زملاء

سورية سمير قصير

مرّت، قبل أيام، سنة خامسة على اغتيال الكاتب والمؤرّخ والصحافي والمناضل الشهيد سمير قصير (1960 ـ 2005)، وسط مشهد لبناني بائس، على صعيد سياسي، وأصعدة أخرى فكرية وثقافية وأخلاقية، تبرّر اختناق المرء بغصّة إنسانية تلقائية، عنوانها ببساطة: أتنكسر، تباعاً، حزمة أحلام قصير، في لبنان حرّ ديمقراطي مستقلّ؟ وفي جارة سورية شقيقة، حرّة بدورها، متحرّرة من الإستبداد، ديمقراطية، وتعددية؟ وفي صيغة للمعارضة العربية، جديدة ومستنيرة، مثقفة وعصرية، متكاتفو ومتكاملة؟ وهل يجوز، من باب “الواقعية السياسية” كما يبشّر البعض، أن نختزل شخصية قصير السياسية والفكرية في مآلات هذه اللحظة الراهنة وحدها، أي في ملفّ العلاقات السورية ـ اللبنانية، وانهيارات حركة 14 أذار عموماً؛ أو في أقدار ما سُمّي “ثورة الأرز”، انتفاضة الإستقلال خلال أسابيع شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2005، تحديداً؟

وهل يصحّ، في استطراد هذا الطراز من التفكير، قبول محاولات “إعادة إنتاج” الرجل، بوصفه محض وليد جميل، اتصف بـ”النضارة” و”النباهة”، أنجبه يسار لبناني (تبعثرت قسماته، ولعلها ضاعت نهائياً، بين الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي، ويسار “فتح”)؛ وليس بوصفه أحد أبرز قادة الشطر العلماني اليساري، الشبابي والثقافي، في تلك الانتفاضة، والرائي البصير الذي قال الكلام الأشجع ضدّ المركّب الأمني ـ السياسي ـ الطائفي اللبناني المشتغل لدى النظام السوري؟ وهل في باب تكريمه أن يكتشف البعض اليوم فجوة بين أنساق تفكيره، على نحو يجيز لهم تجزئة سمير قصير إلى أوّل أقلّ معارضة للنظام السوري، خلال سنوات إقامته الباريسية؛ وثانٍ أكثر عداء للنظام السوري وللحريرية، أيام “المنبر الديمقراطي”؛ وثالث منخرط في حريرية سعد الحريري، يستدرج “اليسار الديمقراطي” إلى حركة 14 آذار؛ ورابع يتناهبه “انتماء فلسطيني”، و”انتماء سوري”، و”انتماء لبناني”؟

للناس مذاهب شتى في النظر إلى قصير بالطبع، لا سيما أولئك الذين عاشوا معه تجربة حياة أو عمل أو رأي، ولا يحقّ لأحد أن يغلق أبواب النظر إلى الراحل عند زاوية واحدة أحادية دون سواها، أياً كان مقدار الإفراط في قراءة أفكاره أو تأويلها. هذا أمر، ومحاولات “تشذيب” آرائه ـ وخاصة الموقف من النظام السوري، والتلازم بين الهاجسين الوطني والديمقراطي في لبنان وسورية ـ على خلفية التطورات الراهنة، سلبية كانت أم إيجابية، أمر مختلف تماماً، ينقلب في الحال الثانية إلى ما يشبه التزوير والتشويه والمسخ. وسواء أخطأ أم أصاب في تقدير ذلك التلازم، ومدى تأثيره في احتمالات تفكك بنية الإستبداد السوري، فإنّ معارضة قصير للنظام السوري كانت ركيزة جوهرية في معمار تفكيره، فلم تتضاءل على امتداد كتاباته، بل تبلورت وارتقت عملياً في اقترابه الشديد من قوى المعارضة السورية.

ومنذ أن تعرّفت على الراحل، في باريس، أواخر الثمانينيات، لست أذكر حواراً بيننا غابت عن عناصره معارضة قصير الثابتة للنظام السوري، ليس من منطلق الوجود العسكري والأمني للنظام في لبنان، بل في اعتبار “الحركة التصحيحية” بمثابة سلطة استبداد وفساد وتخريب وطني واجتماعي لحاضر سورية ومستقبلها. وأجدني أقرّ بأننا اختلفنا، قبيل أشهر سبقت اغتياله، حول واقع نظام بشار الأسد: كان يرى أنه آخذ في الضعف، وكنت أرى أنه يستمدّ قوّة من الإحتلال الأمريكي للعراق، ومن تعاظم النفوذ الإقليمي الإيراني؛ وكان يعقد الكثير من الآمال على المحكمة الدولية، وكنت أراها لعبة خداع دولية، في الوقت الضائع. ولكني أسجّل أنّ حجم تفاؤله بتاثير المعارضة السورية كان لا يتفوّق على تفاؤلي الحذر فحسب، بل كنت بالقياس إليه أبدو متشائماً!

ولهذ لا أرتاب، البتة، في أنّ استهداف قصير بُني أيضاً على ربطه السليم، والجسور تماماً، بين استعادة الديمقراطية اللبنانية وتطويرها، واستعادة الديمقراطية التي عرفتها سورية في أكثر من مرحلة على امتداد تاريخها الحديث، قبل وقوع البلاد أسيرة استبداد حزب البعث سنة 1963. المطلوب، إذاً، لم يكن ذلك اللبناني، الديمقراطي، اليساري إجمالاً، الناقد للنظام الأمني، إسوة بالأنظمة الطائفية والإقطاعية والعائلية، الداعي إلى قطيعة صريحة مع الماضي المريض الفاسد المتهالك… فحسب؛ بل، أيضاً، ذلك اللبناني الذي بات يرى الصلة الوشيجة بين شعبين واستقلالين وديمقراطيتين: في لبنان، وفي سورية.

ونتذكر أنّ الراحل كان قد نحت تعبيراً طريفاً، تامّ الإنطباق على واقع الحال، في وصف طبيعة الشراكة بين النظام الأمني اللبناني وسيّده النظام الأمني السوري: “اللبنانية ـ السورية للتلازم والعلاقات المميزة، شركة غير محدودة اللامسؤولية”! وليس عندي، اليوم، سبب واحد يجعلني أنخرط في رياضة إعادة إنتاج مواقف قصير من النظام السوري، انطلاقاً من أنّ الغرام الراهن الذي تشهده الشركة الأسدية ـ الحريرية قد برهن على خطأ جوهري في تلك المواقف، وبالتالي فإنّ الوفاء للشهيد يقتضي “تهذيب”، وربما استبعاد، تلك الكتلة من أفكاره، وردّه إلى سنوات “البراءة” في باريس، أو في كتابات “مجلة الدراسات الفلسطينية” والـ”موند ديبلوماتيك”…

فلستُ أعتبر مواقف قصير صائبة وثاقبة وصحيحة، اليوم كما في الأمس، فقط؛ بل أراها اكتسبت مصداقية أعلى طيلة خمس سنوات من المساومات والألعاب والمحاصصات والمصالحات التي انخرطت فيها الشركة غير محدودة اللامسؤولية، ذاتها، دون سواها!

اظهر المزيد

صبحي حديدي

*ناقد وباحث ومترجم سوري. * ولد في القامشلي، سورية، عام 1951. تخرّج من جامعة دمشق – قسم اللغة الإنكليزية وآدابها، وتابع دراساته في فرنسا وبريطانيا. * نشر العديد من الأبحاث النقدية والترجمات في دوريات عربية وأجنبية مختلفة، وقدّم دراسات معمّقة في التعريف بالنظرية الأدبية والمدارس النقدية المعاصرة (الخطاب ما بعد الاستعماري، إعادة قراءة فرانتز فانون، القارىء والقراءة والاستجابة، الموضوعة الغنائية، الحديث وما بعد الحداثة، النقد التاريخاني الجديد، وسواها). *نقل إلى اللغة العربية العديد من الأعمال في الفلسفة والرواية والشعر والنظرية النقدية، بينها مونتغمري واط: "الفكر السياسي الاسلامي"، 1979؛ كين كيسي: "طيران فوق عشّ الوقواق"، رواية، 1981؛ ميشيل زيرافا: "الأسطورة والرواية"، 1983؛ ياسوناري كاواباتا: "ضجيج الجبل"، رواية، 1983، و"أستاذ الـ غو"، رواية، 2007؛ صمويل هنري هوك: "منعطف المخيّلة البشرية"، 1984؛ كلود ليفي – ستروس: "الأسطورة والمعنى"، 1985؛ مجموعة مؤلفين: "عاصفة الصحراء، عاصفة الحداثة"، 1991؛ إدوارد سعيد: "تعقيبات على الاستشراق"، 1996. * يقيم في باريس، ويكتب بصفة دورية في صحيفة "القدس العربي"،لندن؛ والشهرية الفرنسية Afrique Asie، باريس. *البريد الإلكتروني: s.hadidi@libertysurf.fr

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق