زملاء

عُلا شيب الدين : العجرفة – مجزرة على إيقاع “مهرجانات” تحيّي القوات “الباسلة”

في الحادي والعشرين من نيسان 2013، وقعت مجزرة مروِّعة في جديدة الفضل بريف دمشق. وثّقت “لجان التنسيق المحلية” يومها مقتل 483 شخصاً، قضوا في المجزرة نفسها، وقالت إن من بين أولئك، أطفالاً ونساء، قُتِلوا حرقاً أو ذبحاً بالسكاكين، على مدى أربعة أيام، بعدما اقتحمت جديدة الفضل قوات من الحرس الجمهوري، بالاشتراك مع “شبّيحة”. ما يزيد على هول المجزرة هولاً، احتفاء بعض الموالين حينذاك بالمجزرة، وإقامة “مهرجانات” تحيّي القوات “الباسلة” على انتصارها على “الإرهابيين”.

كانت صور فتيات وهنّ يدبكن ويرقصن على وقع المجزرة، مثيرة ربما لأسئلة كثيرة، شائكة، وعرة ومحيِّرة، منها: كيف ولماذا تمّحي الشفقة من قلوب البعض إلى هذا الحد المرعب؟!
اللافت في ما يخص الفتيات اللواتي رقصن ودبكن، واتّشحن باللون الأصفر الخاص بـ”حزب الله”، أنهن كن من الطراز ذاته، الذي دائماً ما كان يتم اختياره بشكل مدروس ومحسوب في كل المسيرات التي كانت “تُسَيَّر” لتأييد الأسد، وفي كل “مناسبات الحرب” التي طالما شُنَّت على الثائرين منذ عامين ونصف عام. كلهن سافرات الرأس (بقصد الإيهام بأنهن أقليات خائفات، مستهدَفات من أكثرية سنّية أصولية وتكفيرية!)، وكلهن لابسات السبور، واضِعات الوشوم أحياناً، مرتديات “تشيرتات” مرسوماً عليها صور بشار الأسد أو كلمة “منحبّك”، متزيّنات بحلى تحمل صور الأسد أيضاً، والعلَم ذا الخط الأحمر، مبالِغات في تعظيمهن القائد والجيش والأمن والشرطة، مستعمِلات أسلوب “النكاية” و”الشماتة” والسخرية المؤذية، ومنتبهات جيداً إلى ضرورة بقاء الابتسامة الماكرة على وجوههن، بغية إثارة مشاعر الغيظ والحسد في نفوس الخصوم. التفاصيل تلك وغيرها الكثير، من الواضح أنها تدلل ليس على طائفية النظام وحسب، بل أيضاً على جوهره المتعجرف، ووجوده المتسلط القائم على الازدراء الممنهج والتعالي والعنصرية.
وحيث إنه بالمقارنة تُعرَف الأشياء بوضوح أكثر، فما على المرء إلا مقارنة التظاهرات المناوئة للنظام، بالمسيرات المؤيدة له، وحينها قد يتعرَّف إلى عالم العجرفة في أوضح صوره. في التظاهرات، هناك بشر ثائرون، غاضبون، عفويون، غير معنيين بالصورة التي يجب إظهارها إلى الآخرين، كونهم منهمكين في سخطهم الصادق، وقلقهم وترقّبهم مباغتة الرصاص الحي لصدروهم في كل لحظة. هم في غالبيتهم الساحقة، من البسطاء والفقراء والمهمّشين، خرجوا من الأرياف محتجّين بلباس متواضع، أو تقليدي محلّي، وبأشكال غير مهندسة. فحوى شعاراتهم، العدالة الاجتماعية، المساواة، الحرية والكرامة.
على النقيض من ذلك، تمهر المسيرات المؤيدة شعارات تفوح منها رائحة العنصرية، في وسط مناخ إقصائيّ وإلغائيّ يُعتبَر الموالي لآل الأسد فيه، وطنياً مخلصاً، والمعارض عميلاً وخائناً، قتله فرْض وواجب، كما يُعتبَر المؤيدون “راقين وعلمانيين”، بينما يُنظَر إلى الثائرين المتظاهرين كـ”حثالة ورعاع، وتكفيريين، وإرهابيين”. قد لا يخفى على المراقب الجيد للمسيرات المؤيدة، ذاك الجهد المبذول في الاعتناء بمظهر المؤيدين، من مثل ارتداء لباس موحَّد من “تشيرتات” مطبوع عليها صورة الأسد مع كلمة “منحبّك”، ناهيك بحمْل أعداد هائلة من الأعلام ذات الخط الأحمر، تتوسطها صورة بشار الأسد، كرمز لـ”سوريا الأسد”، وكإشارة رمزية مفادها: أن علَم السوريين هو هذا العلَم، وأن الشرعية لعلَم “الدولة” هذا، لا للعلم ذي الخط الأخضر الذي يحمله خارجون على “الدولة” و”القانون”! يحدث ذلك، بالترافق مع إحساس مدروس يحاولون إيصاله للمعارضين والموالين والحياديين والصامتين، لمَن في الداخل ولمَن في الخارج، للسوريين ولغير السوريين، على حد سواء، بأنهم الشرعيون، في قبالة لا شرعية التظاهرات المحتجة، وبأنهم أهل البلد، ومحميون من جيش السلطة وأمنها وشبّيحتها، وبأنهم الأقوى والأبقى. يُستشَفّ ذلك من خلال لغة الجسد الخاصة بهم مثلاً، أو من ملامح الوجوه، ونماذج المؤيدين من ذوي التركيز على الهندام “المودرن” الذي من شأنه إبرازهم كـ”مدينيين” و”حداثويين” في مواجهة “متخلفين” و”همَج”، حتى أن دلالة النظارات الشمسية تختلف بين التأييد والمعارَضة، ففي المسيرات المؤيدة قد تكون مؤشراً إلى العجرفة والاستكبار، تماهياً مع صور أفراد العائلة المالكة الحاكمة التي طالما اقتحمت كل شيء، وترسَّخت بفظاظة في وعي الناس ولا وعيهم، خصوصاً تلك التي قُصِد فيها اتخاذ وضعية معينة، يضع فيها حافظ الأسد وابنه الوارث وأخوه نظّارات شمسية، مدروسة سيكولوجياً بحيث تخيف المتلقي من شدة غموض شخصياتها، وتكرِّس في داخله شعور الوضاعة والاحتقار لنفسه، كما تذكّر بالمناخ الأمني المسيطر على البلد في آن واحد، بينما يكون للنظارة الشمسية في التظاهرات المحتجة دلالة أخرى، فهي وسيلة لستر الوجه، تترجم الخوف من الانكشاف على رجال الأمن.
في السياق ذاته تندرج الصور التي طالما راجت بعدما ورث الأسد الابن “الجمهورية”، أي تلك التي يظهر فيها مع زوجته وأطفاله بشكل يقصد الإيحاء بأنهم “عائلة سبور، سعيدة، عصرية ومتفهِّمة للشعب (العبيد)، ومتجاوزة نظام الأب القديم”، وبأن أطفال العائلة “ملائكة” ينبغي لأطفال سوريا الاقتداء بهم والتعلم منهم، والسير على طريق “خدمتهم”، إضافة إلى التركيز على إظهار “السيدة الأولى” كسيدة “أنيقة”، “منفتحة على أي جديد” ويجب على نساء سوريا النظر إلى أنفسهن من خلالها وإعدام وجودهن الأنثوي في حضرتها وحضورها “الأبدي الفاتن”! وغير ذلك الكثير مما يصعب حصره في هذه السطور.
ينسحب ما ذُكِر آنفاً على “الجيش الحر” و”الجيش النظامي” أيضاً، فالنظرة إلى “الجيش الحر” نبعت من ذهنية العجرفة ذاتها، إذ عدم توافر اللباس الجيد والخاص لدى مقاتلي “الجيش السوري الحر” من مثل الخوذة، أو السترة الواقية من الرصاص، وإهمال بعض المقاتلين لمظهرهم الخارجي، كأن يُترَك الشَّعر والذقن بلا حلاقة، نتيجة العيش في ظروف غير عادية، وفي أماكن ليست ملائمة للاعتناء بالشكل، وعدم توافر الأدوات اللازمة لذلك. إضافة إلى عدم وجود التقنيات والمعدات المهمة بين أيديهم، ونقص الأسلحة العادية، وانعدام الأسلحة النوعية و”المتطورة” لديهم كالطائرات والدبابات وغيرها. ذلك كله، كان من شأنه تعميق النظرة الدونية لهذا الجيش، واعتباره مجرد جيش من “الإرهابيين والمشردين والمتسولين”. مع أن حقيقة الأمر غير ذلك البتة، إذ نحن أمام عالمَين متنابذَين: نظام جائر، وشعب ثائر. الأول، مرتزق بمعنى الكلمة، لا شرعي، لا وطني بكل المقاييس، وما انخراط حلفائه الغزاة الطائفيين القادمين من إيران والعراق ولبنان/”حزب الله”، في القتال إلى جانبه، إلا دليل دامغ على ذلك. أما الثاني، فهو شجاع، صاحب قضية شعبية وطنية عادلة، وحيد لا يُسانَد في ثورته ولا يُدعَم، ويقاتل بروح مفعمة بالإيمان بأشياء كثيرة، منها الحرية.
وقد كان مخزياً، أن من ادّعوا “صداقة” الشعب السوري، تعاطوا مع “الجيش السوري الحر” بذهنية أعداء الثورة الواضحين ذاتها، فهم لم يعترفوا بهذا الجيش المهمَّش، بالمعنى الحقيقي للاعتراف، ولم يهتموا بأمر تسليحه، بينما مدّ الروس مثلاً، حليفهم النظام بكل أنواع الأسلحة، متذرعين بعقود قديمة مبرمة. وكان كلما لوَّح “أصدقاء” الشعب السوري بتسليح “الجيش السوري الحر”، سارع الروس إلى الرد بأن ذلك مخالف للقوانين والاتفاقات الدولية التي تقضي ببيع السلاح للأنظمة فقط. بمعنى، أنه لا يجوز إيلاء “الهامشيين” أي اهتمام أو اعتراف – حتى لو كانوا ممن يقع عليهم الظلم والجور- ، كون “الأنظمة” فقط – حتى لو كانت قاتلة لشعوبها- ذات شأن واعتبار.
بيد أن الازدراء المؤسف، كان من جهة بعض “المتثاقفين”، أولئك المحسوبين على الثورة، الذين طالما مارسوا دوراً بشعاً وخطيراً حيال الثائرين المدينيين والعسكريين المنشقّين عن جيش النظام. فهم، كالنظام ومؤيديه، تعاطوا مع الثوار عبر النظر إليهم كـ”متخلفين” و”قاصرين” يلزمهم توجيه ورعاية ووصاية، والنظر إلى أنفسهم كـ”عقلاء” و”حكماء” و”متحضِّرين”. الخطير، في الدور الذي لعبه أولئك، أنهم ساهموا في تعميق تهميش المهمشين، وتأصيل ازدرائهم، وهذا ما لن يمر مرور الكرام ربما، إذ المهمَّش ما كان ليثور لو لم يكن احتقاره دافعاً مهمّاً إلى ذلك، وهو حتماً سوف يواصل ثورته على كل مَن يحاول تهميشه مجدَّداً، وقد يتخذ ذلك منحى انتقامياً، خصوصاً لدى البعض من حاملي السلاح! لذا وجبَ الحذر.

***
ما ذُكِر عن بعض مظاهر العجرفة، إنْ هو إلا تفصيل صغير من تاريخ طويل، عاشه السوريون طوال عقود حكم آل الأسد الذي تمثل العجرفة أحد مرتكزاته، وقد لا نجانب الصواب إن قلنا إن “العجرفة” واحد من أهم الأسباب وأشدها عمقاً، أفضى إلى اندلاع الثورة، لأنه قد لا يكون هناك سوري ذو إحساس عال بذاته، لم تترك تفاصيل العجرفة، والافتقار التام إلى الطيبة والمحبة والتسامح الذي دمَّر حياة السوريين وقضى على أحلامهم، أثرها البالغ في نفسه وروحه ووجدانه.
إن العجرفة كانت على ما يبدو، تؤسِّس للحظة انعطافية في تاريخ السوريين. لحظة القطيعة مع زمن القطيع. لحظة الثورة، فذاكرة الثائرين مكتظة ومترعة، ليس بتفاصيل الخوف والقمع والبؤس والإنهاك اليومي واللهاث تلو اللهاث في اتجاه الخواء والهباء فحسب، بل بالعجرفة أيضاً، وقد لا يكون في مقدور أحد من أولئك الثائرين أن ينسى ذاك اللؤم المدروس، من أجل تحقير الإنسان وتقزيمه، بل إعدامه. لؤم لم يقتصر على تحقير يُمارَس على “الفرد” من خارجه، أي من السلطة وممثليها في كل زاوية من زوايا سوريا (المزرعة)، بل تعدَّاه إلى تدريب كل “فرد” على تحقير ذاته بذاته من الداخل، وفي صميم وجوده. من أجل ذلك كله، ينبغي، بالنسبة إلى كل مَن ثار ربما، إفراغ الذاكرة، والتخفُّف من سلسلة متواصلة من ذكريات الهزيمة واليأس ونزف الروح. جارفاً أعماق الذاكرة، مجتثاً جذور العجرفة.
لذاكرة العجرفة تلك وظيفتان: إحداهما مختصة بـ”التذكير” بماضٍ لطالما كانت السلطة فيه تقتات من تبخيس الناس، والأخرى “تحريضية” من شأنها منْع كل محاولة للتفكير في التراجع عن الثورة، لأن ذلك سيفضي في نظر الثائرين، إلى واقع انتقاميّ، استعباديّ أقسى مما كان قبل اندلاع الثورة. واقع يصير الموت معه أرحم بلا أدنى شك، وعلى ضوء هذا الكلام فقط، يصبح شعار “الموت ولا المذلة”، أكثر وضوحاً ودلالة.
هكذا، قد يجد مَن لديه فضول لمعرفة سبب استمرار الثورة السورية، في ما يُطرح ها هنا، إجابة معينة ربما تساعده في فكّ الشيفرة الخاصة بلغز استمرار الثورة، على الرغم من كل ما حصل ويحصل من كوارث تفوق كل تصور، ومع أنها ثورة على هذا القدر العظيم من الوحدة واليتم! ففي “مملكة التبخيس”، حيث تمّ “تأميم” العجرفة، أي احتكارها على يد “دولة الأسد”، ومنْحها السمة “الرسمية”، كانت تتم إدارة صراعية للفضاء الخاص بالناس، وكان “التحديث والتطوير” و”الرفاهية” الموعودة، محض عنجهية تعلو ولا يُعلَى عليها، ولّدت الملايين من المهمّشين والمنبوذين والخائبين والعاطلين. لذا، كانت الثورة ملجأ للمسحوقين وملاذاً للمستضعَفين، ومرجعية يستعصم بها المظلومون. فالثورة بالنسبة إلى مَن قرّر رفْع صخرة سيزيف، وشَعرَ بأنه هو الذي يستحق الحياة لا “نُخبه” القيادية، هي الصح الوحيد في حياته. وكريحٍ عظيمة تهبّ باستمرار من أجل أن يذوي جذر الخراب في البلاد (العائلة المالكة الحاكمة). الثورة السورية، بالنسبة إلى الثائر الحقيقي، بمثابة ومضة مدمِّرة لا قضية محاباة. فيها فهِم ذاته وكشفَ المستور، وخرَق النظام والعادة والمحدود، وبات كأنه يحيا غبطة روحية حقيقية. إذ حتى في عمق المأساة الحاصلة، هو مغتبط، فمع أنه لم يحقق جل ما يصبو إليه بعد، إلا أنه لوى ذراع العجرفة على الأقل، وحطّم أنفها.

* كاتبة سورية

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق