حسين العودات: الشراكة السورية الأوروبية
لعلها المرة الأولى في تاريخ الاتفاقيات الدولية أن تُوقع (الاتفاقية) بالأحرف الأولى مرتين كما حدث لاتفاقية الشراكة بين سورية والمفوضية الأوروبية، إذ وقعت هذه الاتفاقية بالأحرف الأولى عام (2004) في بروكسل ثم تكرر التوقيع ذاته بالأحرف الأولى أيضاً في الرابع والعشرين من الشهر الجاري في دمشق (بعد إجراء تعديلات ضرورية واستجابة للتطورات التي حصلت خلال السنوات الأربع الماضية) كما صرح المصدر الرسمي السوري
الذي حاول تبرير أربع سنوات من الجمود. وحاول الطرفان تجاهل الأسباب الحقيقية للتأخير وأسباب المماطلة الأوروبية والضغوطات السياسية والاقتصادية التي مورست على الجانب السوري لتعديل سياساته الإقليمية طوال عدة سنوات، دون التعرض لمدى استجابته لهذه الضغوط وامتثاله للمطالب الأوروبية أو رفضه لها جزئياً أو كلياً، ومن الجدير بالذكر أن سورية هي البلد العربي الوحيد الذي لم توقع معه المفوضية الأوروبية اتفاقية الشراكة، مع أن المحادثات بين الطرفين بشأن توقيعها بدأت عام (1995) وها هي بعد ثلاثة عشر عاماً مازالت بين أخذ ورد ولم توقع مبدئياً إلا قبل أيام على أن توقع نهائياً في منتصف العام القادم. ويفرض تساؤل نفسه في هذا المجال حول أسباب التأخير والمماطلة وهل خضعت سورية للضغوط الأوروبية وعدلت سياساتها الإقليمية ثمناً لتوقيع هذه الاتفاقية؟ أم أن المحادثات انتهت إلى (ما تريده دمشق) كما صرح مسؤول سوري كبير؟.تنامت الشروط الأوروبية (والضغوط الأوروبية) على سورية منذ التوقيع المبدئي الأول للاتفاقية قبل أربع سنوات، ووضع الأوروبيون قائمة شروط طويلة مسبقة لقبولهم التوقيع النهائي وتصديق الاتفاقية، ومن هذه الشروط تعديل السياسة السورية تجاه لبنان والعراق وفلسطين وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وتغيير موقفها من المنظمات الفلسطينية المتواجدة في دمشق،واحترام حقوق الإنسان وإصدار تشريعات جديدة لإلغاء أو تعديل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية المعمول بها وإطلاق الحريات (الصحفية والسياسية) وممارسة التعددية السياسية والسماح بتأسيس أحزاب وغيرها من المطالب التي تتعلق بسياسة سورية الداخلية إضافة لسياستها الخارجية التي كانت تمارسها، ولما لم تمتثل الحكومة السورية لهذه المطالب جمّدت البلدان الأوروبية علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية في مختلف الجوانب مع سورية أو على الأقل أبقتها بحدودها الدنيا، وأيدت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأمريكية على سورية، وأجلت التوقيع النهائي على الاتفاقية إلى أجل غير مسمى.
عدلت سورية منذ مطلع العام الحالي وطواله سياستها واستجابت لمعظم مطالب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، فقبلت تسوية الحلول الوسط في لبنان وشجعت حماس على التهدئة وانفتحت على الحكومة العراقية واستقبلت كبار مسؤوليها وتبادلت السفراء معها وشددت على عدم دخول المسلحين للعراق، وبدأت مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل برعاية تركية، مما بدا معه أن سورية عدلت سياستها الإقليمية لتنسجم مع المطالب الأوروبية، ولعل هذا ما شجع الأوروبيين على القبول المبدئي باستئناف المحادثات، وبذلت فرنسا جهوداً خاصة في ذلك باعتبارها عراب التعديل السياسي السوري، وفي الوقت نفسه تجاهلت المفوضية الأوروبية المطالب الأخرى المتعلقة بالداخل السوري كالحريات السياسية وحقوق الإنسان وغيرها من المطالب وكأنها لم تطلبها يوماً ولم تقف لحظة عندها. وعلى أية حال اعتبرت المفوضية الأوروبية أن الظروف أصبحت مكتملة وناضجة ومواتية للتوقيع مجدداً بالأحرف الأولى على الاتفاقية وتحديد موعد أقصاه منتصف العام المقبل للتوقيع النهائي، ليبدأ تنفيذ الاتفاقية بعد مرور عدة أشهر على التوقيع.
قد لا تستفيد سورية استفادة اقتصادية أو تجارية أو استثمارية كبيرة من هذه الاتفاقية، فهي وإن كانت في جوهرها تسهل حرية انسياب البضائع من سورية وإليها وفتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات الزراعية السورية، لكنها تقضي في الوقت نفسه بتحرير التجارة وتخفيض الرسوم الجمركية على البضائع الأوروبية وإقامة منطقة حرة أوروبية في سورية، وهذا سيوقع الضرر بالتأكيد على الصناعات السورية الصغيرة والناشئة لأنها لا تستطيع مع هذه التسهيلات أن تنافس مثيلاتها الأوروبية (الأجود والأرخص). وقد أصدرت سورية بالفعل بعيد التوقيع المبدئي الأول قوانين وقرارات حررت بموجبها التجارة وخفضت الرسوم الجمركية وباشرت تطبيق السياسات التي تنص عليها هذه الاتفاقية بانتظار توقيعها وتصديقها. ولكن الفائدة السورية تأتي من جوانب أخرى، فسوف يصبح صعباً على الدول الأوروبية بعد التوقيع النهائي فرض عقوبات على سورية أو حصارها أو مقاطعتها أو عزلها أو تجاهل دعم المفاوضات غير المباشرة السورية ـ الإسرائيلية والضغط لإنجاحها وتحويلها إلى مفاوضات مباشرة وفعالة وإقناع الولايات المتحدة المساهمة بدورها في إنجاحها. ولم يعد سهلاً بعد الشراكة اتهام سورية بالمروق أو الشذوذ عن متطلبات الشروط الجديدة للسياسة الدولية سواء في المنطقة أم في غيرها، والأهم من ذلك أن سورية لن تواجه ـ على الأرجح ـ ضغوطاً بعد التوقيع النهائي لا من أوروبا ولا من غيرها تطالبها بالاعتراف بالحريات السياسية أو التعددية أو حقوق الإنسان أو ما في حكمها من الشؤون السورية الداخلية، مما يوحي أن الأوروبيين كانوا يستخدمون هذه الشعارات والمطالب مبررات لأهداف أخرى تتعلق بمصالحهم أو سياساتهم ولا يأخذونها على أنها مطالب أساسية أخلاقية أو قانونية قائمة بذاتها وخارجة عن إطار المصالح والمساومات والابتزاز، ويبدو أن الأوروبيين لم يكونوا يتبنون هذه الأمور بجدية مثلهم مثل الأمريكيين الذين طرحوها أولوية لمشروع الشرق الأوسط الجديد ثم (تجاهلوها كلياً) وتحولت من قيم هامة وإنسانية (وحتى سياسية) لدى طرح المشروع إلى لغو طواه النسيان.