زملاء

أحمد يوسف : التعليم في زمن البعث

 يقول فيكتور هيجو: افتح مدرسة تغلق سجنا. وهذا ما قد ينطبق على كل المدارس إلا على مدارسنا في زمن البعث فهي السجن ذاته. وكانت تجربتي الخاصة بالتدريس استثناء يتيما يؤكد القاعدة. ففي سنة 1994 قادتني زيارة خاصة الى الرقة، مدينة مولدي، لأن اصبح استاذا وأنا الخارج للتو من الثانوية العامة. كانت مدرستي التي اسستها انا نفسي في مكان خارج الجغرافيا والتاريخ في قلب البادية الس

ورية. وكنت فيها المدرس الوحيد والمدير والمستخدم في نفس الوقت. ومن مهامي الاستاذوية كان تعليم الاطفال والتبصير بالفنجان وقراءة الكف وكتابة الحجب. وكان علي بالإضافة الى ذلك ان اتأقلم مع عمليات التنقل المستمرة من مكان تشرق فيه الشمس من الغرب الى مكان تشرق فيه من الشمال. واحفظ من تجربتي العجائبية كأستاذ رحالة قصتين سأحتفظ بهما سرا حميما لن ابوح به لأحد لأنه لا يمكن لعاقل ان يصدق انه في يوم من ايام الشتاء اتت مها راكضة وهي تقول: يا استاذ تعال الكل ينتظرك. ومها هذه كانت احدى تلميذاتي وهي اخت خميس. سحبتني من يدي على عجالة وكأنها تسحب داية باتجاه عملية توليد مفاجئة. كان اغلب اهل القبيلة في بيت هزاع ابو خميس. 
وكان ابو خميس منتفخا فخرا كديك رومي. بينما كان خميس جالسا في وسط البيت، محاصرا بالناس من كل الجهات كمحاصرة سحرة فرعون لموسى. وكان ممسكا بورقة قيل انها رسالة اتت من الخليج. الجو بدا اشبه ما يكون بطقس من طقوس استدعاء الارواح. ولو كتب لهمروس اليوناني الحياة لسطر في هذه الواقعة أفضل ملاحمه. قال ابو خميس لابنه: اقرأ يا بني. كانت هي المرة الخامسة التي يقرأ بها خميس ذات الرسالة. وأخذ خميس يقرأ وكأنه يرتل قرآنا. لا شيء بالرسالة مهم. كل ما فيها كان سلامات وذكر اسماء وتفاصيل لا معنى لها. الحدث المهم في هذه القصة هي فعل القراءة ذاته. ففك الحرف معجزة لا يدرك قيمتها إلا الراسخون بالأمية. هذه كانت ثمرة جهودي المضنية خلال شهور من التدريس في بادية لا نعرف فيها من عطلة وطنية ولا نميز فيها بين جمعة وسبت.وهكذا اصبح اخيرا للقبيلة من يقرأ لها رسائلها.
والقصة الثانية مفادها انه جرت العادة ان يبقى رجلا في القبيلة اذا خرج الرجال منها لطلب ماء او لبحث عن مرعى جديد. لم يكن هذا لخوف من غزو بل من المخابرات. كانوا يقومون بغزوات امنية يسمونها بالزيارة يحملون كتبا للبيع لأناس لا يقرؤون. كان حظي انني كنت رجل البيت في احدى الغزوات الامنية تلك. اتوا حاملين كتابا عن فكر القائد الفذ. حاولت ان لا ادفع ثمنه متحججا بأعذار غير مقنعة مفادها انه لا احد في القبيلة يعرف القراءة. وحين قيل لي: بيتعلموا. سارعت بالرد بأنه لا نقود لدينا. انتهى سجالنا اللامتكافئ بان اخذ حامل كتاب فكر سيد الوطن بالتهديد والوعيد فتدخلت أم متعب كي تحل خلافنا. وكانت ام متعب تلك عجوزا ثقيلة الحركة لم يتبق من غابر عزها، بعدما اصاب اهلها وباء الفقر، سوى بعض ثيابها الجميلة القديمة ورقي الاميرة في الكلام والتعبير. لم يكترث حماة الوطن للباقتها فكل ما كان يهمهم هو مالها. استعجلها قائد حملتهم بطلب المال قائلا: خلصينا. اخرجت ام متعب من جيبها خرقة مطرزة وملفوفة بخيط من حرير. بدأت بفكه ويداها ترتجفان مطلقة كلمة يا رب وكأنها تستجدي عونا الهيا. اخرجت ورقتين نقديتين بقيمة الخمس مئة ليرة.والفقراء حتى نقودهم تشبههم. فقد كانت الاوراق النقدية قديمة متلفة مرقعة بلصيقات وكأنها كفن. لم يتردد زعيمهم من أخذ النقود والرحيل وهو يهمهم بكلمات تذمر وامتعاض. عندما سردنا القصة لحفيدها محمد(ابو جاسم) والذي لا يعرف القراءة والكتابة، حمل الكتاب قائلا: هذا الكتاب لي. ولم يمض اكثر من شهر حتى انتشرت جميع صفحات كتاب قائدنا المفدى على جميع الاماكن التي قضى بها ابو جاسم حاجته.
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق