حسين العودات: مطالبة بإحالة الحكومة السورية إلى المحاكمة … كيف عطل القانون الدستور في سوريا
نصت مواد الدستور السوري على أن: لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (المادة 26) ويمارس المواطنون حقوقهم ويتمتعون بحرياتهم (مادة 27) ولا يجوز تحري أحد أو توقيفه كما لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة (مادة 28)، والمساكن مصونة ولا يجوز دخولها أو تفتيشها (مادة 31)، وسرية المراسلات البريدية والاتصالات السلكية مكفولة (مادة 32). لكن هذه المواد جميعها أنهيت بعبارة (وفقاً للقانون) أو بحسب (الأحكام المبينة في القانون) أو ما يشبه ذلك.
ونلاحظ من خلال هذه النصوص أن الدستور السوري ضَمن في مواده المتعددة الحريات والحقوق الأساسية للمواطن كما تقتضيها مفاهيم الدولة الديموقراطية الحديثة، إلا أنه مع الأسف الشديد أنهى معظم مواده ذات العلاقة بالحريات وحقوق الإنسان بعبارة (وفقاً للقانون) أو بحسب (الأحكام المبينة في القانون) أو (ينظم القانون ذلك) أو ما يشبه هذه العبارات، وهذا القانون المشار إليه إما انه لم يصدر بعد مرور خمسة وثلاثين عاماً على العمل بالدستور أو أنه صدر متعارضاً مع روح الدستور أو كان قد صدر قبل إقرار الدستور وبقي معمولاً به حتى الآن حتى ولو خالف الدستور كما هي حال قانون الطوارئ.
صدر قانون الطوارئ (المرسوم 51 لعام 1962) قبل إقرار الدستور بأحد عشر عاماً، وهو في جوهره (ونصوصه وشكله) يعطل الدستور وينحّيه جانباً ويجعل من نفسه مرجعية للحريات وحقوق الإنسان في سوريا، فقد أعطى هذا القانون للحاكم العرفي (رئيس مجلس الوزراء) أو نائبه (وزير الداخلية) الحق بأن يصدر الأوامر بوضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أوقات معينة وتوقيف المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفاً احتياطياً، والإجازة في تحري الأشخاص والأماكن في أي وقت، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال (فقرة 1 ـ آ) ومراقبة الرسائل والمخابرات أياً كان نوعها، ومراقبة الصحف والنشرات والمؤلفات والرسوم والمطبوعات والإذاعات وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإلغاء امتيازها وإغلاق أماكن طبعها (فقرة 1 ـ ب) وفي مجال الحريات والحقوق السياسية لم يصدر قانون الأحزاب (وحتى أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية لم ترخص بعد تنفيذاً لمضمون المادة (26) من الدستور وتمنع السلطات أي نشاط سياسي لا ترضى الحكومة عنه كما تمنع عقد المنتديات الحوارية والتظاهرات والاعتصامات وإصدار البيانات وأي احتجاجات ذات طابع سياسي، وقد أصبح قانون الطوارئ بالفعل هو المرجعية الأساسية في علاقة السلطة بالمجتمع وليس الدستور أو ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية أو غيرهما، ونشير هنا الى أن صلاحيات الحاكم العرفي ونائبه أعطيت عملياً لأجهزة الأمن التي مارستها على هواها. أما في مجال حرية التعبير حيث نصت المادة (38) من الدستور أن لكل مواطن أن يعبر عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر وفقاً للقانون، فجاء قانون المطبوعات الرقم (50) لعام 2001 ليعطل بدوره ما أمر به الدستور ويضع شروطاً تعجيزية للموافقة على إصدار صحيفة أو مجلة أو طباعة نشرة وشدد العقوبات على حرية التعبير بما يتجاوز ما نص عليه قانون العقوبات العام، وحوّل وسائل الإعلام العامة والخاصة إلى أداة طيعة بيد الحكومة ما يستحيل معه نقد نشاطاتها والاقتصار على تمجيد امتيازاتها، وما زالت الرقابة مفروضة مباشرة على الصحف غير السورية ومداورة على الصحف السورية ومفروضة كذلك على الكتب والمطبوعات ومواقع الشبكة العنكبوتية وغيرها.
وفي مجال التعذيب نصت المادة (38 ـ 3) من الدستور على أنه لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة خاصة مهينة ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك. وقد صدر قانون لاحق يمنع محاكمة من يمارس هذه الأفعال المشينة إلا بموافقة رئيسه، وبطبيعة الحال فإن الممارسات تكون غالباً بأمر من هذا الرئيس وبالتالي لن يوافق على محاكمة المرؤوس.
أحيل معتقلو إعلان دمشق إلى المحاكمة بعدة تهم من شأنها لو صحت أن تضعهم في السجن عدة سنوات، ومن نافل القول أن هذه التهم متهافتة وتتناقض مع حقوق المواطن التي كفلها الدستور بينما نحّاها القانون جانباً، كالنيل من هيبة الدولة، والانتساب إلى جمعية سرية تهدف إلى تغيير كيان الدولة الاقتصادي والاجتماعي وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية ونشر أخبار كاذبة من شأنها وهن نفسية الأمة، وإضعاف الشعور القومي.
لم يتعرض المعتقلون في الواقع ولا مرة واحدة للدولة وكان نقدهم دائماً للحكومة وليس للدولة وهذا يتوافق مع منطوق المادة (38) من الدستور التي تنص على أن لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى وأن يسهم في الرقابة والنقد البناء، وقد اعتبرت ممارسة بعض المعتقلين لهذا الحق الدستوري جريمة ونيلا من هيبة الدولة (فقد تماهت الحكومة مع الدولة في نظر الجهات الأمنية) كما اعتُبر أن ما صرح به فايز سارة وعلي العبد الله وأكرم البني وغيرهم وما عبروا فيه عن رأيهم جريمة يعاقبون على ارتكابها، كما تقرر أن الملتفين حول إعلان دمشق يشكلون جمعية سرية فكيف يكون ذلك كذلك. وهيئات الإعلان ليس لها أي بنية أو هيكلية تنظيمية أو آلية عمل تنظيمية وكل ما لديها هو الالتفاف حول توافقات عامة في الشأن الوطني أيدتها تيارات وأحزاب وكتل سياسية وشخصيات من دون أي طابع تنظيمي ونشرت بياناً عن أعمالها، ومن المعروف أن إعلان دمشق يطالب بالتغيير الوطني الديموقراطي بعملية سلمية متدرجة وبتعزيز اللحمة الوطنية كما ينادي بنبذ العنف وسياسة الإقصاء والاستئصال وإقامة شبكة أمان سياسية واجتماعية، فهل يعني ذلك أنه يهدف إلى تغيير كيان الدولة، وهل كيان الدولة هش والدولة نفسها هشة والأمة هشة والشعور القومي هش أمام مطالب ديموقراطية وطنية، وهل تصاب هذه الجهات والمفاهيم بالوهن جراء ذلك؟. وإذا كانت الهشاشة وصلت إلى هذه الدرجة والدولة والأمة والشعور القومي بهذا الضعف فماذا يعمل حزب البعث منذ خمسة وأربعين عاماً، وأي وعي شكله في أذهان (الجماهير) والفئات الشعبية والثقافية المتعددة، ثم إن الحكومات السورية المتتالية منذ بضع سنوات هي التي غيرت كيان الدولة الاقتصادي وتجاهلت الاشتراكية والتحول الاشتراكي الذي نص عليه الدستور فلماذا لا تحال الحكومة إلى المحاكمة جراء ذلك؟ لقد فعلتها السلطة مع معتقلي إعلان دمشق، وكانت قد فعلتها سابقاً مع معتقلي إعلان (بيروت ـ دمشق) ميشيل كيلو وأنور البني ومحمود عيسى ورفاقهم، وما زالت تفعلها باستمرار مخالفة بذلك الدستور ومتشبثة بقانون الطوارئ، ومتجاهلة أن هذا العام هو عام دمشق عاصمة للثقافة العربية، وها هي بمناسبته تضع المثقفين وحرية التعبير في السجون، بحيث يصبح التساؤل مشروعاً عمن يضعف الشعور القومي ويعمل على إصابة الأمة بالوهن وينال من هيبة الدولة ومن يحرص على سمعتها وحرية مواطنيها ومستقبلهم أكثر من الآخر؟
السفير 2/2/08 /2008