زملاء

عقل العويط : هذه الأرض كما أُحبّ أن أراها

  • لقد أصبحنا جميعنا أبناء الوحش، وورثته، فخسرنا الوهم والحلم والخيال والواقع والمقاومة والحرية.
  • لم يغب أنسي الحاج طويلاً عنّي، ولا أنا غبتُ عنه طويلاً. لطالما كنّا نتلاقى، حيث لا شيء يعكّر صفو “الشيء” الجليل الكثيف البهاء.
  • ما يجب قوله للتاريخ، أمس، والآن، وغداً، إن حزب “البعث” وحلفاءه المحليين والإقليميين والدوليين، لم يتركوا من لبنان وبيروت إلاّ أنقاضهما. “البعث” وآل الأسد، ومَن معهما علناً
  • يجب أن يكون الصوت خفِراً من أجل السماح للشعر بألاّ ينخدش. فليكن التذكير، إذاً، بالصمت. كالصمت الهائل الذي يصنع الشعر والشعراء.

تفصيل من لوحة لحسن جوني.

استعارة

أستعير من لوحة حسن جوني، هذا التفصيل المرفق هنا، لأجعله مكاناً بصرياً ورمزياً وتأويلياً، يمثّل فكرتي العاطفية والشخصية عن صورة المكان البيروتي اللبناني. وهي فكرةٌ لا بدّ من تكثيف مثيلاتها، لإبداء بعض التواضع والخفر والتهيّب أمام المكان الجريح وتشويهاته الروحية والمادية المدمِّرة. الهدف من ذلك، لا الحنين إلى جنّة بيروتية لبنانية مفقودة، ولا الاستغراق في الرومنطيقية، بل التفكير الحكيم في كيفيات الخروج من صحراء الدائرة المغلقة.

aklawit.jpgعسى مثل هذه الاستعارة، تجعل اللبنانيين والقرّاء، يقارنون بين الصورة والواقع الراهن، نقداً لما آلت إليه أحوال هذا المكان، على يد أهل الربط والحلّ، من لبنانيين وعرب وسواهم. فإذا كان ثمة، بيننا، مَن لا يرضى بأحوال هذا الأمر الواقع، فهي، إذاً، دعوةٌ إلى الانتفاض على هذه الأحوال، والعمل على بلورة فاعليات القوى الحيّة والخلاّقة، لاجتراح “شيءٍ ما”.

لبنان “البعثي” “الداعشي” و”الوليّ الفقيه”

لا نقصّر، نحن عموم اللبنانيين، في تعهير بلدنا، ولا في إفقاده الكثير الجمّ من معانيه الجليلة. ليس علينا سوى أن ننظر فقط وقليلاً في مكوّنات طبقتنا السياسية، وفعائلها الميمونة، لنكتشف كم ولغنا في الوحل حتى صرنا المستنقع الآسن المكروه. أقول هذا، من أجل أن لا ألقي مسؤولية ما يحدث لنا، على عاتق “الآخرين” وحدهم. مسؤولية جماعاتنا وطوائفنا وأحزابنا وتياراتنا، جريمتُها مشهودة، ويجب وضع حدّ لهذه الجريمة الموصوفة.

لكن ما يجب قوله للتاريخ، أمس، والآن، وغداً، إن حزب “البعث” وحلفاءه المحليين والإقليميين والدوليين، لم يتركوا من لبنان وبيروت إلاّ أنقاضهما. “البعث” وآل الأسد، ومَن معهما علناً، ومواربةً، هنا وفي العالم، أمعنوا، ونكّلوا. لم يتركوا هواءً إلاّ “بعّثوه”، ولا خيالاً إلاّ شوّهوه، ولا ماضياً مهيباً إلاّ جعلوه قاعاً صفصفاً.
هذا “طبيعيّ” جداً، بل “طبيعيّ” للغاية. فإذا كانوا فعلوا، ويفعلون، هذا بسوريا، أفنستكثر عليهم أن يفعلوا الشيء نفسه بـ”الخاصرة” اللبنانية الرخوة؟
أقول “البعث”، وأنا أعني “البعثَين” الكريمَين، في سوريا والعراق، معاً، وفي آن واحد. فمن رحم هذا “البعث” المزدوج الرأس، خرجت أجنّةٌ ومخلوقاتٌ قيامية مشوّهة، أمعنت التهجين “الحضاري” في منطقة الهلال الخصيب، من فلسطين إلى لبنان، وصولاً إلى مشارف الجزيرة، حتى صارت كلها “بعثية” بامتياز. وإذا كانت التسمية، “البعث”، لا تشمل وقائع الحال كلها على الأرض، من “ولاية الفقيه” إلى “عصائب الحق”، و”داعش” و”النصرة”، وسائر الأشقاء والشقيقات، فإنها فحسب من باب تسمية ما آل إليه الكلّ باسم الجزء، ليس إلاّ.

لقد أصبحنا جميعنا أبناء الوحش، وورثته، فخسرنا الوهم والحلم والخيال والواقع والمقاومة والحرية.
وعندما كان علينا أن نستنجد بالأهل، من فلسطين إلى لبنان وسائر المشرق، لم نجد أهلاً يستحقّون الأرض التي تؤوينا.
لقد صرنا جميعنا “بعثيين” في هذا المعنى، و”ممانعين” و”مقاوِمين”. للتوسع في التسمية، صرنا جميعنا “داعشيين” ومن “أولياء الفقيه”.
بل أكاد أقول: لقد صرنا جميعنا “مهوَّدين”، على الطريقة الصهيونية المكروهة.
وإذا كان عليَّ أن أقف أمام شرفة بيروت، الآن، فإني لا أجد من بيروت إلاّ مفاعيل الإرث “البعثي” فيها، بعد نهب حقيقتها، وتيئيس أهل التمرد فيها، وتهجينها وترويضها (بالتواطؤ معنا نحن عموم اللبنانيين بالطبع) طوال أكثر من أربعين عاماً.
كلّ ما فعلته، وتفعله، بيروت، أنها على البحر. فيا لها خطيئة!
في النتيجة، كان لا بدّ من تهجين البحر، لاستئصال رحم المدينة، و”تبعيث” نسلها، تسهيلاً لـ”تهويدها”. هكذا، لم تعد بيروت بيروتنا ولا البحر بحرنا. صارت بيروت صحراءنا العقيمة، والبحر مقبرتها.
اليوم، أصبح الزمن زمن “داعش” و”أولياء الفقيه”. فنعم الوارث والمورِّث.
فشكراً للبنانيين أولاً. ثمّ الشكر لـ”البعث”، بأخويه. شكراً لسوريا الأسد. لعراق صدّام، ولعراق ما بعد صدّام. وكم الشكر لإيران الخميني.
بل الشكر، كلّ الشكر، لصهيونيتنا العروبوية الإسلاموية الجديدة المبتكرة!
* * *
أنسي الحاج
قبل أيام زارني أنسي الحاج.
للذين يهمّهم الموضوع؛ قد كان الرجل في تمام أناقته، ممتازاً، وذاهباً إلى موعد، أو إلى مكانٍ ما. الحوار الخاص الذي جرى بيننا، سيظلّ ملكه وملكي. لو شاء، هو، سوى ذلك، لكان زارني صحبة آخرين. ولو، أنا، شئتُ غير ذلك، لكانت في معيّتي جملةٌ من الكائنات والغيوم، من شأنها أن تضفي على اللقاء طابعاً كونياً، أو احتفالياً. لا هو أومأ إلى شيءٍ من هذا القبيل، ولا أنا بادرتُ إلى مثل ذلك.
كان اللقاء شخصياً جداً، ويشبه الهواء. بل يشبه الحكمة؛ كتلك التي تستدرج المشورة والكيمياء بين كائنَين؛ أحدهما يقيم في المطلق العاطفي والشعري، والثاني يجمّح حياته لتدجين جحيم الذات ولبنان والعرب، لتكون بعضاً من جحيم الشعر والحرية.

لم يغب أنسي الحاج طويلاً عنّي، ولا أنا غبتُ عنه طويلاً. لطالما كنّا نتلاقى، حيث لا شيء يعكّر صفو “الشيء” الجليل الكثيف البهاء. هذا شأنٌ، له علاقةٌ بما يتخطّى الوقائع والتفاصيل والذكريات، الجيّدة والمكروهة. جلّ ما أريد قوله في هذا الشأن إن مَن مثلي، لا يحتاج إلى أن يُزار من شخصٍ كأنسي الحاج. فالشخص هذا، معي حيث أكون، وحيث أذهب. وهو مقيمٌ فيَّ، وليس في الموت. وهو سابحٌ لا في الذكريات بل في الهواء الذي يجدّد ذاته بذاته، ويصنع للعينين مجالاً للتنفّس، وللرئتين رحابةً للرؤية، ولليد شيئاً من هديل المصافحة.

سيكون عليَّ دائماً، وجوب التذكير بأنّ الموت سخيفٌ جداً. أذكّر ذاتي بهذا الموقف، قبل أن أذكّر القرّاء. وها أنا أذكّر قلبي قائلاً: تافهٌ هو الموت. بل ضئيلٌ جداً جداً، أمام الشعر والشعراء. وإذ أفعل هذا، يعنيني أن أقول أيضاً: قد لا يُجدي إعلاء الصوت في هذا الموضوع. بل يجب أن يكون الصوت خفِراً من أجل السماح للشعر بألاّ ينخدش. فليكن التذكير، إذاً، بالصمت. كالصمت الهائل الذي يصنع الشعر والشعراء.

قد كان لي ما ليس يُعطى. قد كان لأنسي الحاج ما لا يتّسع. ليس هو الحبّ بل غيره، بعد أن يُضرَب بشمسٍ مكهربة. ليس هو الليل بل فائق مواهبه. كلّ ما يستطاع فعله الآن، وغداً، وبعد غد، ترتيب ما تاه من نجومه وشظاياه. وهي غفيرة. قد يحتاج المرء إلى حياةٍ كاملةٍ كي يصنع سماءً جديرةً به. هذه الأرض قليلة، والأقلّ من السماء الجديرة، لا يفي الحاجة. يعزّيني أنّي فقيرٌ إلى درجةٍ لا أُحسّ معها بالحاجة إلى شيء. يعزّيني أنّي شاعرٌ. وأنّي غنيّ بالهواء. وبوجود جملة الكائنات المحبوبة، وهذا الكائن أيضاً. مثلما يعزّيني أنّي مستدرِجٌ له غيوماً إلى السهرة ليكون ليل المائدة عامراً بالأصحاب.
بعد قليل، لا يبقى من الليل إلاّ رماده. بعد قليل، يُختصَر الليل بالبهاء الذي نرتجل مستقبله. بعضه هو إياه. وفيه.

akl.awit@annahar.com.lb

  • شاعر وصحافي لبناني والمقال نقلا عن ” الملحق
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق