أحمد سليمانتقارير حقوقيةحواراتزملاء

بينَ طائري العُقابِ والعَنْقاءِ: مَن يُجَسِّدُ رُوحَ سُوريا؟

في لحظة مفصلية، لا تزال فيها ملامح الدولة السورية تتشكّل بعد سنوات من الثورة والانهيار، فُرض شعار الدولة الناشئة كأمر واقع: طائر العُقابِ يعود رسميًا إلى الوثائق، الأختام، والهوية البصرية، من دون نقاش علني أو مشاركة مجتمعية. القرار جاء تقنيًا في ظاهره، لكنه عميق التأثير في رمزيته.

النقد هنا لا يطال الجانب الفني للتصميم فحسب، بل يذهب إلى عمق الرسالة التي يحملها الرمز. فالعُقابِ، وإن بدا طائرًا مهيبًا، يبقى مرتبطًا في الوجدان السوري بتاريخ قمعي طويل منذ اعتماده في ثمانينات القرن الماضي، عندما تحوّل من عنصر زخرفي إلى أداة لتلميع صورة النظام الأسدي.

هذا الطائر لم يعكس يومًا تطلعات الناس بقدر ما مثّل سطوة السلطة منذ ايام الطاغية الأكبر حافظ الأسد. رمزيته فوقية، لا تنبع من وجدان الشعب، بل من سرديات القوة والهيمنة. وهو أيضًا ليس خاصًا بسوريا، بل مشترك مع دول عديدة (من مصر إلى ألمانيا)، ما يجعله رمزيًا مألوفًا، لكنه باهت الصلة بالخصوصية السورية.

العَنْقاءِ رمز النور:
في المقابل، لو أُتيح للسوريين أن يختاروا رمزًا يعكس محنتهم الفريدة، لما وجدوا أصدق من طائر العَنْقاءِ. ذلك الكائن الأسطوري، الذي يموت احتراقًا ثم يُبعث من رماده، يُجسّد بدقة الحالة السورية: الخسارة، الاحتراق، الشتات، ثم الإصرار على النهوض من الركام.

العَنْقاءِ ليست مجرّد خيال شعري، بل رمزٌ ضاربٌ في الميثولوجيا العالمية، من اليونان إلى أوروبا، حيث ظهرت كطائرٍ يحترق ثم يُبعث من رماده، معبّرة عن الخلود والانبعاث. وقد انتقلت صورتها لاحقًا إلى الثقافات العربية، وظهرت في الآداب كرمز للتطهّر والنهوض. اليوم، تبدو هذه الرمزية أقرب ما تكون إلى التجربة السورية نفسها:

وطن احترق بالكامل، لكنه لا يزال يبحث عن ذاته بين الرماد. ولعل قوة هذا الرمز تكمن في قابليته للتوطين، إذ يمكن أن يتحوّل إلى استعارة بصرية جديدة، تعبّر عن خصوصية شعبٍ يريد أن ينهض بلا وصاية، ويصوغ رموزه بيده.

ورمزية العَنْقاءِ تُقابل العُقابِ من حيث الدلالة: فبين أجنحة العُقابِ الثقيلة، المحمّلة بتاريخ سلطوي قاتم، وأجنحة العَنْقاءِ التي تنهض من الرماد نحو الشمس، يكمن الفرق بين ماضٍ اختنق في الاستبداد، ومستقبلٍ يبحث عن النور والكرامة.

لم يكن المطلوب استبعاد العُقابِ بحديث مضاد، بل محاولة لفهم ما يحدث وفتح النقاش الرمزي مجددًا:

من يُجسّد سوريا اليوم؟ هل نتمسّك برمزٍ أُهينت تحته الذاكرة الجماعية، أم نختار رمزًا يولد من جوف المحنة؟

لا يوجد رمز محايد. كل خطّ يحمل موقفًا، كل طائر يحمل رواية. وكان من الطبيعي — بل الضروري — أن يُطرح أكثر من خيار، وأن تُنظّم مسابقة شفافة، تُشارك فيها الأصوات المختلفة، لا أن يُفرض نموذج وحيد بحجّة “الإجماع” الغائب.

أخيرًا:

لا أحد فوق النقد. ومن يلجأ للتهديد أو التخوين حين يُطرح خلاف رمزي أو بصري، يُعيد إنتاج منطق الإلغاء ذاته الذي ثار السوريون ضده. سوريا الجديدة تحتاج إلى رموز تنبع من جراح الناس، لا تُفرض عليهم باسم الإجماع أو التاريخ أو السلطة.

أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق