ميشيل كيلو : في مراجعة المفاهيم و المحددات التاريخية – حـــوار منشــور في العام 2003
-
من أكبر عيوب السياسة العربية في المشروع الثوري النهضوي العربي الذي مررنا فيه أنه تأسس على مسائل اجتماعية واقتصادية وسياسية لكنه لم يقم على أرضية مشروع ثقافي كبير مهد له بتغيير الوعي
-
حكوماتنا وأنظمتنا لا تتعرض لمؤامرات خارجية، هي تتعرض لضغوط تستغل نقاط الضعف البنيوية، فلو كانت أنظمة ديمقراطية لما ابتزها أحد ديمقراطيا
-
الدولة القومية ألغت فكرة حقوق الإنسان وألفت فكرة المواطنة. المشكلة أننا يجب أن نعيد النظر في كل البديهيات
-
نحن لا نمارس السياسة، بل نمارس التسلط باعتباره عملا عاما
الحوار مع د. ميشيل كيلو يلامس الأفكار التي لا تستطع الخروج إلى الضوء، خصوصا بما طرحه حول حقوق الانسان العربي الغائبة والمعدومة لا المنتهكة، و الحال عندما تكلم د. كيلو حول الايديولوجيات واكتنازها وتعميمها وتعصبها والتي لا تخدم سوى من هم قيمين عليها. وتطرق بحديثه عن العمل السياسي وفشله متراجعا والجميع يطرح اليوم هذه الاشكالية والقول واحد عن فشل الأحزاب وعقم البرامج التي لا تطال الانسان، عن أي إنسان يتكلمون؟ في الوقت الذي لا يرى هذا الانسان سوى التهميش واعطائه دروسا في الذل والقمع ويطالبون أنفسهم اللحاق بركاب الثورة المعلوماتية وعولمة الكيانات و انعكاساتها على العالم العربي الذي هو خارجها متباكين لا فاعلين-نحن شعوب تتلقى لا تنتج- وأيضا أعطى حيزا واسعا في هذاالحوارحول دورالمثقفين العرب وأزمتهم وعن تهميش فعاليتهم نظرا للخروج عن دورهم الطبيعي للفعل الحقيقي كان نص الحوار
* يبدو الموروث السياسي في المنطقة العربية مرهونا بالمحددات الثقافية والفكرية خصوصا أنه تم اقصاء المثقف عن دوره في تطوير البنى الاجتماعية، ونحن على مفترقين حيث القرن العشرين مضي ويستعد العالم لدخوله قرن جديد أكثر عصرنة ربما، إلا أن العرب كأنهم خارج المهام المترتبة عليهم لمواكبة مجريات الأحداث، د. ميشيل كيلو كيف تحدد دور المثقف بل ماذا يترتب عليه مع مطلع الألف الثالثة؟< ?XML:NAMESPACE PREFIX = O />
* من ناحية المهام وما الجديد سوى ضرورة تطوير أنفسنا لكي يلاحق العالم الذي يركض. من ناحية الأهداف، هناك هدف رئيسي هو ملاءمة أوضاعنا مع أوضاع العصر، ودفع أمتنا إلى حالة من النهوض وشعوبنا ومجتمعاتنا كذلك، وأن نردم الفجوة التي تفصلنا عن العالم، وأن نحدث دولنا. على المثقف إذن أن يشتغل على نفسه كي يتابع هذه النقلة النوعية التي تتم على المستوى العلمي، بالتقدم والتطور على مستوى العلم وما يتفرع عنه من نظريات ورؤى ومن تقدمات فكرية معرفية في العصر الجديد الذي بدأنا في الذهاب اليه، ليس نحن فقط، بل العالم كله. أعتقد أنه بعد التجربة الأليمة التي مرت بها علاقة السياسة الثقافية في هذه المنطقة، والتي تميزت بأولية السياسة، وجعلت الثقافة حقلا صغيرا، وابن عم فقيرا للسياسة. يجب على المثقف، وهذا ما كتبته منذ زمن طويل وعلى خمس حلقات، أن يؤسس لثقافة مستقلة قائمة بذاتها يمكن انطلاقا منها أن يؤصل مشروعا سياسيا عربيا جديدا. وأعتقد أنه واحد من أكبر عيوب السياسة العربية في المشروع الثوري النهضوي العربي الذي مررنا فيه كان أنه تأسس على مسائل اجتماعية واقتصادية وسياسية لكنه لم يقم على أرضية مشروع ثقافي كبير مهد له بتغيير الوعي وتغيير الفكر ونظرة الأمة إلى نفسها، بتغيير موقع الإنسان من العالم، موقعه من نفسه، وموقع الإنسان من السياسة. لم تؤسس الثقافة حيزا يمكن أن يقوم فيه حيز معقلن، حيز (مدقرط)، يمكن أن يقوم فيه مشروع سياسي معقلن ومدقرط، وهذا المشروع السياسي المحكوم باعتبارات أخرى، ووظائف أخرى، وانتهى إلى الفشل. الآن يجب أن تقوم الثقافة بتلمس عالم هو عالمها وعالم الواقع الموضوعي، وعالم الكون الذي نعيش فيه، لترسي في هذا العالم مشتركات وأسسا، نواظم ومعايير مستقلة عن مسألة النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي… الخ. معايير ليست رأسمالية وليست اشتراكية، لكنها معايير تصلح لنهوض فكرة العدالة والديمقراطية، وتصلح لأن يؤسس عليها مشروع سياسي. هذه وظيفة المثقف بالدرجة الأولى الآن.
* إذن يترتب عليه قراءة العالم بأعين جديدة. برأيك هل هناك مفترقات تاريخية مز فيها القرن العشرون؟
* في القرن العشرين مفترقان جوهريان، الأول كان قيام ثورة اجتماعية في الغرب، أي في النظام الرأسمالي، صحيح أنها قامت على هامشه وأطرافه، في بلد طرفي متخلف هو روسيا، لكنها قامت من تخطي النموذج الإقتصادي – الإجتماعي السياسي الموجود في المركز، وهو الرأسمالية. هذه المحاولة التاريخية الكبرى فشلت في نهايات القرن فعاشت حوالي 80 سنة ثم انتهت إلى الفشل. وهذا هو المنعطف الثاني، فالأول كان خروجا من الرأسمالية، والثاني هو الفشل. هذا الفشل يجعل الرأسمالية الثورة الوحيدة في تاريخ البشرية، والثورة الإجتماعية الوحيدة في تاريخ الإنسانية، ويجعل من الطبقة الوسطى وأفكارها قوة تاريخية كبرى. كنا نظن أن الطبقة الوسطى تركت دورها التاريخي للطبقة العاملة الآن نكتشف أن هذا الكلام تبسيطي. لا أعتقد أنه بالنسبة لنا يجب الوقوف مطولا عند هذه المسألة، عن دور الطبقة الوسطى، فهي التي حملت في التاريخ الأوروبي، والآن في التاريخ العالمي رهانات التطوير والتغيير والعلمانية والعقلانية والديمقراطية والعقل… وحتى المشروع السياسي. وأعتقد إذا كانت فشلت، وهذا مهم بالنسبة الينا، أمام ثورة الطبقة الوسطى في الغرب، وفي مكان طرفي من الغرب، فهي ثورة حاولت وضع نفسها خارج الرأسمالية، فإن مصيبتنا في العالم العربي أن الفشل الذي تم عندنا هو فشل الطبقة الوسطى، لأن المشروع السياسي النهضوي العربي الذي عرفناه في شكلين أو بشكل رئيسي منذ خمسينات القرن العشرين هو مشروع الطبقة الوسطى، وكأننا وصلنا عبر هذا الفشل إلى حالة انعدام وزن، فلم يكن لدينا طبقة برجوازية كباقي الغرب، تقود مشروع تغييري تاريخي كبير، ولم يكن لدينا طبقة عاملة كما في الشرق، فقد كان لدينا طبقة وسطى، وباعتبار أن هذه الطبقة الوسطى قد فشلت، فكأن هذا فشل لمجتمعنا وأمتنا ولعقلنا.
نعود إلى مسألة المتغيرات، والإنعطافات والمفترقات. فإذا فشل المفترق الأول فإن ذلك بسبب قدرة المفترق الشاي (الرأسمالية المتجددة) على إحداث تبالات بنيوية وجوهرية في تكوينها، وفي موقفها من العالم، وفي طبقية العالم، وفي موقع الإنسان من الوجود، حتى بالمعنى الفلسفي والواقعي العام. يقال تقليديا إن الإنسان كان يعكس حالة العدم المادية بدءا من الخمسينات، وبدأت الحالة المادية تعكس إرادة الإنسان ورغبة الإنسان وموقع الإنسان في الوجود. فهناك تبدل في علاقة الأشياء ببعضها. إذن فالنظام الرأسمالي أجرى تجديدا جوهريا على نفسه وهذا التجديد طال كل شيء، وأنا أعتقد أننا نهاي من مأزق غير فشل الطبقة الوسطى، وهذا المأزق هو الفشل في الدخول أو الإلتحاق – من حيث التكوين والبنى والمقومات الأولية والقيم – في عالم الرأسمالية الذي ينتقل الآن إلى طور جديد في تطوره، والى مرحلة نوعية في التطور، ونحن فعليا خارج أي سياق أو إطار أو حاضنة، أو تكوين تاريخي.
* نفهم أن معاناة الطبقة الوسطى باعتبارها فشلا للأمة، وثمة معاناة أخرى من فشل الأمة في الالتحاق بالرأسمالية في صورتها التي ورثناها عن القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بينما الرأسمالية تتعولم وتتطور، خصوصا حين يصرح عدد من المفكرين أن المرحلة المقبلة تتمثل بتطويع العقل وابادة الأفكار.
* أعتقد أن العكس هو ما يجب أن يكون. ولم أقل سيكون. فالذي يجب أن يكون ينتمي إلى حد كبير إلى عالم الأخلاق، وعالم الفلسفة العالمية، والى عالم الفلسفة التأملية، وليس إلى عالم الواقع العملي. منذ قليل قلت أننا بحاجة إلى مشروع ثقافي يؤسس لمشروع سياسي. الأولوية إذن لتأسيس الحقل الثقافي المستقل، الذي يتسم بالحداثة، والعقلانية والديمقراطية، ويقوم على أرضية كونية، وليس على أرضية ضيقة محلية، أو جزئية، وأربط الآن مستقبل العرب، والخلاص العربي، بوجود هذا الحقل الثقافي المستقل على أيدي المثقفين العرب.
* ألم يصل العرب إلى إيجاد تجمع فاعل يقوم بنقد الأنظمة والقوانين السياسية؟..
* لا لم يوجدوا ذلك. أوجدنا تيارا إسلاميا، شيوعيا، ليبراليا، قوميا… لكننا لم نوجد الفكر الضروري المؤسس لشيء يتخطى هذه التيارات، أعود للقول إن التيار الإسلامي له مطلبية أو معيارية سياسية، لكنه لا يتركز على فكرة العقلانية، أو الجدوى، أو الكونية، أو الديمقراطية، فليس هناك أرضية مشتركة لهذه التيارات تجعلها تتخطى ذاتها كتيارات جزئية، تجعلها توجها عاما للأمة فيه مشتركات تجمع هذه التيارات بعضها مع بعض، فالقومي ليس ليبراليا أو إسلاميا أو شيوعيا، والشيوعي ليس ليبراليا أو إسلاميا أو قوميا، والإسلامي ليس ليبراليا أو شيوعيا أو قوميا نحن بحاجة لشيء يتخطى خصوصية وجزئية كل تيار من هذه التيارات. هذا الشيء يخترق السياسي ويتخطاه، وهو ليس سياسيا بالضرورة، بل هو من طبيعة فكرية ثقافية معرفية تصلح لأن تؤسس وتترجم لشيء سياسي يتخطى هذه التيارات الجزئية. نحن لم نعرف هذا للأسف الشديد، وأعتقد أن مهمتنا الآن الإبتعاد عن فكرة الحل الإسلامي أو الشيوعي أو الليبرالي. فلن نخرج من مأزقنا ما دمنا نقول ذلك، وسنخرج إذا وجدنا حلا يتضمن توليفة تجمع كل هذه العناصر بعضها مع بعض في إطار صراعي ديناميكي وليس سكونيا يأخذ منها أحسن ما فيها، ويضعها في توليفة جديدة، وفي تجميع جديد يمكن أن تكون نقطة الثقل في هذه اللحظة على الإشتراكية، وتاليا على القومية، وتاليا على الليبرالية لكنه لن يخلو أبدأ من لحظة ليبرالية، وديمقراطية، واسلامية، وجدانية تنويرية دينية تسامحية. من لحظة اجتماعية عدالية، وقومية وحدوية.
* اختراق هذه المسافات يتطلب جهودا معرفية تستند على الفلسفة بشكل أساسي. سؤالي، أليس هذا يصب في أحدى مناحي الإيديولوجيا؟…
* أنا انتقدت ذلك لأنه تم على المستوى السياسي ولم يتجاوز ذلك إلى أرضية معرفية ثقافية متخطية لوجهة النظر الجزئية. فانتقدت الشيوعي ليس لأنه مارس الشيوعية، بل لأنه لم يمارس إلا الشيوعية، والإسلامي كذلك فهو يقول الإسلام هو الحل ولا شيء آخر. برأيي أن هناك أرضية مشتركة يجب أن تكون قائمة على مستوى المجتمع، وعلى مستوى الدولة وعلى مستوى الفكر، وبداية على مستوى الفكر والتأمل، لتتخطى هذه التيارات الجزئية، وأن هذه التيارات الجزئية يجب أن تقوم على هذه الأرضية كي تكون تيارات قادرة على الحوار والتفاعل والإبداع.. وليست تيارات استعبادية حصرية استثنائية عزلية، واذا شئت ليست غيتوية بالمعنى الفكري. أعود إلى سؤال الإيديولوجيا، فأنا ميال طوال عمري لاستخدام الإيديولوجيا بالمعنى الأول الذي استخدمها ماركس، وهو الوعي الزائف للواقع، أو الوعي الزائف لواقع زائف. فيما بعد أطلق على الماركسية إيديولوجيا، وكذلك الستالينية واللينينية لاشك أن هناك طابعا إيديولوجيا في كل فلك معرفي، وهذا الطابع الإيديولوجي يتجلى فيما يلي: أن تجرد المعرفة عن شروطها وضوابطها بشكل مطلق.. هذا إيديولوجيا فعندما أقول: الأمة العربية على حق، وأعتبر هذه الفكرة معصومة.. فهذا إيديولوجيا وليس واقعا. عندما أقول: الطبقة العاملة الثورية.. فهذا تجريد للفكرة الواقعية عن شروطها واعطاؤها طابعا مطلقا باعتبارها حقيقة مطلقة.. وهذا إيديولوجيا. وصرنا نتكلم بالدين والإيديولوجيا، فندين العقل والفكر ونؤدلجه. أعتقد أن في كل فكرة نزوعا إيديولوجيا، ولكل فكرة وظيفة إيديولوجية. فتحاول تصوير نفسها أنها كمعصومة. خاصة في الأجواء التي تنعدم فيها الديمقراطية والقدرة على التأمل العقلي الحر. العيب الأكبر للفكر العربي أنه كان فكرا إيديولوجيا، فيجب أن يقوم الفكر العربي على أرضية معرفية فكرية ثقافية هي بحد ذاتها عقلانية، مدقرطة تتيح لكل شخص بمعنى من المعاني أن يكون حامل قيم وفاعلا تاريخيا. ولكل مجتمع أن يكون حامل قيم وفاعلا تاريخيا. فأنا لا أؤمن بالإيديولوجيا لكنني أعتقد أن هذا الخطر هو خطر ماثل وكبير، وأتصور أن الذي دمر الماركسيين هو تحويل الماركسية إلى إيديولوجيا. والمهم كيف نحصن نظرية للتحرير من أن تتحول إلى إيديولوجية استعباد؟. كيف نحصن فكرة من التحول إلى أداة وظيفية بين أيدي السلطات؟ كيف نحصن فكرة الحرية من التحول إلى أداة تستخدمها السلطة وظيفيا من أجل إدانة نفسها؟. هذه واحدة من أهم المشاكل برأيي.
* إذن كيف تحدد علاقتك بالسلطة؟
* كمثقف أعتقد أنه يجب أن نوجد مجالا ثقافيا مستقلا عن السياسة، وأعتقد أن السلطة السياسية يجب أن تتميز في حيز ثقافي وأن تؤدي وظائفها انطلاقا من هذا الحيز، وليس أن تحول الحيز الثقافي إلى أداة دعائية، أو أداة لها، وأن تحول المثقف إلى إعلامي وطبال وزمار لها. بهذا المعنى يجب الفصل على الدوام بين السياسة كممارسة عملية وبين الثقافة – إذا شئت – كممارسة حقيقية، وكارتباط بقيم يجب أن تمارس السياسة وظيفة الرقابة على السياسة، وعلى السلطة، وأن يكون للمثقفين واجب تأسيس موقف مستقل عن السلطة، حتى لو كانوا يتعبونها، وحتى لو كانت تحظي بتأييدهم. وانطلاقا من الموقف المستقل عليه بانتقاد السلطة قولا وعملا، فالسياسة ترتبط بمصالح، أما الثقافة فترتبط بقيم، وعالم المصالح يختلف عن عالم القيم، وباعتبار المصالح يجب أن تخدم في النهاية تنمية أشكال من القيم فعلى المثقف الا يتنازل للسلطة في مسألة الصواب والخطأ، ويجب أن يكون جاهزا كل الوقت لانتقاد ما تمارسه السلطة من سياسات ومواقف وما تتخذه من أراه.
* أي أن يكون اختلافيا مع السلطة أيا كانت هذه السلطة؟
* أعتقد أن المثقف الحقيقي يجب أن يكون على نقيض السلطة وعلى نقيض الواقع، فالمثقف المنسجم مع الواقع يفقد شيئا كثيرا من خصوصيته.
* هناك من يدعو إلى مصالحة تاريخية بين المثقف والسلطة. كيف تنظر إلى هذه الإشكالية؟
* قلت منذ قليل أن عالم السياسة هو عالم مصالح، لكنه لا يخلو من القيم، فإذا كان رجل السياسة يعمل بدلالة عامة، والدلالات العامة هي دلالات قيمية على الأغلب، بدلالة مجتمع وليس دلالة مصالح جزئية، هي دلالة كلية وليست دلالة رؤى طبقية خاصة أو طبقية، بدلالات الفرض منها تنمية المجتمع إنسانيا وليس تنمية سلطته داخل المجتمع جهازيا وأمنيا…الخ. بدلالة مفاهيم وقيم كبرى مثل العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية والمواطنة..الخ. وعلى ذلك أعتقد بإمكانية قيام مصالحة بين المثقف والسلطة السياسة.. بشرط أن يتنازل المثقف عن مكانه وأن يبقى حارس قيم وحارسا للحقيقة.
* هل يصح أن المنطقة العربية تتعرض لابتزاز مرة تحت راية الديمقراطية ومرات تحت ذريعة حقوق الإنسان؟
* صحيح، فنحن نتعرض لابتزاز، كما تعلم المنطقة العربية محتلة، لكن سبب تعرضها للابتزاز ليس هو السبب الذي تقوله الحكومات. حكوماتنا وأنظمتنا لا تتعرض لمؤامرات خارجية، هي تتعرض لضغوط تستغل نقاط الضعف البنيوية، فلو كانت أنظمة ديمقراطية لما ابتزها أحد ديمقراطيا، ولو كان لدينا حقوق إنسان لما ابتزنا أحد.. فالمشكلة أننا هنا نعيش في جو سياسي وأنظمة ليست فيها ديمقراطية وحقوق إنسان وعدالة، وليس فيها فكرة الإنسان الحر والمجتمع المستقل، ليست فيها فكرة المصلحة العامة المستقلة عن شخص الحاكم أو صاحب النظام، فالغرب يبتز هذه الأنظمة بنواقصها، ولا يبتزها لأنها مظلومة، وأن لديها الديمقراطية وهو يتقول عليها… ولديها حقوق الإنسان، وهو يكذب ويقول هي تضطهد الإنسان.. هي أنظمة تفتقر إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة والحداثة والتسامح بمعناه العام، والغرب يستغل نقاط الضعف هذه، وهذا من حقه، ونحن أيضا نحاول أن نستغل نقاط الضعف.
* في هذا المعنى، ما هو مفهومك للسلطة؟
* أعتقد أن السلطة عندنا تفتقر إلى المفهوم الحقيقي للسلطة، فيجب أن يتوافر لديها حرية أفراد، فالمجتمع مجموع أفراد وأحرار، وبالتالي الدولة تعبر عن مجتمع الأفراد الأحرار الذي نسميه المجتمع المدني والدولة هي التي تعبر عن هذا المجتمع. وحيث لا يوجد مجتمع مدني لا توجد دولة، وما يوجد هو فعليا سلطة تسلطية لديها حضور عام ومهمة عامة، ولديها عمومية كما يقال، لكنها سلطة جزئية في كل الأحوال، والدولة ليست سلطة جزئية، الدولة سلطة عامة، ولأن السلطة عندنا جزئية ليس لدينا فعليا سلطة، لأن التسلط الشخصي أو الحزبي أو الطبقي تمارسه قلة لمصلحة قلة مع تغييب واستبعاد المجتمع وتغييب واستبعاد الدولة. هذا الذي يوجد عندنا ليس أخلاقيا أو عمليا، وهو امر واقع إن شئت، وهو يدمر فرصنا بأن تكون لدينا سلطة حقيقية، سلطة مبنية – سلطة تخضع لرقابات.. سلطة فيها توزيع أدوار، وسلطة فيها سلطات منفصلة هي تعبر عن تعاون سلطات منفصلة.. وسلطة فيها فكرة التداول.. (وهي ليست موجودة عندنا) فما هو لدينا تسلط منظم لقلة أو لشخص أو مجموعة أو تيار أو مصلحة، ورأسمال. هذا التسلط المنظم هو غياب المجتمع وتغييب الدولة، وبالتالي عدم وجود سلطة لها طبيعة وظيفية مجتمعية، سلطة ترى نفسها بدلالة المجتمع، وبد لالة الدولة. هنا السلطة ترى المجتمع والدولة بدلالتها. فالسلطة لاغية للمجتمع والدولة وبالتالي لاغية للسلطة باعتبارها وظيفة عمومية.
* ثمة من ينظر إلى المثقف العربي وعبر تلقيه للآخر الغربي بأنه تابع وليس في موقع المحاور له..
* أنا اخشي أن هذا الكلام صحيح. الآن هناك تحول وانعطاف كبير بعد فشل الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية، واعادة تعريف الهوية الإسلامية، وبإعادة تعريف نفسنا بدلالة ماضينا، فقد كنا في البداية نريد تأصيل نهضتنا على أساس فكر حديث الآن نريد تأصيل نهضتنا – إذا شئت – بوسائل فكرية حديثة، وعلى أرضية هوية قديمة. في الحالتين نحن نرى أنفسنا بدلالة أعين غربية. منذ أيام كانوا يشتمون هشام جعبط لأنه تكلم على الثقافة العربية بموقع المستهين، وهو على حق. في المرة الأولى كنا مقتبسين عندما أردنا أن نستوحي إما نموذجا ليبراليا غربيا أو نموذجا ماركسيا شرقيا سوفييتيا.. قلنا هذا القميص موجود ويجب أن نحد جسدنا لارتدائه وليس تعديله وتبديله واعادة إنتاجه بحيث يلائم جسدنا الذي لم نعرفه في المرة الماضية لأننا اعتقدنا أن هذا القميص يصلح لأي جسد، وبالتالي لا حاجة لأن تقرف نفسك من أنت. الآن نحن مستغرقون في إعادة أنفسنا كي نفصل لأنفسنا قميصا جديدا لا نعرف حتى الآن ما هو، وليس هناك من يعرف ما هو؟ نعرف وسائله وأدواته نقول ديمقراطية وعدالة..الخ. لكننا نعرف جسدنا هذه المرة إما بأعين غربية مباشرة (بالمعنى الإيجابي) أو بأعين خاصة بنا لكنها تتخذ موقفا سلبيا من الأعين الغربية، فإما أن نرى أنفسنا بعيون استشراقية أو بعيون منافية قطما للاستشراق، وفي هذه الحالة الدلالة باتجاه الاستشراق موجودة أيضا.. إما مع أو ضد.. لكن الضد هو شكل من أشكال الدوران في فلك الآخر.. ما نحن الآن.. ماذا نحن الآن؟ يقال الخطر الأكبر على هويتنا، ماذا يقصد بهذا الكلام. هناك أجوبة كثيرة يقدمها الفكر العربي والثقافة والمثقفون العرب. ما هي هويتنا في النهاية. هل هناك شيء ثابت اسمه هوية العرب القومية، أو هوية العرب الثقافية، أو هوية العرب التاريخية، وهل هذا الثابت هو ثابت في كل الأحوال والأوضاع. فإذا كنت داخل إطار هذا الثابت لديك الفرد والجماعة والمؤسسة السياسية والمجتمع، ولديك فاعليات مثل فكرة العمل والسياسة والحرية، واذا تغيرت داخل إطار هذا الثابت مواقع كل هذه العوامل ماذا يبقى من هذا الثابت؟. نحن الآن في حالة انعدام وزن حتى بالمعنى الفكري والثقافي والمشكلة الكبرى أننا أصبحنا ننظر لانعدام الوزن هذا، ونرى أنفسنا بدلالته باعتباره شيئا إيجابيا، وباعتبار خروجنا من العالم هو المعطى الجوهري لهويتنا أو باعتبار وظيفة اكتشاف الهوية هي تبرير بقائنا خارج العصر وخارج العالم. هذه مشكلة كبيرة، فقد رأينا أنفسنا بدلالة الغرب في الفترة الأولى، الآن نرفض الغرب لأننا نعتقد أن الرأسمالية غير مناسبة، وأن الإشتراكية فشلت، لكننا نأخذ بوسائل أسمها الليبرالية والتفكير الديمقراطي من أجل أن نستكشف أنفسنا، لكننا نفعل ذلك مرة أخرى إما إيجابا أو سلبا حسب رؤية الغرب لنا، إما رؤيا استشراقية أو رؤية مضادة للاستشراق، لكنها تدور في فلك استشراقي في النهاية.
* برأيك هل تراجع الأحزاب مرتبط بغياب المشروع السياسي؟
* أعتقد ذلك بوجه عام، لكنني أرى أن الأحزاب العربية فشلت لأنها لم تر من العمل العام سوى الشيء السياسي الضيق، أو الحيز الحزبي.. فإذا أخذت ميشيل عفلق ومثالا، ويصدق نفس الكلام على خالد بكداش وأحمد لطفي السيد (وهو مفكر ليبرالي لكنه في النهاية تأسست على جهوده الفكرية أحزاب سياسية) واذا أخذت أحدهم لن ترى سوى قضية الضيقة والجزئية، وباعتبارها قضية سياسية لا يرى لها أي عمق ثقافي أو اجتماعي أو تاريخي أو ترجمة اقتصادية، بل يردها باعتبارها مسألة محصورة في السياسة لكنها في الوقت نفسه مسألة المسائل بالنسبة اليه، والمسألة العمومية الوحيدة، مع أنها بكل المعايير مسألة محصورة وجزئية، وهكذا أخذوا يعممون، ويؤدلجون رؤيتهم السياسية الضيقة ويعتبرونها رؤية شمولية وعامة وفلسفية، ميشيل عفلق كان مؤمنا إيمانا أعمى أنه يطور فلسفة إيجابية، مع أنه لم يقل في حياته عشر كلمات عن العلاقة بالفلسفة، وكان فكره القومي فقيرا إلى درجة لا تخطر بالبال، وأتحدى أن يقول لي إنسان كتب بحثا في شيء أسمه المسألة القومية أو عرف الأمة العربية. هذه أدوات العمل، أليس كذلك؟ عفلق أخذ مجموعة مسبقات فكرية وطبقها على الأحداث واستنتج معنى بعض الاستخلاصات الهدفية أو الغائيات الشعاراتية إذا شئت، وقال هذه إيديولوجيات الأمة العربية، ففلسفة ومعركة وهوية الأمة العربية الفكرية. إذا أخذت خالد بكداش، وأن الأمين العام للحزب العربي هو المثقف الأكبر في الحزب العربي، وأنه مازال يستشهد حتى الآن بخالد بكداش على أنه مفكر، فمثقف الحزب العربي لا يقول لأمينه العام هذه الثقافة، وانما مثقف الحزب يأخذ من الأمين العام الثقافة، وهذه مشكلة كبرى، وبالتالي يخضع نفسه ككائن مثقف بالسياسة، وليس بالمعنى الذي عناه ماركس وأنجلز ولينين للسياسة، التكثيف الأعلى لجهد المجتمع من أجل التحرر، وتحولت السياسة إلى تكتيك ولعبة حزب. وصار هناك تنفيه وتحقير للثقافة والمثقفين، الحزب السياسي لم يشتغل فعليا، سياسة بالمعنى العام وباعتبارها تكثيفا لفعاليات مجتمع يريد أن يتحرر أو اكتشاف لشروط تحرر الفرد الإنساني والهيئة المجتمعية. وهكذا فهمتها الدنيا كلها، حتى الليبرالية التي أنتجت الثورة الفرنسية فهمتها هكذا، و (روسو) كتب عن السياسة باعتبارها العقد الإجتماعي، وهو فهمها أنها عقد سياسي. بحثوا في شروط جعل الدولة (الشيء الذي قاله فيفل في يوم من الأيام) تنمي الحرية، فمهمة الدولة ومهمة السياسة تنمية الحرية. ما هي مهمة السياسة عندنا.. القيام بانقلابات.. تستولي على ضباط جيش تعرف كيف تعارك خصومك سياسيا في الحيز السياسي المقفل والضيق التي تلعب فيه. تأسست السياسة في الغرب مع فكرة أرسطو التي تقول إن الإنسان ذات حرة جديرة بالحرية بغض النظر عن صفاتها الموضوعية، وسواء كان غنيا أو فقيرا، طويلا أو قصيرا، حاكما أو محكوما، عبدا أو سيدا، وبالتالي أعتقد أن ما نمارسه من عمل عام ليس سياسة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالغائب هو الذات الإنسانية الحرة التي من مهاو السياسي تنمية حريتها، وعندما تقرأ ماركس تقول هذا مسيح جديد، ولا تجد إلا الإنسان والإنسانية، وأعتقد شخصيا أن جوهر الماركسية هو التفتيش عن الشروط الواقعية لتحرر هذه الذات الإنسانية الحرة باعتبارها ذاتا مجتمعية وتاريخية، وهذا كله غاب عن المشروع الشيوعي مثلما هو غائب عن البعثي، وفكرة الليبرالية تحدد أن الإنسان ذات حرة، والمجتمع ذوات حرة، وأن مهمة الدولة القومية كما تقول (حنة أر ندت) لا تظهر فكرة حقوق الإنسان وفكرة المواطنة إلا مع ظهور الدولة القومية، إذن أن الدولة القومية ألغت فكرة حقوق الإنسان وألفت فكرة المواطنة. المشكلة أننا يجب أن نعيد النظر في كل البديهيات، نحن لا نمارس السياسة، بل نمارس التسلط باعتباره عملا عاما.
* ألم يتبلور في هذه الأحزاب أصوات مستقلة عن قياداتها، كتجربة رياض الترك مثلا؟
* أعتقد أن أهمية مشروع رياض الترك تكمن في مجموعة نقاط: الأولى، أنه حاول إعادة تعريف السياسة بالمعنى الذي تحدثت عنه، وأنه شخصيا ينطلق الآن في رؤيته من إعادة مشتركات سياسية، من معيارات سياسية، متخطية لتعريفه عن نفسه كحزب شيوعي، فهو أخذ عن ياسين الحافظ فكرة أن السياسة تقوم على أرضية متخطية للنظام الاقتصادي – الاجتماعي، هي ارضية عامة، أرضية الفرد الحرفي، مجتمع منتجين أحرار كما قال ماركس. والدولة التي مهمتها الأساسية تنمية الحرية، والسياسة التي هي فاعلية تتخطى جزئياتها، فاعلية عامة وشاملة، إذن أعاد إنتاج نفسه على أرضية جديدة تصلح لأن يبني عليها مشروعا سياسيا تاريخيا كبيرا، وأعتقد أنه حتى الآن هو يمسك بهذا الشيء الثمين. الشيء الثاني، مصالحته لحزبه ورؤيته، صالح هذه النظرة مع الواقع العربي، القائل لم نعد بحاجة إلى قميص خارجي نجبر الجسد العربي على ارتدائه، وفتح أمامنا تعريف ما هو الجسد العربي؟ وما هو القميص الخارجي؟ ما هي الماركسية التي نريدها؟ هناك مئة شكل من الماركسية. هناك الماركسية السوفييتية التي رفضوها بالمطلق منذ البداية، نريد ماركسية عربية ديمقراطية في مجتمع حاضن للسياسة فهو أرضها، وبالتالي السياسة باعتبارها فاعلية من 7المجتمع وللمجتمع وليست أحزابا تحرك مجتمعات، وانما بشر يملكون رهان التحرر والحرية، ومجتمعات علمناها وتعلمت كيف تراهن على الحرية وتحرر نفسها بقواها. ماركس لم يقل مثل لينين، أن الحزب السياسي يجب أن يشكل ثورة وطليعة تحرر المجتمع. ماركس قال:
تحرير المنتجين من صنع أيديهم، ومات وهو يقول ذلك، مع أنه كان في ايامه أحزاب مثل الحزب الديمقراطي الإجتماعي الألماني الذي كان يأخذ 3 ملايين صوت بالإنتخابات. وقال: (تحرير المنتجين من صنع أيديهم) وربما كان انهيار المعسكر الإشتراكي أعاد الإعتبار للفكرة، فأنت لا تستطيع أن تحرر بحلف قليل عبيدا، ولا تستطيع أن تستعبد أغلبية باسم الحرية، لأنك ستنتهي. أعتقد بوجود مفاتيح أولية في تجربة رياض الترك وحزبه. هذه المفاتيح تمت مواءمتها بشكل من الأشكال مع الواقع في سوريا، وتعرف على المستوى السياسي لم يسمح للتجربة أن تستمر وتأخذ أبعادها.
* هل لعب السوفييت دورا في ذلك؟
* نعم، والنظام لعب دورا فاعلا، وكذلك الأحزاب الموجودة، وأعتقد أن خالد بكداش كان يرى منذ اليوم الأول حتى وفاته خطورة هذه التجربة عليه، لأننا كتبنا عشرات المرات ماذا تعني السياسة، وأنهم لا يدركون أمرا هم غير مؤهلين لإدراكه أو فعله، وبالنهاية هو خطر عليهم، وهم يرون خطره، فالتجربة توقفت عمليا، ولكنها تستعيد الآن نشاطها وفاعليتها وحضورها على الأقل فيما يدلي به رياض من تصريحات وأخذه من مواقف ويصدر عنه وعن التجمع الوطني الديمقراطي من نشرات وكتب ومقالات ودراسات.
* برأيك هناك مشروع أو برنامج سياسي عند هذا التجمع؟
* لا أعرف. اسأل رياض، أعتقد أننا أمام مأزق مضاعف فلم نستطع الإلتحاق برأسمالية متبدلة، ويفشل الطبقة الوسطى التي حملت في التجارب الأخرى مشروع الثورة، فأعتقد أن التحدي أصبح أكثر من كونه لحزب رياض، حتى لو كانت الفكرة الأولية التي تلمست الواقع. يجب أن يكون هناك جهد هائل على المستوى الثقافي ثم على المستوى السياسي من أجل اكتشاف شروط التقدم والتحرر في مجتمعاتنا وواقعنا، لكن باعتبارنا ننتمي إلى واقع وتاريخ، وننتمي إلى واقع عالمي وكوي وننتمي إلى حاضنة فكرية وعالمية، ولدينا خصوصية تاريخية معينة، فلا نضحك على أنفسنا، فنحن في النهاية عرب أنتجنا في حاضنة جغرافية تاريخية اقتصادية معينة هوية معينة اسمها الهوية العربية الإسلامية التي تفاعلت مع التاريخ وهو العالم بدرجات مختلفة من النجاح والفشل، ومرت بمراحل مختلفة من النجاح والفشل، وتقدمت وتراجعت، وصعدت وانهارت وتعيش الآن أزمة وجودية وتاريخية كبرى منذ عشرة قرون. أعتقد أن هذا ما يجب أن يحدث، هذا الجزء الكبير والإستثنائي، وهو أكبر من أي حزب، وربما يعبر عن نفسه مستقبلا في حزب كبير. كان عندنا أساتذة يعتبرون أن الحقيقة ليس لها حزب، فالحقيقة مفتوحة لكل المنابر. ولكن عندنا كل اثنين يلتقيان يعتبران أنهما حزب الحقيقة ويريدان الحجر على كل الناس.
* في الحديث عن واقع حقوق الإنسان في العالم العربي، كيف تلخص هذا الأمر؟
* نحن لا نملك فكرة أن الإنسان ذات حرة (الفكرة الارسطية) وبالتالي لا نملك الأساس الذي تقوم عليه السياسة، فكيف يكون عندنا حقوق للانسان ليس له حقوق أبدأ أبدأ، فالإنسان ذات حرة يعني حق في أن يكون من يريد، أن يكون باعتباره منضويا في هيئة اجتماعية له الحق ما يريد أن يكون ضمن إطار توافقات عامة مع هذه الهيئة الإجتماعية، توافقات متفق عليها هذه هي الحرية.. الحرية أن تكون رجلا مفتوح الأيدي، مفتوح العقل، مفتوح الإمكانيات تتحرك في مجال مفتوح، وبالطريقة التي تحددها أنت. لكن هذه الطريقة ليست فردية 100% وانما هي طريقة متوافق عليها بشكل عام مع المجتمع. ليس لدينا هذه الحرية أو تلك التوافقات. والقول بالمجتمع المدني دون وجود تعاقدات غير موجود بالمعنى السياسي والفاعل، (فهو موجود ككتلة وتوافقات عامة)، وكحجر مرمي في البرية، وكعدم، وككتل جامدة. إذن ليس لدينا الفرد أو الحرية أو التوافقات المنظمة للحرية. هو مشارك بالموافقة عليها وقبولها. انطلاقا من الذات الحرة (برزت فكرة المواطنة منذ أيام اليونان) ثم توسعت مع الثورة البرجوازية، مع الليبرالية وظهور فكرة الديمقراطية، والثورة البرجوازية التي هي أهم شيء حدث في تاريخ البشر عند ماركس، ولم يكن ما هو أهم منها سوى الإنسانية التي اسمها الإشتراكية، التي هي المجتمع التشاركي. إذن كنا نسعى لرأسمالية في يوم من الأيام من موقع متأخر عنها كثيرا، فهي تجاوزته وهي أفضل منه. وهذا واحد من الإنجازات الستالينية البائسة التي جعلتنا نعتقد أن حرية الإنسان شيء غير هام، فهي بالنهاية تعتقد أن الإنسان الفرد غير موجود، وهناك العامل، ولا يوجد من يتخطى المواصفات الموضوعية للانسان، فهي رأت المواصفات الموضعية وألفت الإنسان، وسأعود إلى هذه الفكرة لأهميتها بالنسبة إلى الدين،.. إذن ففكرة الإنسان الحر الذي كان مواطنا عند اليونان، أصبح مواطنا كونيا، وبالتالي قامت فكرة المواطنة والسيادة الشعبية وحقوق الإنسان، وأصبحت الأخيرة حقوق المواطن، وماركس قال: “لماذا أعطيتم الإنسان الذي هو المواطن المجرد الذي لا وجود له حريات مطلقة هي حقوق الإنسان، وأعطيتم المواطن الذي هو الإنسان المشخص العامل والمنتج حريات مقيدة”. كان يجب أن يعطى المواطن حريات مطلقة. ماذا عملوا في الإتحاد السوفييتي وفي التجربة الستالينية (لا حريات إنسان ولا حقوق مواطن)، ويقولون أن الستالينية هي الماركسية والماركسية فشلت. نرجع إلى الفكرة، لو رأينا مواصفات الإنسان كونه عاملا أو فلاحا أو مثقفا أو برجوازيا.. وانطلاقا من كونه ذاتا حرة وبدلالة كونه ذاتا حرة، ولم نر ذاته الحرة انطلاقا من مواصفاته التي هي في النهاية ألفت الذات الحرة لما وصلنا إلى هذه الأصولية القائمة الآن، لأن جوهر الأصولية الدينية بالمعنى الفلسفي والفكري أنها ترى المؤمن ولا ترى الإنسان، أي (تحول الإنسان إلى غير إنسان). الإنسان عندها إنسان بقدر ما هو مؤمن، وباعتبار الخصيصة الجوهرية للانسان كونه إنسانا، والخصيصة الثانوية كونه مؤمنا. هذه إحدى المواصفات الموضوعية للانسان، وفعليا عندما يلغي الجزئي العام نصل إلى الأصولية، فالأصولية في تعريفي هي إضفاء طابع مطلق على صفة جزئية، وعلى واحدة من المواصفات الفكرية التي تلفي الخصيصة الجوهرية والتعيين الجوهري، فعندما نقول الطبقة العاملة معصومة، وقد كانت في مرحلة سابقة طبقة مقدسة، وكون الإنسان عاملا هي صفة جزئية، والجوهري أنه إنسان، ثم أنه يعمل، فترى العمل بدلالة الإنسان وليس العكس، فمجرد القول أن العمل هو الشيء الجوهري أصبحت متحدثا باسم أصولية شيوعية. الآن في الإسلام هناك المؤمن وليس الإنسان، ففكرة الإيمان أكلت فكرة الإنسان، وعند الشيوعيين فكرة العامل أكلت فكرة الإنسان، وفي البرجوازية فكرة البرجوازي أكلت فكرة الإنسان، فأنت أمام أصوليات في النهاية. كيف نخرج من هذه الأصوليات؟. يجب أن نعيد للانسان فكرة وجوده ثم نعطيه حقوقه، فإذا كان موجودا كمؤمن وكر جل سلطة، وكمخبر، وكعامل، كيف سنعطيه حقوقه، سنعطيه في هذه الحالة حقوقه الجزئية.. وهيغل يقول: “المجتمع الشرقي فيه رجل واحد حر هو رجل السلطة أو صاحبها وهذا هو العبد الأكبر لأنه عنده كل الحريات، وآخذ حريات الجميع”.
* هناك عدد من المنظمات التي تعمل في الشأن الحقوقي ومركزها في الغرب الأوروبي أو الأمريكي، وهناك منظمات مرتبطة بالحكومات، مع انها منظمات أهلية أو هكذا تطرح نفسها، برأيك كيف يتم توضيح المفارقة بين التحدث باسم الدولة والخروج على مفاهيم الدولة وتتعارض مع توجهات الدولة بآن معا؟
* سبب ذلك انتهاك حقوق الإنسان، فلو كانت حقوق الإنسان متاحة، فأنا لا أؤسس منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان في بلد فيه حقوق للانسان، بل أؤسس منظمة ربما قضائية أو قانونية لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان، لكني لا أؤسس منظمة للقتال من أجل حقوق الإنسان، وفرضها. في فرنسا، منظمة تراقب انتهاكات حقوق الإنسان، لكن لا توجد منظمات تطالب بحقوق الإنسان في قوانيننا، وعلى ذلك فهي موجودة في الواقع وأنتم تشوهون سمعتنا لأسباب سياسية لا علاقة لها بحقوق الإنسان وهذا كذب، فليس هناك حقوق إنسان في العالم العربي. فما هي حقوقك إذا كان أي موظف، وفي أي لحظة كانت ينتهك جميع الحقوق التي تتمتع بها، إذا كان لديك حقوق.. وحتى قبل فترة قريبة كان يقال أن هذا البلد أو ذاك منع ضباط الأمن أن يعتقلوا عشوائيا أي شخص يريدونه دون العودة إلى رؤسائهم. هذا أمر واقع، فأنا إذا كنت ضابط أمن وأنا في مطعم ورأيت أحدهم يجالس بنتا جميلة، أو لم يعجبني شكله، أعتقلك ولا أحد يحس بذلك أو يسأل عنك. وهذه الحقوق. القابلة للانتهاك ليست حقوقا، فهي ليست (مقوننة) أو متوافقا عليها أو قائمة عمليا. في دول العالم العربي ليست هناك حقوق إنسان، وليس هناك حقوق لأحد. حتى الوزير لا يملك حقوقا أكثر منك.. فأنت يهينك الوزير، وهناك من يهين الوزير وينتهك حقوقه و(يبهدله)، فالنظام هو عبد ومستعبد، أو عبد وشخص واحد حر هو فعليا العبد الأعلى. لأن من يأخذ جميع حقوق الناس ليس لديه في النهاية حقوق، فهو عبد كبير هو نظام عبودية كبير متسلسل ولا يشعر بوطأته إلا الشخص (الذي تحت الكل). وموفي رأيي يتمثل في بلادنا في المرأة والطفل، لأن المرأة في تسلسل النظام هي كائن مضعضع، فترى جامعية متفتحة ومتعلمة ومتزوجة شخصا أميا، والمجتمع معه ضدها. ثم الطفل الذي ليس له حقوق أبدأ، فترى طفلا في الباص يضربه أحدهم وينهضه من مقعده. للأسف الشديد أن الأنظمة تقول لنا اقرأ القوانين، ويا لها من قوانين، عندنا حقوق إنسان وحقوق مواطن، وحقوق اجتماعية وحقوق اقتصادية.. لدينا مثلا حق العمل وهو حق مقدس ومن ثوابت الحياة البشرية.. عند الأمير كان شيء أسمه حق السعادة، وهو من حقوق الإنسان.. نحن لا نريد ذلك.. نريد الحق في العمل. هل تتجرأ أن تذهب إلى وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل وتقول لي حق بالعمل ويجب أن تجدوا لي عملا؟. سيحيلك إلى حالة أمنية، وهنا المصيبة الكبرى التي تعيدنا إلى أصولية رؤية العام بدلالة الجزئي.. والعودة إلى الأنظمة التي تريد أن تحرر (هذه انتهت بعد أن هلكونا فيها في يوم من الأيام) يجب أن نتصل بهيئات رقابية وقضائية ونخبرها أن فلانا عمل كذا وظلم ونطالب بمحاكمته محاكمة عادلة ولا نقول نريد حقوق إنسان، فمنذ خمسين سنة لا يعتقل أحد في فرنسا لسبب سياسي أو بسبب آرائه، في التلفزيون يقول صحفي لـ(ميتران) أنت كذاب يا سيادة الرئيس، عندما كان يتحدث عن جلب المعتقلين الفرنسيين من إيران. فأجابه ميتران سأقاضيك (لكنه لم يبعث عشرين عنصر أمن لاعتقاله أو اغتياله)، فأجابه الصحفي: أنا أهينك عامدا متعمدا وسأقيم عليك دعوى لأنك تكذب على الشعب الفرنسي.
* لا أدري إلى أي مدى حرك كلامنا جوارحك، لكن تبقى هناك فسحة تستطيع أن تقول فيها ما شئت…
* أعتقد أنه كتبت كثيرا حول إعادة التأصيل أم في مرحلة فمثل جزئي أو مرحلة نجاح جزئي أو مرحلة عودة إلى الذات.. هي تعبير عن الدوخة التي لم تنته.. أعتقد أن المفردات الضرورية لعملنا أن يكون عقلنا حدثيا وليس عقل الآخر الموجود فينا، فهذا العقل الذي يثكل ويكون فينا تاريخيا ينطلق من واقعنا الحالي الذي تشكل تاريخيا، وليس باعتباره إفرازا غربيا أو شرقيا أو خارجيا. الا نغلق نوافذ عقلنا.. أن ندرك أن العالم ينتقل بسرعة البرق إلى حالة جديدة يتوقف عليها مصيرنا إلى فترة طويلة، وليس هناك فرصة لأن نفلق أنفسنا دونها، فنجاتنا ليس أن نغلق أنفسنا، بل هلاكنا في الإنغلاق والتغريب، وعلى كل إنسان أن يواجهها باعتبارها مرحلة مصيرية وحاسمة، وفي عشر أو خمس عشرة سنة سيتوقف عليها كما قلت مصيرنا لعشرات أو مئات السنين انطلاقا من أن لدينا (مونة) وخاصة إنسانية هي هذا الشعب والأمة والفرد العربي، وباعتقادي أن الأحداث لم تفت في عضده، وأن الأمة جاهزة للسير في مشروع تاريخي كبير إذا وجد من يساعد على أن تبدأ الخطوات الحقيقية في هذا الإتجاه. وهؤلاء هم المثقفون في الدرجة الأولى ثم الساسة، ويجب الا نستهين بأنفسنا كمثقفين.