حوارات

“بالخلاص، يا شباب!” تجربة 16 عاماً سجناً لزميلنا ياسين الحاج صالح


استوطنتُهُ لأُبطِل وظيفته فحرّرني من عبوديات أخرى وصار كأنه بيتي

صدر للزميل والكاتب السوري ياسين الحاج صالح، الذي اعتقل لمدة 16 عاما في سجون نظام البعث السوري، كتاب “بالخلاص، يا شباب!” عن “دار الساقي. ليس هو الكتاب الأول الذي يتحدث عن تجربة معتقل في السجون السورية ولن يكون الأخير بالطبع طالما أن السجون والمعتقلات لا تزال فاغرة أفواهها لاستقبال من يرمى فيها، لكن ما يميزه أنه يتناول تجربة الانعتاق والتحرر في السجن، أو ما يسميه الكاتب “الإستحباس”. لذا لا يتناول الكتاب مشاهد التعذيب الوحشي ولا يستدعي القارئ الى وليمة الحزن والحقد، بل الى الدهشة، التي تجعل معتقلاً لمدة عقد ونيف يتحدث عن السجن كأنه تجربة حياتية أخرى غيّرته وبدّلته نحو الأحسن، بل ودفعته للحنين إليها في أحيان. فالحاج صالح جعل من السجن منزلا أو مدارا لحياة كاملة ومغايرة، يتمكن المرء من تحقيقها حين يكف عن الشعور بأنه سيخرج الى الحياة القديمة مجددا. بالطبع هذا لا يجعل السجن جنة بل جحيما يمكن تحمّله. في هذه المقابلة، عبر المراسلة، ضوء على مفاهيم وتعبيرات وردت في الكتاب.


