أقوى الحلقات وليس أضعفها.
المصدر : ضفة ثالثة