العلمانية والاختبار السوري
الثورة لحظة كشف: من تماهى مع القمع لا يملك حق ادعاء الحداثة

كتب أحمد سليمان : طالما رُفعت راية “العلمانية” في الحياة العامة السورية كعلامة على التنوّر والتحضّر. تبناها مثقفون وناشطون وفنانون، وظهرت في خطاب الدولة كجزء من سردية النظام السياسي السابق. لكن، مع اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، تهاوت كثير من الأقنعة. واتّضح أن “العلمانية” التي كان يُفترض أن تكون أرضية صلبة للمجتمع والدولة، لم تكن في كثير من الأحيان سوى قشرة رقيقة تخفي تحتها هويات طائفية، ومصالح سلطوية، وخوفاً مزمناً من التغيير.
1. علمانية الشعار لا الفلسفة:
في المجتمعات التي لم تشهد تحولات علمانية حقيقية – كفصل بين المجالين الديني والسياسي – غالباً ما تتحول “العلمانية” إلى مجرد شعار يستخدمه البعض لإقصاء خصومهم أو التماهي مع صورة “حداثية”. هذا تماماً ما حصل في سوريا. فالكثير من النخب التي قدّمت نفسها كعلمانية، لم تتبنَّ هذا الفكر كمنهج معرفي قائم على الحريات، بل كموقف مضاد للتيارات الدينية، أو كأداة لإثبات تفوق ثقافي ما.
المدافعون الحقيقيون عن المواطنة ليسوا دائماً “علمانيين”
ولهذا، حين اندلعت الثورة، سقط معظم هؤلاء في أول امتحان. تخلّوا عن مبادئهم المعلنة – كالحرية، والكرامة، والمساواة – واصطفوا مع النظام، ليس دفاعاً عن الدولة المدنية، بل دفاعاً عن الاستقرار الموهوم، والهوية الطائفية غير المعلنة، والخوف العميق من الشعب حين يتحرك.
2. نظام علماني بالواجهة، طائفي في العمق:
من جهة النظام، فإن تبنّيه للعلمانية لم يكن يوماً تبنّياً مبدئياً، بل كان جزءاً من هندسة خطابية لإرضاء شريحة معينة من النخب، وتهدئة مخاوف الأقليات، واكتساب شرعية خارجية. أما في العمق، فكانت الدولة تُدار وفق توازنات طائفية دقيقة، خصوصاً في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتُمارَس فيها السلطة على أسس الولاء الشخصي والطائفي لا على الكفاءة أو الانتماء الوطني.
النظام عرف تماماً كيف يستخدم خطاب “محاربة الإسلاميين” لتبرير كل عنف، وتحويل كل ثورة إلى مؤامرة. وكانت الطائفية هي السلاح الأكثر فاعلية في الحفاظ على السلطة، رغم أنه تمّ التلاعب بها باسم “الوطنية” و”العلمانية” الظاهرية.
3. النخب المتواطئة: حين يُصبح المثقف جزءاً من المشكلة
في خضم الأحداث المتداخلة في سوريا، ظهر أن كثيراً من المثقفين والفنانين والإعلاميين الذين طالما تحدثوا عن التنوير والحداثة لم يكونوا في الحقيقة مرتبطين بالقيم، بل بالموقع الاجتماعي والسياسي الذي تمنحه لهم السلطة. هؤلاء فضّلوا الاستبداد على الحرية، والقتل على الفوضى، لأنهم لم يستطيعوا تخيّل مكان لهم في نظام جديد لا يقوم على الامتيازات القديمة.
كما استغل الإسلام السياسي والداعمون له الدين والطائفة لضرب المجتمعات من داخلها، استغل النظام الأسدي الساقط شعار “العلمانية” لتبرير تسلّطه.
هؤلاء لم يُسقطوا العلمانية، بل فضحوا أنفسهم. لأن العلمانية، في جوهرها، لا تقف ضد التدين، بل ضد استخدام الدين (أو أي هوية) كأداة للهيمنة أو القمع. هي موقف تحرري شامل، يرفض القهر بكل أشكاله، لا مجرد زينة لغوية على صفحات الجرائد أو شاشات التلفزة.
4. المفارقة: من دافع عن المواطنة حقاً؟
المفارقة المؤلمة أن بعض من تبنّى مواقف أكثر اتساقاً مع مبادئ الدولة المدنية – كالكرامة، والعدالة، وحقوق الإنسان – لم يكن من بين “العلمانيين” المعلنين، بل من شخصيات إسلامية أو وطنية أو مستقلة، انحازت للإنسان قبل أن تنحاز لأي هوية. هؤلاء، وإن لم يستخدموا مفردات الحداثة الغربية، طبّقوا جوهرها حين رفضوا القتل والتمييز، ودافعوا عن حق المختلف في الحياة والكرامة.
الموجز :
ما حدث في سوريا ليس فشلاً للعلمانية، بل تعرية لزيف كثير من مدّعيها. سقط الخطاب، وبقي الجوهر. والجوهر هو أن لا قيمة لأي فكر لا يُختبر في الميدان، ولا يُترجم إلى موقف واضح عندما تشتد العتمة.
في النهاية، الثورة كانت – وما زالت – لحظة كشف. من تماهى مع السلطة الظالمة باسم الحداثة أو الاستقرار، لم يكن علمانياً، بل كان موظفاً في آلة القمع. أما من وقف مع الإنسان، أيّاً كانت هويته، فقد فهم المعنى الحقيقي للعلمانية، حتى لو لم ينطق الكلمة يوماً.
أحمد سليمان : محرر موقع نشطاء الرأي