العدالة المُعلّقة: الأسد نجا من التوقيف لا من المحاكمة

قرار محكمة النقض الفرنسية إبطال مذكرة التوقيف الصادرة بحق بشار الأسد لا يمكن اعتباره مجرد إجراء قانوني بارد. هو لحظة حاسمة في اختبار ضمير العدالة الأوروبية، بل في مصداقية القيم التي تتباهى بها فرنسا خاصة، بصفتها بلد حقوق الإنسان والثورة على الطغيان.
المحكمة لم تقل إن الأسد بريء. لم تُنكر استخدامه السلاح الكيميائي، ولا شككت في مسؤولية النظام السوري عن واحدة من أبشع المجازر في القرن الحادي والعشرين. المحكمة اكتفت بقول إن الأسد كان رئيسًا أثناء وقوع الجريمة، وإن القانون الدولي يمنحه “حصانة مؤقتة”. هكذا، وببساطة، تم تعليق روح العدالة على بند قانوني جامد، وكأن من يملك السلطة يملك معها حق القتل دون حساب، حتى إشعار آخر.
●هل العدالة مسألة توقيت؟
نعم، من الناحية التقنية، استندت المحكمة إلى سابقة دولية (قضية الكونغو ضد بلجيكا عام 2002)، والتي تنص على أن رؤساء الدول يتمتعون بالحصانة القضائية أثناء توليهم المنصب، حتى أمام قضاء دول أخرى. لكن فرنسا كانت قد تجاوزت هذا القيد جزئيًا سابقًا، حين أصدرت مذكرة التوقيف الأولى ضد الأسد عام 2023 في سابقة قانونية غير مسبوقة. واليوم، حين تتراجع، فهي لا تفعل ذلك فقط بحجة “احترام القانون الدولي”، بل ترسل إشارة مقلقة: أن القوانين يمكن أن تُستخدم أحيانًا لإخماد مطالب العدالة، لا لتحقيقها.
●الضحية تُدان… لأن القاتل لا يزال في منصبه
أي رسالة توجهها فرنسا اليوم للسوريين؟ أن قتل المدنيين بغاز السارين ليس جريمة إذا ارتكبه “رئيس دولة”؟ أن الأطفال الذين اختنقوا تحت الأغطية في الغوطة ليس لهم مكان في دفاتر العدالة؟ هل ننتظر أن يغادر الطغاة مناصبهم لنفتح ملفاتهم، أم علينا أن نطوي جرائمهم لأنهم ما زالوا على الكرسي؟
ما قالته المحكمة، ضمنيًا، هو أن المجازر لا تُحاكم إن ارتكبها من يملك سلطة الدولة، وهذا يعيدنا قرنًا إلى الوراء، حين كانت السيادة حجة للإفلات من العقاب.
●ألمانيا فعلت ما لم تفعله باريس
في المقابل، سلكت ألمانيا مسارًا مختلفًا. عبر محكمة كوبلنز، أدانت مسؤولين كبار في أجهزة النظام السوري، أبرزهم أنور رسلان، بجرائم ضد الإنسانية، اعتمادًا على شهادات لاجئين وأدلة موثقة. هذه المحاكمة لم تكن رمزية، بل كانت إعلانًا بأن لا أحد فوق القانون، وأن العدالة يمكن أن تكون عابرة للحدود حين تعجز المؤسسات الدولية.
ألمانيا لم تبرر. لم تختبئ خلف “الحصانة”. بل قالت إن من ارتكب الجريمة، أيا كان موقعه، يجب أن يُحاسب. وهذا الموقف هو ما كان يُنتظر من فرنسا، خاصة وأنها كانت أول دولة غربية تصف استخدام الأسد للسلاح الكيميائي بأنه “جريمة حرب موثقة”.
●هل انتهت المعركة القانونية؟
الإجابة لا. أولاً، قرار محكمة النقض الفرنسية لا يُغلق الباب على الإطلاق. فقد صرّح رئيس المحكمة صراحة أن بشار الأسد لم يعد يتمتع بالحصانة بعد سقوطه في ديسمبر 2024، وبالتالي فإن مذكرات توقيف جديدة قابلة للإصدار في نفس الملف.
ثانيًا، لا تزال هناك مذكرة توقيف أخرى سارية المفعول صادرة عن القضاء الفرنسي، في دعوى منفصلة، رفعها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، بالتعاون مع الضحية الفرنسية–السورية، عمر أبو نبوت، وهي لم تكن محل طعن، ولا تزال نافذة قانونًا.
بل إن قضاة التحقيق في فرنسا يعملون على إصدار مذكرة توقيف ثالثة، بالإضافة إلى دعاوى موازية قد تطال ضباطًا كبارًا في أجهزة النظام. أي أن المعركة القانونية مستمرة، لكن ما خسره القرار الأخير هو الرمز، والتوقيت، والموقف الأخلاقي.
●الحصانة ليست عذراً للقتل
يجب أن نعيد التفكير بمفهوم “الحصانة” ذاته. فهي لم تُمنح لحماية القتلة، بل لضمان استقرار الدولة في العلاقات الدبلوماسية. أما حين تتحول إلى درع يحتمي به المجرمون، فإنها تصبح كارثة قانونية، وأداة لقمع الضحايا مرة ثانية، ولكن هذه المرة باسم العدالة.
●في النهاية: لا عدالة بلا محاسبة
إن إبقاء الأسد بمنأى عن المحاسبة، لا يعني فقط تقويض العدالة في سوريا، بل يضرب فكرة العدالة العالمية كلها. فإما أن تكون العدالة مبدأ لا يُجزّأ، وإما أن تصبح مجرد شعار للاستخدام الانتقائي.
الضحايا لا ينتظرون الشفقة، بل الحق. وإذا لم تُحاكمه باريس، فربما تفعل برلين، وإذا تهرّب من لاهاي، فسيلاحقه القانون في إسطنبول، أو في بيروت، أو في دمشق ذاتها حين يسقط جدار الخوف.
لأن الجرائم الكبرى لا تموت… والعدالة، حين تصمت، تتحول إلى شريكة في الجريمة.
أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي