الإعلان الدستوري: بين ضرورته السياسية وتهديده لمدنية الدولة

في النظم السياسية الحديثة، تُستخدم الإعلانات الدستورية كأدوات انتقالية خلال فترات الأزمات أو التحولات الكبرى، لكنها قد تتحول إلى وسائل لترسيخ السلطة إذا لم تُحدد بآليات واضحة تضمن انتقالًا ديمقراطيًا. وعندما يُضاف إلى ذلك قانون طارئ لمكافحة الإرهاب يمنح الدولة سلطات استثنائية، يصبح من المرجح أن تستمر السلطة التنفيذية في التوسع دون قيود، مما قد يؤدي إلى تقييد الحريات العامة وإطالة أمد الحكم بشكل غير ديمقراطي.
1. الحالة السورية: بين الضرورة والاستغلال
بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، تشكَّلت حكومة انتقالية بقيادة محمد البشير، إثر تحالف فصائل معارضة، من بينها “هيئة تحرير الشام”. ورغم وعود القيادة الجديدة بإرساء قيم العدالة والحرية والمساواة، أثارت تشكيلة الحكومة تحفظات، خاصة فيما يتعلق بالمناصب السيادية وغياب تمثيل المرأة، وإن وُجد، يكون تمثيلًا شكليًا لفئة بعينها، دون أن يُحدث هذا الحضور إضافة حقيقية. وقد أدى ذلك إلى تصاعد الانتقادات الحقوقية والمدنية.
مكافحة الإرهاب سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة، تُستخدم لضمان الأمن القومي، لكنها قد تُستغل أيضًا لقمع المعارضة
في ظل هذا المشهد، أعلن الرئيس الانتقالي للبلاد، السيد أحمد الشرع، أن الانتخابات قد لا تُجرى قبل أربع سنوات، مشيرًا إلى الحاجة إلى إجراء تعداد سكاني وصياغة دستور جديد، وهي عملية قد تستغرق ثلاث سنوات على الأقل.وبعد الإعلان استقر الحال بخمس سنوات. هذا الإعلان عزز المخاوف من إمكانية استغلال الإعلان الدستوري وقوانين مكافحة الإرهاب لإطالة أمد الحكم وإضفاء الشرعية على سلطات غير مقيدة إلى ما بعد هذه المادة الطويلة.
الثورة السورية لم تطالب بإسقاط الاستبداد والرصاص لتستبدله بالسيوف والجيوش المتشظية إلى فصائل متناحرة.
2. أدوات السلطة الجديدة: نحو ترسيخ الحكم المطلق؟
أ. الإعلان الدستوري كأداة لتمديد السلطة
عادةً ما تكون الإعلانات الدستورية مؤقتة، لكنها قد تتحول إلى وسيلة شرعية لإطالة أمد السلطة إذا لم تُحدد بآليات رقابية فعالة. وعندما يُمنح الرئيس صلاحيات استثنائية دون أطر زمنية صارمة، يصبح الإعلان غطاءً قانونيًا يُستخدم لقمع المعارضة وتقويض دور المؤسسات التشريعية والقضائية، مما يخلق بيئة استبدادية تحت ذريعة تحقيق “الاستقرار الداخلي”.
ب. قانون مكافحة الإرهاب: أداة للقمع السياسي؟
تمثل قوانين مكافحة الإرهاب سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة، تُستخدم لضمان الأمن القومي، لكنها قد تُستغل أيضًا لقمع المعارضة وتقييد وسائل الإعلام وتجريم أي نشاط سياسي معارض تحت ذريعة “تهديد الأمن القومي”. وعندما يُحصَّن الإعلان الدستوري بمثل هذه القوانين، تصبح معارضة السلطة محفوفة بالمخاطر، مما يؤدي إلى إلغاء الحياة السياسية الفعلية وتحويل النظام إلى حكم فردي مطلق.
ج. الصلاحيات المطلقة للرئيس: غياب التوازن المؤسسي
عندما تمنح النصوص الدستورية المؤقتة الرئيس سلطات غير مقيدة، فإن ذلك يؤدي إلى إضعاف أي فرصة لتداول السلطة أو تحقيق التوازن بين السلطات. يتحول البرلمان والقضاء إلى مؤسسات شكلية تُستخدم فقط لإضفاء شرعية على قرارات السلطة التنفيذية، مما يُمهّد لاستمرار الحكم إلى أجل غير مسمى، حتى لو حافظ النظام على مظاهر مؤسساتية زائفة.
عادةً ما تكون الإعلانات الدستورية مؤقتة، لكنها قد تتحول إلى وسيلة شرعية لإطالة أمد السلطة
3. الحالة الانقلابية: تهديد إضافي للاستقرار
يتزامن الإعلان الدستوري مع ظروف وتطورات خطيرة؛ إذ شهدت سوريا محاولة انقلابية واسعة، قادتها عناصر من فلول النظام السابق بدعم من إيران وروسيا وحزب الله، وشنّت هجومًا على قوات الأمن العام في اللاذقية، مما أسفر عن مقتل 16 شخصًا. وأدت هذه الأحداث إلى هبة شعبية من إدلب وعدة محافظات لمواجهة المحاولة الانقلابية، ونتج عن المواجهات الدامية مقتل ما يزيد عن 1000 شخص، وتخللتها إعدامات ميدانية متبادلة مع وقوع تجاوزات موثقة بحق المدنيين، وهو أمر مألوف في مثل هذه النزاعات، لكنه مدان بشدة.
وردًا على ذلك، أصدر الرئيس بيانًا شدد فيه على محاسبة كل من ارتكب تجاوزات مخالفة لتوجيهات الجيش السوري، حتى لو صدرت عن حلفائه في الفصائل المنضوية ضمن تشكيلات “الهبة الشعبية”، مؤكدًا أن الدولة لن تتسامح مع أي انتهاكات لحقوق المدنيين.
4. نحو مستقبل ديمقراطي أم حكم طويل الأمد؟
عندما تُجمع بين إعلان دستوري غير مقيد، وقوانين استثنائية لمكافحة الإرهاب، وصلاحيات مطلقة للرئيس، يصبح من الواضح أننا أمام نموذج حكم طويل الأمد لا يخضع لضوابط مؤسسية فعلية.
هذا الوضع قد يؤدي إلى انعدام الثقة بين المجتمع والدولة، وتعميق الأزمة السياسية، وتقويض أي فرصة للانتقال الديمقراطي. كما أنه يعزز بيئة القمع ويحد من أي حوار سياسي جاد، مما قد يقود إلى حالة من الجمود السياسي أو حتى أزمات داخلية أعمق.
الإعلان الدستوري واسع وفضفاض تبدو بعض بنوده وكأنها صُممت لحكم يشبه سلسلة مؤتمرات “جنيف” و”أستانا”،
5. هل هناك مخرج؟
لمنع الانزلاق نحو الحكم المطلق، يجب اتخاذ عدة خطوات رئيسية:
ضمان إطار زمني واضح للإعلان الدستوري، يحدد مواعيد قاطعة للانتخابات والانتقال السياسي.
منع استخدام قوانين مكافحة الإرهاب كأدوات لقمع المعارضة، عبر وضع ضوابط قانونية صارمة تضمن احترام حقوق الإنسان.
تعزيز استقلالية المؤسسات الدستورية، لضمان عدم تركز السلطة في يد فرد أو جهة واحدة.
تفعيل دور المجتمع المدني، ليكون رقيبًا على أداء الحكومة الانتقالية ومنع أي انحراف عن مسار الديمقراطية.
في نهاية المطاف، فإن أي نظام سياسي يقوم على صلاحيات استثنائية غير مقيدة قد يحقق استقرارًا مؤقتًا، لكنه يحمل في طياته مخاطر طويلة الأمد تهدد استقرار الدولة والمجتمع على المدى البعيد.
أختم بالقول: بغض النظر عن الظروف الكارثية ومحاولات الفلول الإجرامية للنظام السابق، فإن ذلك لا يبرر المصادقة على إعلان دستوري واسع وفضفاض تبدو بعض بنوده وكأنها صُممت لحكم يشبه سلسلة مؤتمرات “جنيف” و”أستانا”، يقفز عن تطلعات شعبٍ ثار لأجل الحرية والكرامة. الثورة السورية لم تطالب بإسقاط الاستبداد والرصاص لتستبدله بالسيوف والجيوش المتشظية إلى فصائل متناحرة. اليوم، يُوظَّف الدستور لخدمة فرد يُمثل جماعة انتخبته، بينما الشعب السوري، الذي دفع أثمانًا باهظة في سبيل حريته، لم يكن طرفًا في هذا الاختيار. ولم يكن لممثلي هذا الشعب وقواه المدنية والثورية أي دور حالي أو مستقبلي في تقرير شكل وهوية الدولة.
احمد سليمان
المصدر : نشطاء الرأي