إشكالية الانخراط المدني في سوريا: بين تطلعات التغيير وواقع التحولات السياسية
الواقع الحالي يشير إلى استمرار الغموض حول مفاهيم الديمقراطية وتداول السلطة، ما يُثير تساؤلات عن حدود الممكن السياسي.

في الأسابيع الأخيرة، ومع استمرار حالة الاحتراب السياسي التي تعيشها سوريا، تصاعدت الدعوات من بعض الأطراف المدنية للانخراط في المشهد السياسي، استنادًا إلى فرضية احتمال حدوث تغييرات في بنية السلطة أو ظهور هامش محدود للعمل السياسي. تأتي هذه الدعوات في سياق تحولات محلية وإقليمية معقدة، حيث تسعى بعض القوى إلى إعادة تشكيل معادلات الحكم، في ظل خطاب يروّج لتأسيس مفهوم جديد للدولة. ومع ذلك، فإن هذا الطرح يستدعي قراءة متأنية للواقع السياسي، لا تقتصر على الشعارات المُعلنة، بل تتجاوزها إلى البنية العميقة لنظام يحاول فرض ملامحه، وطبيعة التوازنات التي تُقيّد أي محاولة لمشاركة مدنية فعّالة.
في ظل هذا المشهد، يصبح التساؤل مشروعًا: ما مدى جدوى انخراط الفاعلين المدنيين في منظومة سياسية تُحكم بقبضة سلطوية وتُفرغ المشاركة من مضمونها الحقيقي؟ وهل يمكن لهذا الانخراط أن يُفضي إلى تأثير ملموس في غياب الضمانات الأساسية لممارسة العمل السياسي بحرية؟ فالواقع الحالي يشير إلى نظام يُعيد إنتاج نفسه، مع استمرار الغموض حول مفاهيم الديمقراطية وتداول السلطة، ما يُثير تساؤلات حقيقية عن حدود الممكن السياسي.
أي حديث عن دور مدني فعّال يفترض حدًّا أدنى من الشروط الضامنة للتعددية السياسية، مثل الاعتراف بحق الاختلاف، حماية الحريات، ووجود قنوات مؤسسية تُمكّن المجتمع المدني من التأثير في القرار السياسي. إلا أن معالم الإطار السياسي الجاري تشكيله تُشير إلى احتمالية تكريس نموذج سلطوي جديد، وإن اتخذ طابعًا مدنيًا شكليًا. وهنا تبرز معضلة أساسية: هل يُمكن للفاعلين المدنيين انتزاع مساحات حقيقية للتأثير، أم أن انخراطهم قد يتحول إلى أداة لشرعنة واقع سياسي مغلق؟
تحتاج هذه الأسئلة إلى نقاش عميق يتجاوز الرهانات اللحظية، ويفرض التفكير في استراتيجيات مدنية تُوازن بين السعي للتأثير السياسي، والحفاظ على استقلالية الفعل المدني، في ظل مشهد لا يزال محكومًا بآليات الإقصاء وإعادة إنتاج السلطة.
دعونا نستعرض أبرز العوامل التي تُقوّض إمكانية المشاركة المدنية الحقيقية:
1. غياب مفهوم واضح للديمقراطية وتداول السلطة
النظام السياسي في سوريا يُبقي مفهوم الديمقراطية مُلتبسًا، ويتجنب الإشارة الصريحة إلى تداول السلطة كحق شعبي أصيل. بدلًا من ذلك، يُستبدل الخطاب الديمقراطي بمصطلحات غامضة مثل “التوافق الوطني” أو “الحوار المجتمعي”، مما يُحوّل أي عملية سياسية إلى إجراء شكلي يُكرّس الواقع القائم بدلًا من تغييره.
على الرغم من أن حرية العمل الحزبي والنقابي هي حجر الزاوية لأي نظام ديمقراطي، فإن الواقع السوري يُظهر تحفظاً للاعتراف بالقوى السياسية القائمة أو السماح بنشوء قوى جديدة.
2. عسكرة السلطة واندماج القرار السياسي بالقرار العسكري
تعيين رئيس من قبل فصائل مسلحة يعكس اندماج السلطة السياسية بالسلطة العسكرية، مما يُلغي فكرة الدولة المدنية، ويُثير تساؤلات جوهرية حول شرعية التمثيل السياسي واستقلالية القرار الوطني. في ظل هذا الواقع، يصبح أي حراك مدني مُعرّضًا للاحتواء أو القمع، خاصة إذا تجرّأ على المطالبة بحد أدنى من الفصل بين السلطات.
3. تغييب الحريات السياسية ورفض تشكيل الأحزاب والجمعيات المدنية
على الرغم من أن حرية العمل الحزبي والنقابي هي حجر الزاوية لأي نظام ديمقراطي، فإن الواقع السوري يُظهر تحفظاً للاعتراف بالقوى السياسية القائمة أو السماح بنشوء قوى جديدة. يُدفع الفاعلون المدنيون إلى العمل ضمن أطر فردية غير منظمة، ما يُضعف قدرتهم على بناء حركات جماعية قادرة على الضغط أو التأثير في القرارات المصيرية.
4. مؤتمرات حوار غير ملزمة لتلميع صورة السلطة
الدعوة إلى مؤتمر حوار وطني استشاري غير ملزم تبدو كخطوة إيجابية ظاهريًا، لكنها في الجوهر تُحوّل الحوار إلى تمرين سياسي دعائي. فغياب الإلزامية يعني أن أي مخرجات لهذا الحوار ستبقى حبرًا على ورق، تُستخدم فقط لتقديم صورة منفتحة للخارج، بينما يستمر التضييق على الحريات في الداخل.
5. تشكيل لجان دستورية تابعة للسلطة التنفيذية
عندما تتشكل اللجان الدستورية أو الهيئات التشريعية من قِبل السلطة التنفيذية نفسها، يُثار تساؤل مشروع حول استقلاليتها. هل يمكن لهذه اللجان أن تُنتج عقدًا اجتماعيًا جديدًا يُؤسس لدولة المواطنة؟ أم أنها مجرد أدوات لإضفاء شرعية شكلية على قرارات السلطة؟
6. غياب البيئة القانونية الضامنة للعمل المدني المستقل
حتى لو سُمح بإنشاء جمعيات أو منظمات مدنية، فإن غياب بيئة قانونية تحمي استقلاليتها يجعلها عاجزة عن أداء دورها الحقيقي. فلا معنى لتأسيس حزب سياسي في ظل قوانين تُتيح حله بقرار إداري، ولا فائدة من نقابة تُفرض عليها قيادات موالية للسلطة، ما يحوّل هذه الكيانات إلى امتدادات للنظام بدلًا من أدوات لتطوير المجتمع.
إشكالية الانخراط المدني: بين الوهم والشرعنة
في ضوء هذه المعطيات، يصبح الانخراط المدني في الحراك السياسي الحالي إشكالية حقيقية. فبدون ضمانات واضحة لحرية التنظيم السياسي، وحق تشكيل الأحزاب والجمعيات المستقلة، يُصبح أي انخراط مدني مُهددًا بالتحول إلى أداة لشرعنة نظام منغلق ويتجه للتفرد بالسلطة. المشاركة في مسارات شكلية قد تُعطي انطباعًا زائفًا عن وجود حراك ديمقراطي، بينما الحقيقة هي أن هذه المشاركة تُستخدم لاحتواء الأصوات الناقدة، وتفريغ مطالبها من أي تأثير عملي.
استنتاجات وتساؤلات مفتوحة
إن أي دعوة للانخراط المدني في ظل هذه البنية السياسية دون اشتراط الحد الأدنى من الحريات، تُهدد بتكريس حالة الاستبداد بدلًا من تفكيكها. لذلك، قبل التفكير في أي مشاركة، لا بد من التمسك بخطوط حمراء غير قابلة للتفاوض، تشمل:
- ضمان الحريات السياسية كحق أصيل لا يمكن مصادرته.
- توفير بيئة قانونية تكفل العمل الحزبي والنقابي المنظم والمستقل.
- إخضاع الأجهزة الأمنية والعسكرية لرقابة مدنية منتخبة.
- إلزام السلطة باحترام نتائج أي حوار وطني أو استفتاء شعبي.
لا معنى لتأسيس حزب سياسي في ظل قوانين تُتيح حله بقرار إداري، ولا فائدة من نقابة تُفرض عليها قيادات موالية للسلطة، ما يحوّل هذه الكيانات إلى امتدادات للنظام بدلًا من أدوات لتطوير المجتمع.
إن تجاهل هذه الشروط سيؤدي إلى إعادة تدوير الأزمة السياسية، مما يُهدد بتكريس نموذج سلطوي أشد صلابة. لذا، قد يكون الرهان الحقيقي للقوى المدنية هو الاستثمار في بناء الوعي السياسي، وتعزيز ثقافة المطالبة بالحقوق، بدلًا من الانخراط في مسارات مشوّهة قد تستنزف طاقاتها دون تحقيق أي تغيير ملموس.
بهذه الرؤية، يصبح العمل المدني أكثر استراتيجية، إذ يُراكم الوعي الشعبي، ويفرض معادلات جديدة من خارج البنية السلطوية، بدلًا من أن يُختزل في أدوار رمزية تُستخدم لتزيين المشهد السياسي المُغلق.