زملاء

محمد الهلالي:جهوية الشعب وجهوية الدولة

الجهوية مفهوم سياسي نتج عن سيرورة التطورات الاجتماعية، ويمكن اعتباره أيضا تتويجا لمسارات ديمقراطية، وبالتالي فهو لا ينفصل عن مفهوم السلطة المركزية ولا عن مفاهيم أخرى مثل النزعة إلى الاستقلال وحق تقرير المصير واللامركزية والفدرالية.
فالاستبداد يقوم على مركزة السلطات وغياب مؤسسات وسيطة بين الدولة وبين المواطنين تتمتع باختصاصات تفوضها لها السلطة المركزية، وهذا التمركز للسلطات يتجسد في المكان (العاصمة) وفي شخص الحاكم والأفراد المشكلين للنواة الصلبة للسلطة وخاصة وزارة الداخلية.
ولذلك تظهر حركات تطالب باستقلال جهوي أو مجال ترابي معين، استقلالا يختلف مداه حسب النزعات الاستقلالية وأهدافها. ولقد برزت هذه النزعة في أوروبا في نهاية القرن 19، وتطورت ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، وعاودت الظهور في السبعينات (كاطالونيا، الباسك، الكيبيك، إرلندة الشمالية، فالونيا ببلجيكا، كورسيكا).
وتطالب النزعات الاستقلالية بحكم خاص يتجاوز مفهوم الجهوية، ولا يصل إلى حد المطالبة بتقرير المصير، الذي يعني مطالبة شعب من الشعوب أو جزء من شعب له خصوصيات تميزه بتقرير مصيره عبر اختيار وضعه الدولي ونظامه السياسي والإداري وهو أمر معترف به ومكرس في القانون الدولي والمجال الدبلوماسي عبر ميثاق الأمم المتحدة سنة 1951. وعلى سبيل المثال، فلقد أجرت فرنسا آخر استفتاء حول تقرير المصير في كاليدونيا الجديدة سنة 1989. ومن بين الصعوبات الكبرى التي تواجه مسألة تقرير المصير تحديد مفهوم الشعب ومفهوم الأقلية الإثنية أو الدينية ومفهوم الدولة ذاته.
ولا يجب الخلط بين الجهوية والفدرالية التي هي نمط تنظيمي يتكون من عدة جهات (قيما يخص الدولة الواحدة) وتحتفظ كل جهة باستقلالية واسعة وفعلية وتفوض بعض سلطاتها للسلطة المركزية، على أن يتخذ القرار جماعيان وهو ما نجده في سويسرا، وأمريكا الشمالية وألمانيا وبلجيكا والهند… (كما يمكن تطبيق الفيدرالية على الدول والأحزاب والنقابات والجمعيات)
أما الجهوية فترتكز أولا على وجود خصوصيات إثنية أو دينية أو غيرها تشكل لحمة الهوية الجهوية، وهو ما يفترض الاعتراف بهذه الخصوصيات والإعلاء من قيمتها والدفاع عنها باعتبارها مقومات أساسية للاستقرار وللتمتع بالحقوق المتعلقة بالهوية، وعلى رأسها الحق اللغوي والذاكرة المشتركة.
ولذلك فهذه الهوية المتميزة داخل الشعب الواحد تقتضي تمتع الجهة باستقلال سياسي واقتصادي، وبهذا المعنى فالجهوية تصبح وسيلة لتتخلص السلطة المركزية من ممارسة مجموعة من سلطاتها مركزيا بتفويضها للجهات.
هناك تداخل ما بين هذه المفاهيم، وقد يقود تحقق مفهوم منها إلى الانتقال للمطالبة بتحقيق مفهوم آخر، فقد تقود الجهوية مثلا، أمام تعثر العلاقة ما بين السلطة المركزية ومتطلبات استقلال الجهة، إلى المطالبة بتقرير المصير على أرضية استقلال إداري واقتصادي محلي.
هذا على مستوى المفاهيم، أما في ما يخص حالة المغرب فيجب التساؤل عن المعايير التي ستعتمد لاعتبار منطقة ترابية معينة جهة، أي مدى تمتعها بالخصوصيات الإثنية واللغوية والتاريخية التي تخولها لها صفة الجهوية، حتى لا يكون مفهوم الجهة مفهوما إداريا محضا يعتمد معايير الإقليم الجغرافي الذي ينبني على اعتباطية طبيعية وأحيانا على مصالح اقتصادية تجعل المعاير هي المعادن والأراضي الفلاحية الصالحة للزراعة والمتوفرة على المياه الجوفية أو مياه السدود، والمنافذ للبحر والمناطق الصناعية …
ولذلك يجب أيضا إعادة النظر في الثروات الاقتصادية وكيفية التعامل معها إنتاجا وتوزيعا مادامت مناطق المغرب متفاوتة في الغنى والفقر، ومادامت الدولة المركزية قد دعمت وعمقت، قدوة بالاستعمار، التقسيم الشهير ما بين المغرب النافع والمغرب غير النافع.
فكيف ستعوض الدولة المركزية الجهات التي لم تستفد من أية استثمارات أو حركات تصنيع أو بناء خطوط السكك الحديدية وتعبيد الطرقات الوطنية والطرقات السيارة؟ لماذا تمت مركزة الثروة في مناطق معينة من المغرب على حساب بقية المناطق الأخرى، بموافقة الدولة المغربية ومباركتها. ألم يكن يعني ذلك مراكمة السخط الجماهيري في تلك المناطق وإفراغها من أطرها ومن مقومات النمو ودعم الهجرة منها إلى مناطق غنية؟
وكيف ستتعامل الدولة المركزية مع الجهات التي بلورت إيديولوجية جهوية أو ذاكرة جماعية متميزة أصبحت بمثابة قاطرة فكرية وسياسية تستطيع ان تقود للمطالبة بالانفصال لأن إطار الجهوية لا يحتوي مطالبها ولا يلبي رغباتها؟
إن تصور الدولة للجهوية هو تصور إداري وسلطوي يهدف من جهة للخروج من أزمة البيروقراطية والفساد والرشوة المتفشية في الإدارات، ومحاولة التخفيف، بهذا الإجراء، من الضغوط الدولية التي أصبحت لها مؤشرات واضحة في مجال التنمية ومحاربة الرشوة، وتؤثر على علاقات المغرب بالغرب ومن ثمة التأثير في المساعدات الاقتصادية والاستثمارات والسياحة إضافة إلى تعقيد وضع المغرب بالنسبة لمسالة الصحراء.
كما أن اختيار الجهوية ليس اختيارا مبدئيا وإنما هو اختيار نفعي ومصلحي فرضه مأزق الصحراء والعبء الكبير الذي أصبحت ترزح تحته الدولة بسببه. فالجهوية هي الحل الذي استطاع المغرب بعد أكثر من ثلاثة عقود من الصراع مع البوليساريو وحليفتها الأولى الجزائر أن يبلوره كحل وسط بين الضم العسكري والانفصال. ولذلك فالسؤال الذي سيفرض نفسه هو: هل تصور الدولة للجهوية سيكون هو نفسه بالنسبة للأقاليم الصحراوية والمناطق الأخرى؟ أم أن المناطق الأخرى لن تقوم إلا بدور ثانوي وشكلي لإقناع الخصوم والمجتمع الدولي بفكرة الجهوية الموسعة؟
أما مفهوم الشعب للجهوية فهو أن يحكم جهته بنفسه، وأن يحي الانتماء القبلي للجهة كشرط ضروري لتحمل المسؤوليات الجهوية، وأن تتنافس الجهة مع الجهات الأخرى بل وأن تعاديها إن اقتضى الأمر ذلك.
على المنظرين للجهوية بالمغرب ألا يبيعوا للشعب آمالا وهمية كما عليهم ألا يستهينوا بخطورة الهوية الجهوية.

محمدالهلالي : شاعر مغربي وزميل مشروع مشترك منذ مجلة” كراس ” وإلى الآن

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق