أحداث الساحل – قراءة في نتائج لجنة تقصي الحقائق وتوصيات لضمان الإنصاف والمساءلة

أولاً: مدخل عام
تُعدّ أحداث الساحل السوري التي اندلعت في مارس/آذار 2025 واحدة من أخطر النكبات الوطنية ذات الطابع الطائفي في التاريخ السوري الحديث، لما تخلّلها من انتهاكات جماعية جسيمة بحق المدنيين، طالت أرواحهم وكرامتهم وممتلكاتهم من جميع الأطراف، وتمثّلت في:
●إعدامات ميدانية خارج نطاق القانون.
●تهجير قسري واسع النطاق، مع حرق منازل ومؤسسات دينية ومدنية.
●انتهاكات جنسية موثّقة بحق نساء وفتيات، في سياق تطهيري وانتقامي.
●خطاب طائفي تحريضي مباشر، مسجّل بالصوت والصورة، يحضّ على الثأر والكراهية.
وتُظهر الشهادات الميدانية وتقارير منظمات حقوقية مستقلة أنّ هذه الانتهاكات ارتُكبت من قِبل مجموعات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة من الجانبين، فضلًا عن عناصر من فلول الأجهزة الأمنية والميليشيات المرتبطة بالنظام السابق، في سياق انتقامي خطير استهدف مجتمعات محلية على خلفية طائفية، وعمّق شروخًا وطنية واجتماعية يصعب ترميمها دون مساءلة وإنصاف شاملين.
ثانيًا:موقف لجنة التحقيق وتقريرها النهائي
اطلعنا على التقرير الصادر عن لجنة تقصي الحقائق، والمسلّم رسميًا إلى رئاسة الدولة في 20 تموز/يوليو 2025. ونُثمن الجهد الكبير الذي بذلته اللجنة في الاستماع للإفادات، وتوثيق عدد من الوقائع رغم ما يحيط بالملف من ظروف سياسية وأمنية معقدة.
وفقا لتصريح اللجنة أكدت بأنها اعتمدت منهجية ميدانية تضمنت زيارة 33 موقعًا في محافظات اللاذقية، طرطوس، وحماة، وجمع 938 إفادة من شهود وضحايا، منها 452 حالة قتل و486 حالة سلب وحرق وتعذيب. كما استمعت إلى 23 إحاطة رسمية، واطّلعت على أدلة رقمية، وحددت أسماء 265 مشتبهًا من فلول النظام، و258 شخصًا من الطرف المقابل، يُشتبه في تورطهم بانتهاكات متنوعة بينها:
●القتل والتعذيب.
●السلب المسلح والانتحال.
●الشتم الطائفي والتحريض.
●الانتهاكات ضد أسرى ومصابين.
●أعمال نهب وانتهاك حرمة المنازل.
وبحسب تقرير اللجنة، فقد بلغ عدد القتلى 1,426 ضحية، بينهم 90 امرأة، وتُرجّح اللجنة أن بعض القتل تم خارج العمليات العسكرية المباشرة، أي كجرائم حرب أو جرائم انتقام.
ومع أهمية هذه المؤشرات، فإننا نرى أن التقرير – بصيغته المعلنة – يعاني من نقاط ضعف جوهرية، يتوجب تجاوزها لضمان التزامه بمعايير العدالة الانتقالية والحق في معرفة الحقيقة. ونوجز أبرز الملاحظات كالتالي:
1. غياب الإعلان العلني للتقرير الكامل ومرفقاته، مما يحول دون تدقيقه من قبل منظمات المجتمع المدني المعنية والمراقبين المستقلين.
2. عدم تسمية أي من المتورطين أو الجهات المسؤولة، والاكتفاء بلغة عامة دون الإشارة إلى مسارات قضائية محددة للمحاسبة.
3. تجاهل وقائع محورية، منها تسلسل المسؤولية الزمنية في ارتكاب المجازر، وبخاصة البدايات المنسوبة إلى عناصر النظام السابق، فضلًا عن عدم التطرّق إلى شهادات موثقة بشأن الانتهاكات الجنسية.
4. عدم وضوح تصنيف الانتهاكات بين الجرائم الفردية والأوامر المؤسسية، وهو ما يعيق معرفة مدى تنظيمية الجرائم أو ارتجاليتها.
5. غياب تمثيل منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني في صياغة التوصيات، ما يُضعف الثقة المجتمعية بنتائج التقرير.
ثالثًا: توصيات عملية لإنصاف الضحايا وتحقيق العدالة الوطنية
انطلاقًا من مبدأ الشراكة المجتمعية، والحق في المحاسبة دون انتقائية، من المفيد اعتماد الحزمة التالية من الإجراءات العملية:
1. إحالة كل من تثبت مسؤوليته – من جميع الأطراف – إلى محاكم وطنية مختصة، علنية وشفافة، بعيدًا عن المحاكم الاستثنائية أو ذات الطابع السياسي.
2. تشكيل هيئة قضائية وطنية مستقلة وخاصة بملف الساحل، يشرف عليها قضاة مشهود لهم بالنزاهة، لا يرتبطون بماضٍ أمني أو سياسي، وتخضع لرقابة مدنية.
3. ملاحقة المتورطين الفارين خارج البلاد، عبر التعاون مع الإنتربول، ومنظومة العدالة الدولية، وضمان عدم الإفلات من العقاب.
4. إنشاء لجنة وطنية دائمة لحقوق الإنسان، تضم:
●شخصيات حقوقية وقانونية مستقلة.
●ممثلين عن منظمات المجتمع المدني وأهالي الضحايا.
●ناشطين حقوقيين لا ينتمون إلى أي طرف سياسي أو عسكري.
●مراقبين من منظمات حقوقية دوليية بصفة استشارية لضمان الشفافية والتوازن المؤسسي.
5. إطلاق خطة مصالحة وطنية متكاملة تشمل:
●الاعتراف بجميع الضحايا المدنيين دون تمييز.
●تعويض المتضررين ماديًا ومعنويًا.
●تسهيل عودة المهجّرين قسرًا.
●تجريم التحريض الطائفي وتجفيف منابعه في الإعلام والتعليم والدين.
●تجريم حيازة السلاح خارج إطار الدولة.
رابعًا: الدعوة إلى التوازن والإنصاف
إن العدالة لا تتحقق بمحاكمة طرف وتجاهل آخر، بل تقوم على الاعتراف المتساوي بالضحايا، بغضّ النظر عن انتماءاتهم، وعلى ضمان محاسبة جميع المتورطين في الانتهاكات دون تسييس أو تسوية.
ولا يقتصر التحدي على التوثيق، بل يشمل ترجمة هذه الوثائق إلى إجراءات قضائية شفافة، وتأسيس بنية حقوقية وطنية راسخة تضمن عدم تكرار هذه الانتهاكات مستقبلًا، وتحول دون توظيفها سياسيًا أو طائفيًا في أي سياق قادم.
أحمد سليمان
●الملف صادر عن “نشطاء الرأي”