أحمد سليمان: أشباهنا في الوحدة والألم … عن آدم حاتم … عن جميل حتمل
مقاربات في الموت والجنون
لعلّه من قدري أن أكون أول المبشرين بذلك اليوم الذي منذ أزل، أزل الموت والرؤية الأخرى، يوم تأصل فينا لا بد وأنه يفوق الغياب بذروته المجيدة.
هكذا تبدأ السيرة، طائشة ربما.. عابرة بالقرب منا، عبر قصاصات ترمز إلى جرح كنا نلامسه ونحن نعد لإصدار أول منشور حول ضجيج الأمكنة والحلم المقتول تواً.
على ذات المنشور ستكون قصيدة وحيدة، لم يكن بوسعنا سوى أن نضع بطاقة إلى جانبها، نودع عليها كلمة النعي لنتحقق بأنها القصيدة الأخيرة
كما غيرنا من أصحاب وأصدقاء الصدف، ذاهلون من كل شيء، منذ أن بدأ الفساد بإستشراء الواقع العربي. والأمكنة التي أخذت تضيق بنا شيئاً فشيئاً، إلى جانب أبشع حصار عرفته البشرية متمثلة بأحدث تقنيات الموت والإبادة، تقودها أنظمة عودتنا على إنتاج قبائل زيف وأفكار تدهم حياة بأسرها.
لا غرابة حين نجد الأدوار والصور ملتبسة. فنرى ضحية تقودها خطاها لإرتكاب مجزرة أو يخرج طاغية يطلب إلى قوى الشعب أن تشعل ثورات ضد من مات جوعاً وقهراً بينما كان في الجبال.
لمَ لا ؟
الجميع يخوض مغامرته بالشكل الذي لا يترك للوعي مكاناً كي يتمثله، لذا، نجد آلاف الصور مبتهجة على مراتب منقادة في زمن أقله خاسر.
لم أخاطب الأمكنة الموصدة، كما أنني لا أعني إنساننا المعاصر، سأشرد في ذلك السر الذبيح، الرجل الحليق الذي وضع نفسه على سكة قطار، عن ميترو الأنفاق والأزهار التي يحملها العاشق إلى أنثاه في مقهى “باتيفول” عن منطقة “الديوانية” وهي تشيع جثمانه في كنيسة “سيدة دمشق” عن جميل حتمل أو آدم حاتم، عن هذين الإسمين وإحتمالات غرائبية، ثمة مقاربات بالنفي والموت الموحد، عن الشقيق الذي سرقه الجنون وأوز دَمير الذي تخونه الإحتمارات بينما يجوب في دروب تدله الى الأناضول بعد أن نسي حكاية وصوله لأماكن في “مدينة الحبوب والعصافير” هذه الشعرية العالية بناها آدم حاتم من حجار الشعر وإفتراضاته، يا لها من حدائق مرّ بها وهو يبحث عن لحظة موته والحساب الذي تأخر.
كنت أرمز إلى حكايات منتصف النهار، ثنائية موت وجنون، بل مقاربة كوائن تدلنا إلى الشاعر آدم حاتم، لهذا الإسم دلالة واضحة تفهمها بعض جهات قائمة على أنقاض آخرين، لعلّها بعيدة عن المشروع الثقافي أو السياسي، لماذا الإهتمام بهكذا أمور لطالما عقول هذه الجهات تتجه إلى الفضائيات والملاحق الإجتماعية الهابطة ولعلّ ذلك يبرر عدم تذكرّها واجبها المصون إلاّ بعد وفاة الشاعر وبقاء أمة أبيّة تحقن شعوبها بإبر “فاليوم” ومخدرات الوعود المختلفة، يا لها من روائع وأمزجة في حدودها القصوى ؟!
– الظلال الواقفة للشاعر الكسير :
أذكرهم، الجميع يطلب ما تركه الراحل من كتابات ونصوص ولم يكن “آخرهم” الذي أبقى المخطوط حبيس أدراجه من أجل تدوين شهادة تصلح مقدمة لهذا الشاعر، وبعد عام بكامله قمنا بإعادة جمع ما تركه الراحل بالإضافة للمخطوط الذي كان بحوزتي في الوقت الذي نقرأ دعوات ورسائل تطالب بإنجاز واجبها المتأخر.
الجميع يفرك غبش ذكرياته الحميمة مع آدم حاتم، لم نكن ندري من أين جاءت هذه الصداقات في حين آدم مات قبل أن يتعرّف عليهم ؟!
مرة أرسل مخطوطة الى أكثر من جهة ثقافية ومن ضمنها [ دار النهار وميريام، و”الإغتراب الأدبي” واتحاد كتاب العرب، واتحاد الكتاب الفلسطينيين في سوريا ] بغية نشرها أسوة بغيره من أبناء جيله الخاسر.
أذكره حين كان يتهكم بلهجته العراقية الأليفة وإليكم مقولته الحرفية أوردها على ذمة التاريخ “القوادين يريدون خطابات وأشعار كولكة”.
خُذل الراحل في حياته لمرات وشاءت الصدفة أن ألتقيه في حانة قرب الحمرا كان وقتها في وضع سيء للغاية طلب مني نقوداً كي يتابع الشرب إلاّ أنني إمتنعت وأخذته الى بيتي السابق في منطقة الدكوانة وبقي نزيلاً عندي بعض الوقت كان يغادر البيت ويعود في ساعة متأخرة متسكعاً من دوار الصياد أو من “البربير” أو من “سن الفيل” أو أية حانة تأويه وتحترم مزاجه الإنساني المخالف.
لم أكن أعرف بأنه يفعل ذلك إلاّ من خلال أصحاب أصادفهم سائلين عنه في منطقة قريبة الى بيتي. لم تكن مجلة “كراس” في حينها قد صدرت، كنت أفكر أن أفعل شيئاً من هذا القبيل ثم راح يحدثني عن “مجلة رصيف” وعن علي فودة الذي إستثمر أفكاره بإصدار هذه المجلة دون أن يشك بأهميته كقاص تحتضنه “الجبهة الشعبية” في الأردن ليحط بين أكناف “حركة فتح” ليموت هذا القاص شهيداً أثناء القصف في بيروت. كثيراً ما كان يبكي في وحدته [ آدم حاتم ]. إستيقظت ذات مرة على أصوات نواح رجل ينازع حد السقوط وإذا به يجلس أمام بيت مجاور لبيتي ساعدته على النهوض وقلت له كلانا يحتاج للبكاء لكن علينا النوم، فضحك قائلاً “إيمتا بالمنام” فضحكت ملياً كعادتي دون أن أشعره بحالته السيئة. بعد ذلك غادر دون أن يبلغني لأسمع بأنه في مشفى “الهمشري” في “عين الحلوة” بصيدا ذهبت إليه ومعي أصدقاء لكننا لم نجد آدم حاتم إلاّ كومة عظام، يكز على أسنانه التي بدا عليها بعض ملامح ضرب، أمعنت فيه جيداً لم يتعرّف عليّ كما إنه لم يتعرّف على أياً منا، ثم قال لنا الطبيب بأنه لن يستمر ذلك إلاّ أياماً في غيبوبة ثم يموت وعرفنا بأنه تناول كمية من الحبوب إلى جانب خمور مختلفة ذلك يؤدي الى تشمّع دون جدوى.
عدنا الى بيروت لنعود بعد أيام لكن ليس قبل أن نعرف بأن هذا الشاعر الجميل سيتحول إلى ظلال بعيدة. دفن في درب السيم حيث الشهداء والقديسين.
اليوم هل من جدوى لتوجيه سؤالاً لواحدة من الجهات التي تباكت عليه حين مات “منتحراً” كي تجعل له تأبيناً إعتبارياً ليتعرّف أهل هذه المدينة على شاهد من نوع مختلف، على خرابها خلال القصف الإسرائيلي والتقاصف مع أبناء الخندق الواحد والمليشيات المتحاربة كيفما إتفق.
إننا إزاء أجوبة واضحة إذ لن تفِ واحدة من هذه الجهات بوعودها كما لو أننا نحاول إعادة إرسال مخطوط آدم حاتم وهو في الأبدية، ليجعل من تلك الوعود عرضة للتمظهر بأبشع مستوياته.
في هذا الصدد وجدنا بأننا الأحق أن نصدر ديوانه الوحيد المعنّون بـ “لا أحد” بعد عامين من وفاته، ضمن “سلسلة إصدارات كراس”، كان ذلك من الواجب علينا بحكم الرابطة الأخوية وصداقتنا به، بل أسوة بعائلية النفي الموحد وبحكم الأسرة الأدبية التي تجمعنا، بينما في الناحية الأخرى، “لا أحد” يدري كيف قمت بجمع كتابات آدم حاتم إضافة للمخطوط الذي وجدنا نسخة عنه عند الصديق المشترك أحمد مراد الذي شهد معنا آخر أيامه ولم يتوانَ هذا الصديق من تقديم أية مساعدة للراحل أثناء حياته حيث كان مسؤولاً في الإعلام المركزي لتنظيم فلسطيني جمعنا به أيام “عصبة الأنصار” للثورة الفلسطينية التي يعود تاريخ هذه “العصبة” الى تنظيم شيوعي أرسل عدداً من رفاقه لمؤازرة الثورة، بعضهم من عاد بعد إنجاز مهامه وبعضهم من تابع تجاوزاً وتحبباً لهذه الثورة بينما كنت من البعض الآخر.
اليوم سنجد من يشاطرنا متعالياً بهواتف في ساعة متأخرة كي يبلغنا بأن ما قمنا به [ مجرد خيانة للشعر والشعراء ] الذريعة كما يراها مهاتفي “ثمة نصوصاً ناقصة” بدوري أقول (وهذا رجاء بل رسالة مفتوحة لمن تتوفر عنده نصوصاً لم يشتمله الديوان) أن يبعثها لي كي أعاود إصدارها في طبعة جديدة ومزّيدة، وأهلاً بالمباركة للشعر في زمن لا يبارك الشعر والكرنفال.
أما اليوم، كما قبل أعوام، بل كما قبل عقود خلت، سيكون للأموات ورثة يلفقون كل شيء، حتى تاريخهم الشخصي حيث يدّعون، ويبتهجون على ذكريات حميمة في الكذب الذي يشعل مآرب ذات ذائقة نموذجية، لذا، علينا أن نجيد لغة الأموات كي تفيق من سباتها لترى أصدقاء على نحو متهافت يجيّرون ذكراهم لمصالح خاصة عبر أمسيات في “سبوت” و”ربوع” وغير ذلك من مناسبات لا يعرفها أحداً قبل أن يغادرنا الأصحاب ورفاق الأمس اليتامى !!!
– أشباهنا… في الوحدة والألم :
والآن، بل قبل لحظات قليلة (يا للمفارقة هذه) أعثر في أرشيف مجلة فلسطينية متوقفة منذ زمن، بعض مسودات قصصية لجميل حتّمل، كما لو إنها كُتبت عن شاعر يُدعى آدم حاتم، أو إنها أخذت ملامحه قبل أن يشيخ وهو في الطريق إلينا. نحن القابعين في بوابة العبور وفاتحة الهلاك الجميل، هنا بيروت […]
وجميل حتمل بدأ مشروعه القصصي مع “الطفلة ذات القُبّعة البيضاء” في زمن كان يسير فيه لبنان نحو خلاص عبر جبهة إقترحها كمال جنبلاط وقد كانت الثورة الفلسطينية متآزرة بصفين أحدهم يتمثل باسم “جبهة الرفض” والآخر يعلم الله عن جدوى مشروعه آنذاك في هاتين الإحالتين يمكننا تبيّن ذلك الحجم من الثوار المارقين على القانون و”الأبالسة” والمناضلين الشرفاء جاؤوا على حد سواء كل حسب غايته المرجوة ليتابع مناخاته في أكناف هذا المخاض الفلسطيني وقد يساهم البعض بانقسامات وهمية، ثمة من أسس تنظيمات خاصة دون برنامج غير إنها رديفة لحركة “فتح” المنقسمة أصلاً على نفسها، بعضهم من يريد أن تسير هذه “المنظمة” كحركة قومية عربية وبعضهم من ينظر إليها كمسار واضح السمات والمنهج غايته العودة إلى فلسطينه الحبيبة.
إنخرط في هذا الصراع الذي نلاحظ نتائجه لليوم بعضاً من التروتسكيين والماويين وبعضاً من تيارات يسارية تنشط خارج تركية أبان حملة طالت قياداتهم وزجت بهم في السجون أمثال حيدر كوتلو ونهاد سرغين، ذلك زمن الثورات المتعددة داخل معترك واحد إسمه “منظمة التحرير الفلسطينية” آنذاك، زمن كثر فيه الخوف والإعتقال والحب والثورة الواعدة، وما كانت القصاصات التي كتبها جميل حتمل في تلك المجلة إلاّ لتعود بنا الى هذا الإسترسال الرمزي، هي ذات المجلة التي كان يراسلها من دمشق “الأفق” لنجده في التاريخ عينه يحرر في مجلة “القاعدة” حوله عدداً من الحالمين كان من بينهم آدم حاتم وأنس حداد وحسيب الجاسم وبسام درويش وفرج بيرقدار، يوسف عبد الكي، مشرق غانم، زهير غانم. كان آخر لقاء لنا مع جميل حتمل في مهرجان للأغنية السياسية (حسب تقديري)، ذلك في “المركز الثقافي السوفييتي” حيث كاسيت “حناجركم” للفنان سميح شقير كان يمثل إنعطافاً هاماً في مجال الأغنية الملتزمة إلى جانب فرقة “الدرب” و “نيسان ” و “مزيّد عبد اللطيف” و “السلام”، جميعها فرق ذات توجه ملتزم يقف خلفها “إتحاد الشباب الديمقراطي” على الرغم من أن جميع العاملين في هذه الفرق كانوا عمالاً وموظفون خارج إهتماماتهم الفنية أو الشعرية، إلاّ أنهم داخل المشهد الثقافي الجاد بعيداً عن أي أفق قَبلي متعصب.
بتنا اليوم في حاجة ماسة إلى تلك المناخات الأدبية والفكرية وقت إنحسار الإيديولوجيا وجنوح اليسار في مركزه المتمثل بموسكو.
لعل هذا الكلام كان بداية إفتراقنا مع القاص جميل حتمل، لنستمر فيما بعد عبر مراسلات بريدية أو شفوية تصل مع أصدقاء الصدف، وثمة كتابات في صحف ودوريات عربية تصدر خارج الشرق العربي.
ذات مرة قرأت في مجلة “شهرزاد الجديدة” مقالاً مشتركاً مع جميل حتمل عن “الموضة والسلطة”، حينها كتبت مازحاً “ما هكذا علمنا تروتسكي ! ثم إن قلبك يا جورج وأنت في الثامنة والثلاثين، إكتب لي شيئاً عن شهرزاد البارسية، عن الأحصنة التي تتصدّرها عيادة الطبية النفسانية، عن الأريكة المائلة والكرسي المخلوع في البيت المهجور، عن المعلقة الصحفية التي تذيع أخباراً قديمة، عن المجلات التي لا تشبه نفسها، عن الهاتف الذي يتصل مع نبضات قلبك، حقاً لقد تهنا”.
لنقل بأن هذا الكلام كان بداية التواصل خارج دمشق، الذي إستمر في باريس، المدينة التي ذهبت إليها كي أغادرها بعد أيام، فور إنتكاس المحاولات الفردية وما يمكننا أن ندعوها تجمعاً لاحقاً يخص الشرق العربي في الغرب الأوربي.
كنت حينها كما غيري، أُشبّه نفسي بجهود عشرة أفراد، أبحث عن حكايات لا تنام، تليق بمناخات هذا الشرق العصي بنا حدّ الجنون.
أما قبل، في هذه المقاربة بين كائنات تغادرنا منذ المدينة والبلاد التي تنجب كسوراً وقلوباً عليلة كثيرة الأمل والهدوء يوم تحولت الأفكار أوثاناً للعبادة. وبين كتاب جميل حتمل الذي صدر بعد وفاته حيث إحتوى على نعوة أو ما يشبه أكثر من موت مُقبل الى أن مات بعد عام واحد من تاريخ نعوته لنفسه ليصبح في الأربعين ويستريح إثر نوبة قلبية في باريس الحلوة المرّة.
لم أشأ الوصول الى ذلك المقهى، قبالة “معهد العالم العربي” في باريس كي ألمح الرجل الذي تحول الى أزل، بعد أن كتب طويلاً عن الأحياء التي شهدت بداية المناخات الثورية والفكرية ليعكف على كتابة أدب السجن والمنفى كأول نتاج قصصي متمايز، أقرب الى فضاء النثر الشعري، يمكننا أن نطلق على نموذج كهذا بـ [ أقاصيد ] تيمناً بالقصة والقصيدة
القراءة الأولى لهكذا كتابات ستكون في زمن بشّر بما آلت إليه الأمور من خسارات نلحظها الآن كأن كل شيء كان مهيأ، كما مات الشاعر آدم حاتم في ساعة مبكرة من الحياة حيث بدا القاص جميل حتمّل طريحاً يشرب أقراص مهدئات وسموماً تقلص الألم في بلد الإغتراب ذلك بعد سنوات لم يبارح فيها الأمكنة الأليفة إليه بل كأنه خُلق داخل عيادة ليلية.
بقيت الرسائل لدي… وبعض مسودات تعود الى بدايات هؤلاء الأصحاب سطوراً من رمل، رهاناً من نوع آخر بينما كان جميل حتمل وسطوره المرتجفة رهن إنتظارات الى أن قرأنا الخبر القادم من باريس حيث أغلب السياسيين والشعراء العرب لتصدر رابعة مجموعاته القصصية بعد وفاته.
هذه المجموعة بالذات تعبر عن آخر إنكساراته وأيامه بكل ما فيها من مضامين نتلمسها بدءاً من الغلاف “قصص المرض… قصص الجنون” مجرد عنوان يبشر بموت مُقبل، موت لا أكثر.
أظنكم بانتظار إسم ثالث سيموت صاحبه بعد أيام فور الإنتهاء من هذا السرد المقارب لبعض مناخات التمرد والثورة.
لا بأس فأنا مثلكم ذاهل من كل شيء، من حالة صديقي الذي يستوطن مرآة صباح كل يوم، يذكرني بنفسي الخربة، وما زلت تعباً ومنهاراً، كما كان صديقي إبن حتمّل، تنهشني القسوة ويرميني المرض الى أقصى الإكتئاب … مع ذلك هذا الوجه يشبه أحمد سليمان .
نُشر في: 4 أبريل، 2010 الساعة