لبنان: من وصاية سوريا إلى النفوذ الإيراني وما بعد نهاية حزب الله
كتب أحمد سليمان : لبنان مر عبر تاريخه بتدخلات إقليمية ودولية متواصلة، مما جعل سيادته مرهونة لتوازنات القوى في المنطقة. كانت وصاية النظام السوري خلال الفترة (1976-2005) من أبرز مراحل تلك التدخلات، حيث سيطر نظام الأسد على مفاصل الدولة اللبنانية وسياستها عبر التدخل العسكري والأمني. إلا أن مرحلة ما بعد الوصاية السورية لم تكن استقرارًا للبنان، بل شهدت تصاعدًا في النفوذ الإيراني ممثلًا بحزب الله، الذي أصبح القوة المهيمنة محليًا وإقليميًا. على مدار العقود الماضية، كان لبنان ساحة صراع لقوى إقليمية متعددة، مثل سوريا وإيران، فضلاً عن تدخلات غربية وخليجية، وهو ما جعل من لبنان نموذجًا مصغرًا لصراع القوى الكبرى على النفوذ في الشرق الأوسط. هذه التدخلات لم تكن مجرد أزمات عابرة، بل شكلت قواعد أساسية تحكمت في السياسة اللبنانية، وأثرت بشكل عميق في مؤسسات الدولة وقراراتها السيادية. ومع أي حديث عن مرحلة “ما بعد حزب الله”، يتبادر إلى الأذهان سؤالٌ حول دور هذه القوى في تشكيل مستقبل لبنان.
لفهم مستقبل لبنان بعد حزب الله، من الضروري التعمق في فترة الوصاية السورية على البلد، التي امتدت لعقود تحت قيادة نظام الأسد، وانتهت رسميًا بعد اغتيال رفيق الحريري. هذه الفترة لم تكن فقط زمنًا للهيمنة الخارجية، بل كانت مرحلة مفصلية تم فيها إعادة صياغة علاقات القوى الداخلية والخارجية. فالنظام السوري استخدم لبنان كأداة لتثبيت نفوذه الإقليمي، واستعمل الاغتيالات السياسية كوسيلة للتخلص من خصومه أو من كل من يهدد استقرار مصالحه في البلاد.
بعد الانسحاب السوري، حل النفوذ الإيراني مكانه، متجسدًا في حزب الله الذي أصبح القوة الفاعلة والمهيمنة في الساحة السياسية والعسكرية اللبنانية. مع تورط حزب الله في الحرب التي أعلنها بشار الأسد على ثورة السوريين في مارس 2011 ، أصبحت إيران تسيطر فعليًا على لبنان عبر الحزب، محولة البلاد إلى محور رئيسي في استراتيجيتها الإقليمية.
ومع التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، يتساءل الكثيرون عن مصير لبنان بعد تراجع نفوذ حزب الله و انتهاء دوره. هل سيعود لبنان إلى حقبة وصاية جديدة تحت سيطرة قوى أخرى إقليمية أو دولية؟ أم أن هناك فرصة حقيقية للخروج من هذه الدوامة وبناء لبنان مستقل يقرر مصيره بعيدًا عن التدخلات الخارجية؟ هذه التساؤلات تقودنا إلى ضرورة تحليل العوامل التي قد تشكل مستقبل النظام اللبناني، سواء عبر تدخلات سعودية أو إيرانية أو تركية أو غربية، أو عبر تحولات داخلية جديدة تفرض توازنات جديدة على الساحة اللبنانية.
الوصاية السورية (1976-2005): تأثير الأسد في لبنان
بدأ التدخل السوري في لبنان رسميًا عام 1976، في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، تحت غطاء “قوات الردع العربية”. إلا أن الهدف الحقيقي للنظام السوري، بقيادة حافظ الأسد، كان ضمان بسط نفوذه على لبنان وتحقيق مكاسب استراتيجية إقليمية. في تلك الفترة، لعبت سوريا دورًا مركزيًا في إدارة الصراع الداخلي اللبناني عبر دعم بعض الفصائل وتصفية من يقف في وجه مصالحها.
اتفاق الطائف (1989) عزز هذا النفوذ رسميًا، حيث ساعد على إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لكنه منح سوريا دور الوصي على تطبيق بنوده، مما مكّن النظام السوري من إحكام قبضته على الدولة اللبنانية لأكثر من عقد ونصف.
خلال هذه المرحلة، كانت دمشق تتحكم في تعيين الرؤساء وتتدخل بشكل مباشر في القرارات السياسية الكبرى. كما احتفظت بوجود عسكري كثيف في لبنان، مما جعلها القوة الحاكمة فعليًا. وفي إطار هذا النفوذ، لجأ النظام السوري إلى الاغتيالات السياسية كأداة لتصفية معارضيه وإحكام قبضته على البلاد.
الاغتيالات السياسية: أداة السيطرة وتصفية الخصوم
خلال فترة الوصاية السورية، استُخدم الاغتيال كوسيلة للتخلص من الشخصيات المعارضة، وترسيخ نفوذ دمشق. شملت هذه الاغتيالات زعماء سياسيين وصحافيين بارزين وقفوا في وجه الهيمنة السورية أو نفوذ حزب الله الذي صعد لاحقًا.
أبرز الاغتيالات:
الاغتيالات السياسية كانت واحدة من أبرز الأدوات التي استخدمتها القوى المهيمنة في لبنان، ولا سيما النظام السوري، لتصفية الخصوم وإحكام قبضته على البلاد. ومنذ الحرب الأهلية اللبنانية وحتى اليوم، شكّلت الاغتيالات علامة بارزة في مسار الصراع السياسي اللبناني، وغالبًا ما كانت تستهدف قادة سياسيين وصحافيين وشخصيات معارضة للهيمنة السورية أو لحزب الله.
سليم اللوزي (1980)
كان سليم اللوزي، الصحفي والمؤسس لجريدة “الحوادث”، أحد أبرز الأسماء التي تم اغتيالها في أوائل الثمانينيات. اللوزي كان معروفًا بمعارضته القوية للنظام السوري وانتقاده للوجود السوري في لبنان. اختُطف في فبراير 1980، وعُثر على جثته بعد أسبوع في منطقة عرمون جنوب بيروت، وقد تعرض لتعذيب وحشي، حيث تم تشويه ذراعه التي كان يكتب بها. كان اغتياله رسالة واضحة لكل من يجرؤ على معارضة النظام السوري في تلك الفترة.
كمال جنبلاط (1977)
كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي البارز ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، كان شخصية محورية في الحياة السياسية اللبنانية، وكان من أشد معارضي التدخل السوري في لبنان خلال الحرب الأهلية. في مارس 1977، تم اغتياله في منطقة الشوف في جبل لبنان. وعلى الرغم من أنه لم يُثبت رسميًا تورط سوريا في اغتياله، إلا أن الكثيرين رأوا أن دمشق كانت وراء العملية بسبب معارضته القوية للسياسات السورية في لبنان.
رفيق الحريري (2005)
اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء الأسبق وأحد أبرز رجال الأعمال والسياسيين اللبنانيين، شكل نقطة تحول في التاريخ الحديث للبنان. في 14 فبراير 2005، انفجرت سيارة مفخخة قرب موكبه في بيروت، مما أدى إلى مقتله مع 21 شخصًا آخرين. اغتياله أثار ضجة كبيرة على الصعيدين المحلي والدولي، وأدى إلى احتجاجات شعبية واسعة، تعرف باسم “ثورة الأرز”، طالبت بانسحاب القوات السورية من لبنان. في ظل الضغوط الدولية، انسحبت سوريا من لبنان بعد عقود من الوصاية، لكن التحقيقات أشارت إلى تورط حزب الله وعناصر من النظام السوري في عملية الاغتيال.
سمير قصير (2005)
سمير قصير، الصحفي والكاتب المعروف، كان من أبرز الأصوات المعارضة للهيمنة السورية على لبنان. كان دوره أساسيًا في فضح تجاوزات النظام السوري عبر مقالاته في الصحف اللبنانية. في 2 يونيو 2005، قُتل بقنبلة زرعت في سيارته في بيروت، وكان اغتياله بمثابة رسالة لكل الأصوات الحرة التي تعارض التدخلات الخارجية في لبنان.
جورج حاوي (2005)
جورج حاوي، الزعيم السابق للحزب الشيوعي اللبناني وأحد قادة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي وابرز المنتقدين للنظام السوري، تعرض للاغتيال بعد أسابيع قليلة من اغتيال سمير قصير. في 21 يونيو 2005، قُتل حاوي بتفجير سيارة مفخخة في بيروت. كان حاوي من الأصوات المناهضة للوجود السوري في لبنان، وكانت عملية اغتياله جزءًا من سلسلة من العمليات التي استهدفت الشخصيات المعارضة بعد اغتيال الحريري.
جبران تويني (2005)
جبران تويني، الصحفي والسياسي ومدير تحرير صحيفة “النهار”، كان من أبرز المناهضين للتدخل السوري في لبنان. في 12 ديسمبر 2005، قُتل جبران في تفجير سيارة مفخخة بعد مغادرته منزله. كان اغتياله، بعد أشهر من اغتيال سمير قصير وجورج حاوي، ضمن سلسلة من عمليات القتل التي استهدفت الأصوات المعارضة.
التأثير السياسي لهذه الاغتيالات
هذه الاغتيالات لم تكن مجرد عمليات اغتيال فردية، بل كانت وسيلة منظمة لخلق مناخ من الرعب والقمع السياسي. استهدف النظام السوري وحلفاؤه شخصيات من مختلف الطوائف السياسية والعرقية، من الصحافيين إلى القادة السياسيين، في محاولة لضمان بقاء هيمنتهم على الساحة اللبنانية. كما أن هذه العمليات زعزعت التوازن السياسي الداخلي، حيث كانت القوى المعارضة تتعرض للتصفية بشكل منهجي، مما جعل من الصعب بناء جبهة قوية لمقاومة الوصاية الخارجية.
انسحاب سوريا وثورة الأرز (2005)
اغتيال الحريري في فبراير 2005 كان اللحظة المفصلية التي أدت إلى احتجاجات شعبية واسعة، عُرفت بـ”ثورة الأرز”، طالبت بانسحاب القوات السورية من لبنان. هذه الاحتجاجات، إلى جانب الضغوط الدولية وقرارات مجلس الأمن، أجبرت سوريا على سحب قواتها في أبريل 2005، منهيةً بذلك عقودًا من الوصاية المباشرة.
على الرغم من الانسحاب، استمر النفوذ السوري من خلال حلفائه، خاصة حزب الله، الذي أخذ مكانه كلاعب رئيسي في الساحة اللبنانية، متحولًا إلى القوة الإقليمية الجديدة التي تدير اللعبة السياسية.
تصاعد نفوذ إيران وحزب الله
بعد انسحاب سوريا، ملأت إيران الفراغ عبر تعزيز دعمها لحزب الله، الذي تحول إلى قوة سياسية وعسكرية لا يمكن تجاوزها. حزب الله استغل الشرعية التي اكتسبها من مقاومته للاحتلال الإسرائيلي، وزاد من قوته السياسية والاجتماعية داخل المجتمع الشيعي.
تورط الحزب بشكل مباشر في الحرب السورية لدعم نظام بشار الأسد، مما زاد من قوته الإقليمية وجعل لبنان جزءًا لا يتجزأ من الصراع السوري. هذا الدور العسكري والسياسي جعل من حزب الله الذراع الإيرانية في لبنان، حيث أصبحت طهران تتحكم بشكل غير مباشر في مستقبل لبنان عبر الحزب.
الوضع السوري بعد ثورة 2011
مع اندلاع الثورة السورية في 2011، بدأت الحرب التي أعلنها المجرم بشار الأسد على الشعب السوري، مما أدخل النظام السوري في حالة استنزاف داخلي أثرت بشكل كبير على قدرته في التأثير المباشر على لبنان. هذه الحرب استنزفت موارد النظام، وجعلته يعتمد بشكل أكبر على دعم حزب الله وإيران.
بالمقابل، تحول حزب الله إلى القوة الرئيسية التي تدير مصالح النظام السوري في لبنان، ليس فقط كحليف بل كطرف يتحكم في القرار السياسي اللبناني ويحافظ على استقرار نظام الأسد.
تتزايد مؤشرات التحركات التركية والقطرية لتعزيز نفوذهما في لبنان، خاصة من خلال دعم الجماعات الإسلامية السنية. وقد تكون هاتان الدولتان مرشحتين للعب دور أكبر إذا تراجع النفوذ الإيراني.
القوى الإقليمية والدولية:
السعودية ودول الخليج: قد تحاول السعودية ودول الخليج، وخاصة الإمارات، استغلال تراجع نفوذ حزب الله لزيادة تأثيرها في لبنان، من خلال دعم القوى السنية والدرزية المعارضة لنفوذ إيران.
تركيا وقطر:
تتزايد مؤشرات التحركات التركية والقطرية لتعزيز نفوذهما في لبنان، خاصة من خلال دعم الجماعات الإسلامية السنية. وقد تكون هاتان الدولتان مرشحتين للعب دور أكبر إذا تراجع النفوذ الإيراني.
الدور الغربي:
فرنسا والولايات المتحدة لهما مصلحة في استقرار لبنان، خاصة في مواجهة النفوذ الإيراني. فرنسا، بتاريخها العميق في لبنان، قد تسعى للعب دور أكبر، بينما ستركز الولايات المتحدة على منع تمدد النفوذ الإيراني وحماية مصالحها الاستراتيجية.
التحديات الداخلية اللبنانية
في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والانهيار السياسي المستمر، يواجه لبنان تحديات داخلية عميقة. مع تراجع دور حزب الله وافتراض غياب قيادته بما في ذلك مصرع أمينه العام حسن نصر الله وقيادات الحزب الأساسية، ستضطر القوى السياسية اللبنانية إلى البحث عن صيغة توافقية جديدة تحافظ على استقرار البلاد وتمنع انزلاقه نحو وصاية خارجية جديدة. في غياب هذا التوافق الداخلي، سيبقى لبنان عرضة لتدخلات إقليمية ودولية قد تعيده إلى دوامة التبعية والصراعات المتكررة.