■ تتحدث عن مفهوم “الاستحباس” في الكتاب، هل يمكنك توضيحه؟
– الاستحباس هو حالة السجين حين يستوطن السجن، يسكنه ويسترخي فيه كأنه في بيته. ويصبح الوقت داخل السجن حليفه، فيُبطل وظيفة السجن. يستحبس السجين حين يتاح له أن يحل مشكلة حبسه بصورة مُرضية، كأن يقوم بعمل نافع أو ينتج ويتعلم، فيدرج سنوات الحبس كمرحلة عضوية في حياته. لكن الإستحباس كذلك تسليم بالسجن أو ترويض للنفس على العيش فيه. هو حالة تكيفية بالمعنى الإيجابي للتعبير، وبشيء من المعنى السلبي.
■ ما هي ظروف الإستحباس؟ كيف ينجح المستحبس في تحقيق هدفه؟ وماذا لو فشل؟
– من خلال تجربتي، أقدّر أن الإستحباس مرهون بأربعة أشياء.
أولاً، ظروف سجن يمكن تحملها والتفاوض معها. على سبيل المثال، فإن الإستحباس ممتنع في سجن تدمر، وهو السجن السوري المطلق، الذي يستحيل أن يستوطنه أو يسترخي فيه أحد. لكنه ممكن في سجني المسلمية قرب حلب وعدرا قرب دمشق، وقد قضيت فيهما معا 15 عاما وأسابيع. ثانياً، ظروف السجين: إستحباس المتزوج ومن له أطفال، والكبير السن، والمملق، والذي لا يزار، أصعب بكثير من استحباس الشاب العازب، الذي يتلقى زيارات دورية، ويتوافر له بعض المال. الإستحباس مرهون بالتعلم وتغيير النفس، وهو أيسر للشباب مما للأكبر سنا. ثالثاً، مدة الحبس. أخمن أن خاصية الاستحباس تحتاج إلى سنوات كي تظهر، وأنه لا يستحبس من يقضي عاما أو عامين في السجن. لكن هناك الإستعداد الشخصي، وهو العنصر الرابع الذي يكمن وراء استحباس سريع وسهل لبعض السجناء، فيما لا يستحبس البتة بعض السجناء مهما تطل سنوات الحبس، ومهما تكن شروط الحياة فيه. الاستحباس ليس محتوما، وهناك سجناء لا يتكيفون، وتأثير السجن عليهم سلبي محض، وقت طويل ضائع، خسارة صافية. وهؤلاء ميالون إلى حذف سنوات السجن من حياتهم والنظر إليها وإلى حياتهم فيها بعداء. الفرصة أكبر في هذه الحالة للتحطم، أو للإصابة بالأمراض النفسية والجسدية. أخذت أستحبس شخصيا بعد خمس أو ست سنوات من السجن في المسلمية، وبلغت أعلى درجات الاستحباس في عدرا بين عامي 1992 ونهاية 1995. لو سجنت اليوم، لكان احتمال الاستحباس أدنى، وربما معدوم تمام.
■ تقول أنك استحبست بفضل القراءة المكثفة. لنقل إن الكتب بقيت ممنوعة، كيف كانت لتكون حياة السجن؟
– لا أعرف كيف كان لحياة السجن أن تكون لولا الكتب. فكرت في الأمر مرارا منذ كنت في السجن، وكنت دوما أشعر بالقشعريرة حيال هذا الاحتمال. أظنني كنت سأتحطم. انقضى عام ونصف عام قبل توفير الكتب لنا، وكنت خلالها سيئ التكيّف ومضطرب المزاج. أكثر زملائي كانوا أفضل أداء مني. التعلم في السجن لم يجعلني “مثقفا”، أظنه غيّرني وحررني. السجن كان تجربة انعتاق لي من سجون وعبوديات أخرى. ليس الأمر أمر “قراءة كثيفة” ولا هو مسألة تعلّم حصرا، إنه تعلّم وصراع وتحوّل فكري ونفسي عميق. قلت في الكتاب إنه كان طفولة ثانية، والغريب أنه لم يخطر ببالي استخدام تعبير مدرسة في وصف السجن. لكنه كان بالفعل مدرسة ثانية، وفرصة لتنشئة جديدة.
■ هل شعرت يوما خلال سجنك بأن الأفكار التي سُجنت بسببها تستحق هذه التضحية كلها؟
– لسنوات طويلة كان توقيفنا “عرفيا”، من دون تهمة ومن دون محاكمة، وكنا محرومين من حق معرفة المصير. هذا يعني مبدئيا أنه يمكن أن يخلى سبيلك في أي لحظة، لكنه يعني أيضا أنه يمكن أن تقضي عمرا في السجن. وما كنت أتصور، ولا في أسوأ تخيلاتي، أني سأقضي 16 عاما من الحبس.
أُحلت على المحكمة في نيسان 1992، بعد 11 عاما وأربعة أشهر من الإعتقال. خلال تلك السنوات كنت قد تغيرت، ومبادئي لم تعدْ نفسها. صارت أقل حزبية وأقل إيديولوجية، أكثر عمومية في مضمونها وأكثر شخصية في دوافعها. صارت القضية قضية كرامة شخصية ووطنية، وكانت يومها واليوم، تستحق الكفاح من أجلها. لم أشكُ ولم أتذمر يوما بسبب الحبس، ولا لمتُ حزبي ورفاقي، أو الظروف، ولم أشعر لحظة بالندم. كان خياري وأتحمل مسؤوليته. ولا أزال أرى أني فعلت الشيء الصحيح.
■ هل شعرت بأنك مناضل بشكل ما؟ كيف تصف علاقتك اليوم بتلك الأفكار التي سُجنت بسببها؟
– كنت “مناضلا” بالفعل. لا أحب الكلمة، بفعل ما لحقها من عار على يد بعثيين وشيوعيين، لكنك تكون مناضلا حين تجعل من قضية عامة شاغلك الشخصي، وتتحمل مشاق في سبيلها، أليس كذلك؟ في وقت مبكر من السجن لم أعد شيوعيا. قد لا يكون هذا قابلا للتصديق اليوم، بفعل سقوط حظوة الشيوعية مع انهيار المعسكر الشرقي، وتفضيل شيوعيين سابقين كثيرين تصوير أنفسهم متحررين بدلا من يتامى. لكني كنت أصلا عضوا في تنظيم لديه نزعة هرطقية قوية، عند شبابه بخاصة. وكنت على انجذاب خاص إلى الأصوات المغايرة والتفكير غير النظامي. وبتأثير التثقف، صرت أرى كم هو مفقر فكريا وثقافيا أن يكون المرء شيوعيا. لا أنكر أن سقوط المعسكر الشيوعي عزّز هذا الميل الشخصي. وصحيح أني لا أصف نفسي اليوم كماركسي، لكني أستفيد غالبا من أدوات التحليل الماركسية، ولديَّ نفور دائم من الاستهانة بالفكر الماركسي.
■ في الكتاب مجموعة من الأفكار تعبّر عن حنين ما الى السجن؟ ما الذي تقصده بهذا الحنين؟ هل تجد أن من المنطقي الحنين الى مكان سرق منك حريتك؟
– الحنين إلى السجن ليس منطقيا، لكنه موجود. تشتاق إلى أيامك في السجن، وإلى ما كنته وما كنت تفعله هناك. إذا كان السجن طفولة ثانية أو تجربة تحويلية، فربما تحن إليه كما تحن إلى الطفولة، أو إلى مغامرة تغير حياتك. السجن كان مغامرتي. وأن تكون المغامرة خطرة، وكلفتك سنوات عزيزة، لكنها غيّرتك في النهاية وشكّلتك في صورة أنسب، فهذا يجعلك تتذكرها بشوق.
■ هل تعتقد أن كتابك سيكون محفزا لمعتقلين سابقين للكتابة عن الموضوع أو عن تجاربهم؟
– كان يمكن كتابي أن يحفز الكتابة عن السجن السوري لو كان الأول. لكن ربما تكون سبقته عشرة كتب أعرفها، بين الأدب والمذكرات الشخصية. اليوم، هناك جيل جديد من المعتقلين ومن قصص السجن، وبعضها يُروى مباشرةً بعد حبس قصير، ويُقرأ، وهو لا يزال ساخنا. سير جيلنا تتقادم بسرعة. لكنها لا تزال جديرة بأن تروى. المقارنة بين تجارب جيلين يمكن أن تكون مفيدة جدا لفهم سوريا والمجتمع السوري. كنا جيلا حزبيا وإيديولوجيا، وخرجنا بعد سنوات طويلة أقل حزبية وإيديولوجية عموما. جيل اليوم يعتقل لوقت أقل، وهو غير حزبي أصلا، ولا يصدر غالبا عن إيديولوجيات محددة، وكثير من أفراده متمكنون من الإعلام الجديد. هذه فوارق أولية.
■ كيف تفيد الكتابة (تطبيبا) على المستوى الشخصي؟
– للكتابة عن السجن دور استشفائي لأنك تحتاج بعد الخروج من السجن إلى أن يخرج السجن منك. الكتابة تحقق ذلك. من دونها، أو من دون استعادة سيرة السجن بصورة ما، ربما يبقى السجن في داخلك، كتلة مصمتة تشد الروح إلى أسفل. الكتابة تشفي من الحنين إلى السجن أيضا. تستذكر الجوانب القاسية لتلك الطفولة المزعومة، وليس جوانبها الجميلة والمثمرة وحدها. لكن الشيء الأهم أن الكتابة عن السجن هي كتابة عن الحرية، تدوين لتجربة الصراع الذي تخوضه والتحول الذي يجري عليك والانعتاق الذي تخبره. عبر تملك التجربة ما يتيحه التدوين من تملك للتجربة، فإنه يحوز مفعولا شفائيا أكيدا.

 

حاوره فيديل سبيتي , جريدة النهار

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق