أحمد سليمانزملاءقضايا

من هذه الدمشق أبدأ.. بين أزقتها التي أكلت من قدمي، أكتب رسائلي

منذ أن غادرت منزل العائلة في طفولة مبكرة، وأنا أبحث عن المعاني المختبئة في عالمي الغريب، وكأن الشقاء الذي أتلصص عليه بصمت كان مرآة تعكس الذات متماسكة مع الوجود. في تلك اللحظات، تشكلت أسئلة غير مرئية حول الحياة والموت، الزمن الذي نحياه، والأثر الذي نتركه خلفنا.
فهمت لاحقاً أن الغوص في أعماق العقل البشري يتطلب تجاوز المظاهر السطحية. الأمر أشبه بمحاولة الحفر في عناصر غير ملموسة كالماء أو الهواء؛ عمل كهذا لا يتقنه سوى من اختبروا القسوة عن قرب وعاشوا جميع حالاتها. كان هذا التلصص على الألم جزءًا من محاولتي لإيجاد معنى في الفوضى التي تحيط بنا، تلك الفوضى التي تبدو أبدية لكنها تمنحنا وضوحاً مدهشاً حين ندرك محدودية الزمن.
عندما يجد الإنسان نفسه فجأة أمام حقيقة صادمة – كأن يبلغه أحدٌ أن ما تبقى له لا يتجاوز عامين – يبدأ في إعادة ترتيب أولوياته. تلك الكلمات البسيطة تحمل في طياتها زلزالاً يغير كل شيء. الأسئلة الكبرى تطفو على السطح: ما معنى الحياة؟ كيف يمكن مواجهة النهاية بسلام؟ ماذا عن الأحلام المؤجلة والمشاريع التي لم تكتمل؟ وكيف يمكننا أن نترك أثراً يستمر بعد رحيلنا؟
في مثل هذه اللحظة، يتحول الزمن إلى عملة نادرة. يُدرك الإنسان فجأة أن الحياة سوف تتبخر قريباً، وأن كل علاقة وذكرى وكل لحظة تعيشها تصبح ثمينة بشكل لم يكن يعهده من قبل. تصبح الأسئلة أكبر من أن تُجاب بسهولة: كيف يمكن أن نعيش في عالم مليء بالتناقضات؟ عالم يفقد بوصلته بينما تزداد أصوات المناشدات لإنقاذ الأرض، وعالم تكتظ فيه القلوب بالمآسي بينما تُرفع الشعارات عن السلام والتحرر، شعارات غالبًا ما تختفي وراء مصالح وأحلاف تكسر إرادة البشر.
بدأت أفكر في الخطوات التي يمكن أن أتخذها، ليس فقط لمواجهة هذه الأسئلة، بل لأترك أثراً في هذا العالم

منذ أن غادرت منزل العائلة في طفولة مبكرة، وأنا أبحث عن المعاني المختبئة في عالمي الغريب، وكأن الشقاء الذي أتلصص عليه بصمت كان مرآة تعكس الذات متماسكة مع الوجود. في تلك اللحظات، تشكلت أسئلة غير مرئية حول الحياة والموت، والزمن الذي نحياه، والأثر الذي نتركه خلفنا.

فهمت لاحقًا أن الغوص في أعماق العقل البشري يتطلب تجاوز المظاهر السطحية. الأمر أشبه بمحاولة الحفر في عناصر غير ملموسة كالماء أو الهواء؛ عمل كهذا لا يتقنه سوى من اختبروا القسوة عن قرب وعاشوا جميع حالاتها. كان هذا التلصص على الألم جزءًا من محاولتي لإيجاد معنى في الفوضى التي تحيط بنا، تلك الفوضى التي تبدو أبدية لكنها تمنحنا وضوحًا مدهشًا حين ندرك محدودية الزمن.

عندما يجد الإنسان نفسه فجأة أمام حقيقة صادمة، لا بد له من إعادة ترتيب أولوياته. تلك الكلمات البسيطة تحمل في طياتها زلزالًا يغير كل شيء. الأسئلة الكبرى تطفو على السطح: ما معنى الحياة؟ كيف يمكن مواجهة النهاية بسلام؟ ماذا عن الأحلام المؤجلة والمشاريع التي لم تكتمل؟ وكيف يمكننا أن نترك أثرًا يستمر بعد رحيلنا؟

في مثل هذه اللحظة، يتحول الزمن إلى عملة نادرة. يُدرك الإنسان فجأة أن الحياة ستتبخر قريبًا، وأن كل علاقة، وذكرى، وكل لحظة يعيشها تصبح ثمينة بشكل لم يكن يعهده من قبل. تصبح الأسئلة أكبر من أن تُجاب بسهولة: كيف يمكن أن نعيش في عالم مليء بالتناقضات؟ عالم يفقد بوصلته بينما تزداد أصوات المناشدات لإنقاذ الأرض، وعالم تكتظ فيه القلوب بالمآسي، بينما تُرفع الشعارات عن السلام والتحرر، شعارات غالبًا ما تختفي وراء مصالح وأحلاف تكسر إرادة البشر.

بدأت أفكر في الخطوات التي يمكن أن أتخذها، ليس فقط لمواجهة هذه الأسئلة، بل لأترك أثرًا في هذا العالم.

● ترميم العلاقات:
قررت أن أُكرّس وقتي بشكل أكبر لأحبائي، أن أُعطيهم جزءًا أكبر من حياتي، وأن أبذل جهدي لحل النزاعات التي نمت بيننا أو تحسين العلاقات التي تعرّضت للتوتر بفعل الزمن أو الظروف. لكنني سرعان ما أدركت أن هذا الجهد لا يكون دائمًا متبادلًا؛ فالقلوب التي ماتت أو غابت عن الحياة الحقيقية لا تستجيب، وتعوق إمكانية التواصل الحقيقي.
عدت إلى جذوري، حيث ذكريات الكتابة والتمرد، محاولة أن أجد من يشارك معي تلك اللحظات، فتوجهت إلى أصدقائي القدامى. لكن الواقع كان أقسى مما توقعت: كثير منهم تشردوا في بلاد الشتات، أو تبدلت أفكارهم وتحولت، أو تلاشت أخبارهم في زحام المدن الكبرى، وبعضهم مات تحت وطأة التعذيب أو اختفى بلا أثر. كان الأمر أشبه بالبحث عن أطياف تتلاشى في الظلام، وأحاول أن ألمس ظلّهم عبر الحكايات القديمة والذكريات الباهتة.

● ترك أثر إنساني:
كنت أرنو إلى أن أترك خلفي كلمات تنطق بحكاياتي، تكون شاهدة صادقة على حياتي وما مررت به. كتبت بشغف عن طفولتي التي حملت بين طياتها ذكريات محفورة بنقاء وبساطة، عن أبي الذي كانت ابتسامته لا تفارقه، رغم أنه كان يعود إلى البيت منهكًا من التعب. كانت تلك الابتسامة كملاذ صغير، تعكس قوة الصبر والحنان رغم ثقل الأيام.
وعن أمي، التي كانت تسقي الأزهار بحنانها وتشكّلها بلطف على خصلات شعر شقيقاتي. رغم مرضها، لم تكن تفارقها العزيمة؛ كانت تواظب على إعداد أطباق لساكني الحي المجاور، كتعبير صامت عن محبتها ورغبتها في المشاركة والعطاء. كنت أروي أيضًا عن المدن والبلدان التي سرقت مني طفولتي، عن المسافات والظروف التي فصمت بيني وبين عالم البراءة والأمان.
أردت أن تكون هذه الكتابات نافذة صغيرة، تفتح لمن يستهويه الحنين إلى الماضي، أو من يرغب في العودة إلى من سبقوه، نافذة تطل على دروس الحياة في مواجهة الزمن المتغير. كتاباتي لم تكن مجرد سرد، بل محاولة للحفاظ على إنسانية تموج في تفاصيل الحياة اليومية، تروي قصصًا من رحم الألم والأمل.

● كبرت فجأة:
شعرت بدهشة كبيرة عندما أدركت أنني في الخمسين من عمري. لم تأتِ هذه الدهشة من عدد السنوات بحد ذاته، بل من الطريقة التي مرّت بها الحياة دون أن ألحظ تسارعها. وكأنني كنت أعبر الوقت بعينين مغمضتين، أركض من محطة إلى أخرى، دون أن ألتفت إلى تلك العلامات التي كانت تخبرني: “لقد كبرت.”
ما زلت أعيش كأنني في مقتبل الشباب، لا زوجة، ولا أطفال، ولا حتى قطة أو فراشة تحط على كتفي لتمنحني وهم الانتماء إلى كائن آخر. كانت حياتي مليئة بالتأجيلات: سأرتبط لاحقًا، سأستقر لاحقًا، سأكوّن أسرة لاحقًا… حتى لاحقًا هذه، شاخت دون أن تعود.
ورغم كل ذلك، سعيت إلى بلوغ حالة من الرضا؛ لا ذلك الرضا الصاخب الذي يدّعي الاكتمال، بل ذلك الهادئ، المتصالح مع هشاشة التجربة. تأملت ما أنجزته، وما لم يُنجز. نظرت إلى الفراغات في أيامي، لا كإخفاقات، بل كهوامش لم تُكتب بعد.
كنت أبحث عن مغزى لا يتوقف عند فكرة التملك أو الإنجاز التقليدي. أردت أن أؤمن بأن للحياة أشكالاً متعددة من الامتلاء، وأن افتقادي للأبوة أو الشراكة لا يعني أنني عشت ناقصًا، بل يعني أنني عشت بشكل مختلف. في هذا التأمل، وُلدت بذور السلام مع الذات، ومع الزمن، ومع العالم الذي لا يتوقف عن الدوران.

● التصالح مع فكرة النهاية:
لكن وسط هذا كله، كانت فكرة النهاية تتسلل إلى عقلي كل ليلة، كضيف ثقيل لا يمكن طرده. كنت أسأل نفسي: كيف يمكن للإنسان أن يتصالح مع موته؟ هل الخوف من الفناء أمر طبيعي، أم أنه انعكاس لعدم قدرتنا على استيعاب الحياة نفسها؟
وجدت الإجابة في لحظة غير متوقعة. كنت أجلس أمام نهر خف ماؤه، تمنيته بحراً، ذلك الامتداد الشاسع الذي يبدو بلا بداية ولا نهاية. فجأة شعرت بأنني جزء من هذا الكون العظيم، جزء من دورة لا نهائية من الخلق والفناء. شعرت بالسلام، لأول مرة، كأنني أدركت أن الموت ليس سوى صفحة في كتاب، وأن الأهم هو ما نكتبه على تلك الصفحات قبل أن نصل إلى النهاية.

● صياغة ذكريات جديدة:
أردت أن أجرب كل ما كنت أؤجله طوال سنوات طويلة، كما لو أني أفتح أبوابًا مغلقة على مصراعيها أخيرًا. كان السفر حلمًا قديمًا يتردد في داخلي، أماكن لم تطأها قدماي قط، أرسم في خيالي ألوانها وأصواتها، لكن مخاوفي القديمة كانت تقيدني كأصفاد غير مرئية. مخاوف من المجهول، من الفقد، وربما من نفسي ذاتها.
فكرت في أولئك الذين أساؤوا لي، في تلك العلاقات التي قطعت أو ذبلت بمرور الوقت. رغبت أن أقترب منهم، أواجههم، أقول بصراحة وصدق: “كم تمنيت لو لم ينقطع تواصلنا، وكم كنت أتمنى أن تبقى الجسور بيننا قائمة رغم كل شيء.” لم يكن الهدف إحياء خلافات قديمة، بل لزرع بذرة صلح كانت تنمو بهدوء في داخلي.
أدركت أن الذكريات التي نصنعها اليوم هي الكنز الحقيقي، هي ما سيبقى بعد رحيلنا، هي التي تصنع إرثنا في قلوب من نحب ومن نمر بحياتهم. لذلك بدأت أزرع لحظات جميلة مع كل من ألتقيهم، سواء كانوا قدامى أو جدد، لأن الزمن لا ينتظر أحدًا، ولأن ما نعيشه الآن هو ما سيُروى بعد حين.
كانت تلك اللحظات بمثابة مقاومة صامتة لعدمية الفقدان، محاولة لصنع بصمة لا تمحى، ولو صغيرة، في رحلة الحياة.

●الإجابات في الوجوه البسيطة:
بينما كنت أتنقل بين الناس، وجدت نفسي أراقبهم بعين مختلفة. وجه الفلاح العجوز الذي يحرث الأرض، عينيه تعكسان دهراً من التعب والحكمة. المرأة التي تجلس أمام بيتها تغزل الصوف، أناملها تنسج ما يشبه خارطة عمرها. الطفل الذي يلعب بلا مبالاة، صوته يحمل طهارة لا يدركها. كنت أبحث عن الأثر الذي يتركه هؤلاء الناس في هذا العالم، أثر ربما لا يُرى لكنه يبقى.
هل تُقاس أهمية الإنسان بإنجازات عظيمة، أم بتلك اللحظات الصغيرة التي تصنع الفرق في حياة الآخرين؟ هذا السؤال ظل يرافقني، يشعل في داخلي ناراً هادئة تدفعني للاستمرار.

● قدرة الألم على التغيير:
أدركت أن الألم الذي حملته داخلي ليس لعنة، بل هدية خفية. كان هذا الإدراك كالشرارة التي أشعلت في داخلي رغبة في فعل شيء مختلف، أن أجعل من معاناتي وسيلة لتغيير واقع آخر. قررت أن أستخدم ما تبقى من وقتي لصنع فارق حقيقي.
كانت البداية بتقديم المساعدة للمحتاجين. نظمت لقاءات صغيرة للأطفال لتعليمهم القراءة والكتابة، محاولة أن أمنحهم فرصة لفهم العالم بشكل أوسع مما أتيح لي في طفولتي. كان في عيونهم شغف خام لم تلوثه تعقيدات الحياة بعد، وكنت أرى فيهم انعكاساً لي.

● المساهمة في المجتمع:
راودتني فكرة أن أهب وقتي لقضية أؤمن بها. لكن عندما راجعت ما ادخرته، اكتشفت أنه لا يكفي لإعادة تأهيل شارع او مدرسة او حتى عائلة مهجرة. بقيت بين يدي كلمات غير مكتملة، وقصائد تبحث عن معنى.
ثم قررت أن أبدأ مشروعًا صغيرًا. جمعت الأطفال في الحي الذي كنت أسكن فيه، وحاولت تعليمهم الكتابة. كنت أقول لهم: “الكتابة ليست مجرد حروف على الورق. إنها نافذة إلى عوالم لا نهائية. إنها طريقكم للهروب من الألم، ولإيجاد أصواتكم الحقيقية.”
رأيت في عيونهم ذلك الشغف الذي كنت أفتقده في نفسي. رأيت كيف كانوا يمسكون الأقلام بأيدٍ مرتجفة وكأنهم يكتشفون سحرًا جديدًا. شعرت أنني أترك شيئًا حقيقيًا، شيئًا يمكن أن يستمر بعدي.

راودتني فكرة أن أهب ما تبقى من وقتي لقضية أؤمن بها، أن أضع نفسي في خدمة المعنى لا المكافأة، للضوء لا للضجيج. كنت أظن أن البذل لا يحتاج إلا إلى نية صافية، حتى واجهت الحقيقة الباردة: ما ادخرته طوال هذه السنوات لا يكفي لإعادة تأهيل عائلة مهجّرة لعام واحد، لا يكفي لبناء سقف من الزنك، ولا حتى لشراء بطانية لأم تحتضن أطفالها في برد المخيم. كان لدي الكثير من النوايا، لكن جيبي كان خفيفًا.

بقيت بين يدي كلمات غير مكتملة، وقصائد تبحث عن معنى، وأحلام مؤجلة تتراكم في زوايا القلب مثل دفاتر قديمة تنتظر من يفتحها. شعرت للحظة أنني بلا جدوى، أن العالم يمضي بثقله وأنا لا أملك سوى اللغة. لكن اللغة نفسها، تلك التي كنت أهرب إليها في ساعات وحدتي، بدأت تهمس لي بأن الأثر لا يُقاس دائمًا بالحجم، بل بالصدق.

● المساهمة في المجتمع:

المساهمة في المجتمع:

راودتني فكرة أن أهب ما تبقى من وقتي لقضية أؤمن بها، أن أضع نفسي في خدمة المعنى لا المكافأة، للضوء لا للضجيج. كنت أظن أن البذل لا يحتاج إلا إلى نية صافية، حتى واجهت الحقيقة الباردة: ما ادخرته طوال هذه السنوات لا يكفي لإعادة تأهيل مدرسة او إكساء بعض من عوائل مهجرة . كان لدي الكثير من النوايا، لكن جيبي كان خفيفًا.

بقيت بين يدي كلمات غير مكتملة، وقصائد تبحث عن معنى، وأحلام مؤجلة تتراكم في زوايا القلب مثل دفاتر قديمة تنتظر من يفتحها. شعرت للحظة أنني بلا جدوى، أن العالم يمضي بثقله وأنا لا أملك سوى اللغة. لكن اللغة نفسها، تلك التي كنت أهرب إليها في ساعات وحدتي، بدأت تهمس لي بأن الأثر لا يُقاس دائمًا بالحجم، بل بالصدق.

قررت أن أبدأ صغيرًا. مشروعًا يشبهني، هشًا في ظاهره، لكنه مملوء بالإصرار. جمعت الأطفال في الحي الذي كنت أسكن فيه، أولئك الذين قذفتهم الحرب خارج المدارس، والذين لا يعرفون من القراءة إلا لافتات الإغاثة. جلست معهم على الأرض، لا طاولات ولا سبورات، فقط دفاتر مستعملة وأقلام نصف مستهلكة. كنت أقول لهم: “الكتابة ليست مجرد حروف على الورق. إنها نافذة إلى عوالم لا نهائية. إنها طريقكم للهروب من الألم، ولإيجاد أصواتكم الحقيقية.”

رأيت في عيونهم ذلك الشغف الطازج الذي افتقدته طويلاً في نفسي، شغف من يكتشف الحياة لأول مرة عبر كلمة أو جملة. كانوا يمسكون الأقلام بأيدٍ مرتجفة، كأنهم يخشون أن تفرّ منهم اللغة كما فرّ منهم الوطن. لكنني رأيت الأمل يتشكل بهدوء على أطراف دفاترهم. لم أكن أعلم هل كنت أعلّمهم أم أتعلم منهم.

في تلك اللحظات، شعرت أنني أترك شيئًا حقيقيًا، شيئًا صغيرًا لكنه صلب، كحجر يُلقى في بركة راكدة فيحرّك المدى. ربما لن أستطيع أن أبني مدرسة، أو أنقذ مخيمًا بأكمله، لكنني استطعت أن أزرع بضع كلمات في تربة أرواحهم. كلمات قد تنمو يومًا وتصبح شجرة ظل، أو قصيدة، أو حتى وطنًا جديدًا.

● وجه الألم في طوابير اللاجئين: أطفال كبروا في سنوات حرب لا ذنب لهم فيها، نساء مترملات، وشباب هرموا فجأة. اليوم، يتأهبون للعودة إلى بيوتهم المدمرة. جموع طويلة من الناس يذرفون دموع الفرح أو الحزن.
لكن خلف هذه الطوابير، خلف كل دمعة وفرحة، تكمن قصصٌ لا تُروى بسهولة، قصص الغرق في بحار لا ترحم، حيث غاصت قواربهم الصغيرة بين أمواج الموت، يفتقدون الأحبة الذين غابوا كأحلام ضائعة في عمق المياه، دون أن يُترك لهم أثر أو ذكرى سوى الأمواج التي تبتلعهم.
وفي بلاد الجوار، لم تنته معاناتهم. هناك، يقفون أمام جدران العنصرية التي تحيط بهم كظلال قاتمة، يُنظر إليهم كغرباء لا مكان لهم، رغم أنهم نزحوا باحثين عن مأوى يحمي عائلاتهم من نار الحرب. القوانين تتغير، والتهديد بالترحيل يعلو، فيصير اللاجئ ضيفًا غير مرحب به، يُطرد من باب ويُرفض عند آخر، ليجد نفسه محاصرًا بين خوف الفقد ومرارة الغربة.
وبطبيعة تجربتي في العمل التطوعي أحياناً، وأحياناً كباحث عبر المنظمات الحقوقية، تعرفت على أشكال مختلفة من هذه المآسي؛ كل قصة كانت نافذة تطل على عالم من الألم والصمود، حكايات عن عائلات تشتتت، وأحلام تحطمت، وصراعات داخلية تُخاض على أرض الغربة.
أكثر من ذلك، تتفتت العائلات على طرق التهجير القسرية. أزواج وأزواجٌ تُجبرهم الظروف على الانفصال، أطفال يُتركون في أماكن بعيدة عن ذويهم، ولقاءات تنتظر سنوات لتتحقق، إن حدثت أصلاً. ساعات الانتظار والانتقال الاضطراري تقتل الروح، وتزرع في القلب حسرة عميقة على اللقاءات المؤجلة والحضن الحاني الذي يناديهم في الأحلام.
هذه الطوابير ليست مجرد أناس ينتظرون، بل هي أرواح تكافح بين زمنين: زمن فقدان الأمان، وزمن البحث المستمر عن الرجوع إلى وطن يشتعل بشوقهم رغم كل الدمار. وهؤلاء الذين يقفون هناك، بقلوب منهكة وأعين دامعة، يحملون معهم أكثر من حقيبة أو صُندوق صغير. يحملون ذاكرة ألم لا تُمحى، وحكايات صبر وعزيمة تتحدى الخراب.

● هل أنا في دمشق ؟
كنت أنتظر، محاولاً استيعاب حركة هذه الجموع ولهفة الانتقال من غيبوبة خمسة عقود، إن صح تسميتها. مرت أيام وأنا أراقب كل ما يحدث بذهول، حتى شعرت أن الوقت قد حان لأعود إلى جذوري، لأعاين نفسي كأحد العائدين، بعيداً عن صخب المحمولين على الأكتاف برفقة “عراضة” سورية. استقليت طائرة متجهة إلى بلدي.
أدركت أنني وصلت دمشق لتوي. وأنا في فناء صالة المطار، استوقفني شاب ليسألني عن سنوات غيبتي التي امتدت لعقدين، وعن انتمائي لتجمع سياسي، أو إن كان لدي مآخذ على التحول الجديد في البلاد. همست في أذنه: “أنا لا شيء… أنا مثل ملايين الناس الذين كانوا سبباً في سقوط هذه التماثيل التي حكمت بالعنف والتوحش. أمثالي، يا ابن بلدي، يسجلون أحلامهم كي يعيش غيرهم.” ثم ابتسمت له وتابعت سيري.

بعد أن غادرت المطار وتجولت في شوارع المدينة، فجأة ارتطم رأسي بقطار معطل أو حافلة جنود متوقفة بالقرب من “مقهى الروضة” – لا أدري بالضبط. لكنني نهرت نفسي لأستيقظ من شرودي الطويل، شرود من كان يعيش شخوص أحلامه.
كانت العودة إلى دمشق تجربة مختلفة تمامًا عما توقعت. رغم أنني كنت أعيش على طيف يستقر في الماضي، إلا أن المدينة بدت لي غريبة، كأنها تقف بين صخب الحياة ومكاسرة الإرادة. الجدران كانت تحمل ندوب الحرب، والأسواق كانت تعج بالناس الذين يحملون على وجوههم آثار معاناة طويلة. وجوه الرجال تبدلت، دقون مهملة إلى جانب سيارات ومكبرات صوت تشوش على حركة المدينة.
ومع ذلك، شعرت أنني أنتمي لهذا المكان بطريقة لا يمكن تفسيرها. أو ربما أنتمي إلى لحظات مضت قبل سنوات طويلة، لحظات كانت الكلمة فيها تخفي الإنسان في أقبية المجهول.
جلست في مقهى الروضة، المكان الذي كان يومًا ملاذي للتأمل والهروب من الضجيج. نظرت إلى الزبائن من حولي، وشعرت وكأنني أراقب نسخًا مختلفة من نفسي: ذلك الرجل المسن الذي يجلس وحيدًا، الشاب الذي يتحدث بحماس عن المستقبل، والفتاة التي تكتب في دفتر صغير.
بدأت أفكر في أن الوطن ليس مجرد مكان، بل هو كل تلك التفاصيل الصغيرة التي تشكل ذاكرتنا. كل وجه، كل شارع، كل لحظة، هي جزء من هويتنا التي لا يمكن محوها.
فجأة لاحظت يدي تقبض على الهاتف، وبدأت أرتب نفسي لأعود إلى الواقع، حين سمعت صوت شجار عنيف يصل إلى مسامعي، وكذلك صوت تحطيم الزجاج، وأجهزة إنذار الحريق تصفر في أرجاء البناء. حتى القطط والسناجب كانت تتقافز، وطيور الليل تجمعت على نافذة المنزل. فجأة تذكرت أنني نسيت التلفاز مفتوحًا، وأن المشاهد العنيفة قد تسللت إلى رأسي. ولتوي استيقظت من نوم عميق. فكانت دمشقنا التي أريدها حاضرة حتى في نومي.
نهضت على الفور وجهزت نفسي للخروج إلى العمل، ثم تذكرت أن اليوم هو عطلتي الأسبوعية. فتحت النافذة وصرخت: “أنا لم أمت بعد! ينبغي أن أكتب حكايتي في المستقبل!”

أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق