ماري اسكندر عيسى : البوعزيزي في أدب فاضل السباعي
بكى الكثير من الرجال كما النساء فرحاً مع بداية الثورة، فلطالما انتظروا هذا اليوم الذي يصرخون به ضد الظالم، ويقولون له كفى استبدادا وظلما وقهرا بشعبك. فقد زادت التجاوزات والاخطاء والمحسوبيات والظلم من قبل النظام السوري وأعوانه إلى حد الاختناق..
وتطورت أحداث الثورة في سورية لتأخذ شكلا معقداً ومأساوياً مع صمت العالم أمام فقدان الوطن لأبنائه بعد ان أصر النظام على الحل الامني والاسلوب الدموي العنيف في إسكات هذه الأصوات التي خرجت عن طوعه، فاعتقل وقتل وهجر وعذّب الشباب ومازال..
ومع ذلك ورغم كل الألم ما زال الحلم بوطن جديد يسوده العدل والعدالة والحرية والكرامة لأبناء الوطن يدغدغ خيال الكثيرون الذين آمنوا بالثورة، وبأن مايجري هو آلام باهظة لابد منها لولادة سورية الجديدة ..
ماأثار انتباهي مما قرأته للأديب فاضل السباعي وأنا في مغتربي بعد وصول بعض من مؤلفاته لي بأعجوبة كيف كان يؤمن بالثورة منذ الثمانينات وهو الذي ينقد بهدوء الفساد عبر الكلمة الهادفة والقصة الواقعية لحقيقة مايجري في مجتمعنا بقصص تلامس هموم المواطن العادي المقهور ووجعه
ومن يقرا أدبه ابتداءاً من روايته”بدر الزمان” حتى مجموعاته القصصية “الالم على نار هادئة” و”الابتسام في الايام الصعبة” و”تقول الحكاية” و”حزن حتى الموت” الخ.و(هذه من بعض أعماله ) يعرف لماذا كان النظام يغيب مثل هذه الكتابات لصالح كتابات هشة وسطحية، ويرفض عبر اتحاد الكتاب العرب الذي ساهم الاديب السباعي في تأسيسه طباعة كتبه ومؤلفاته مما كان يجبره على طباعة كتبه في بيروت صورة مضمّنة 1صورة مضمّنة 2والقاهرة. .
فكتابات فاضل السباعي الابداعية امتازت بدقة الملاحظة ووعي كبير لحقيقة مايجري في مجتمعنا من فساد وقهر وظلم للمواطن قدمها بتوصيف دقيق للواقع كما عايشه مستفيدا من خبرته وعمله كمحامي لفترة، وموظفا رفيعاً لدى الحكومة لفترة أخرى. فكتب بضمير يقظ وهو المؤمن بان الاديب ضمير الأمة وهو من عاهد نفسه أن يكون صوت المقهورين والمظلومين ونصيرهم. بالكلمة التي آمن بقدرتها على تغيير الوقع. وبالثورة التي انتظرها ودعا لها منذ الثمانينات كما يبدو من قصة له بعنوان ” لعبة الارقام المتوافقة “في مجموعة قصصية له صدرت العام 1983 بعنوان”الابتسام في الأيام الصعبة” يذكرنا بطلها ببوعزيزي تونس المقهور والمظلوم والذي يحرق نفسه ليفجر ثورة تونس وبعدها ثورات الربيع العربي . لكن بوعزيزي قصة فاضل السباعي المقهور والمظلوم يكتفي بالصراخ ويهدد بالثورة التي لابد ان تأتي، لتخلصه من الظلم والقهر في عالم يسوده الفساد واللاخلاق. فبسبب مشكلة صغيرة في عمله تتعقد شيئا فشيئا ببيروقراطية الانظمة السائدة يصبح بلاعمل، وبسبب استهتارمؤسسته التي يعمل بها بمستقبل وحياة موظف يترك وعائلته واطفاله ليواجه الجوع والضياع من أجل ثمن زهيد لنسختي كتاب عن آثار بلاده أمر بشرائهم دون تحرير أمر مالي بذلك، وهو يتقصد السرعة في تلبية مديره الذي أراد أن يقدمهما هدية لوفد يزور بلده ووزارته التي يعمل بها.
ذاك الظلم والقهر كان كفيلا بصراخ بطل قصة السباعي صراخاً بقي مكتوماً آنذاك في مجتمع تحكمه القبضة الامنية جيداً، ولا يتوفر فيه وسائل الاتصال الحديثة التي ساعدت في نشر هشيم الثورات في زمننا هذا ، لكنها صرخة تثير فينا الوجع والقهر وتحملنا على البكاء كما ابكتنا بداية الثورة:”يقول “ولكن ..لماذا أدفع ، أنا وحدي ، ثمن تناقضات النظم البالية؟! لما لا يعاقب واضعوها، ومطبقوها، والراضون بها؟! إذا كانت هذه النظم تعجز عن حل مسألة صغيرة، فكيف بها أمام المعضلات الجسام؟ّ ألا تحتاج عقليتكم ذاتها إلى تغيير؟! أليس مجتمعنا الغافي في حاجة إلى ثورة، ثورة حقيقية، لا ثورة شعارات؟ّ اكثر من مئة توقيع تخفق في صرف عشر ليرات سورية من خزينة الدولة! يا له من نظام!!أن أسرح أنا، تلك عدالة!! أن يجوع صغاري، ذلك حق!!ولكن الثورة الحقيقية آتية لا ريب فيها، إن الظلام يعقبه فجر منذ الأزل..”
وفي قصة اخرى بعنوان “مهرجان” وردت بمجموعته القصصية “تقول الحكاية” الصادرة العام 2006 يكتب السباعي في بداية القصة وتحت العنوان :” إنه المهرجان العالمي للكرامة الانسانية”، أيها السادة ، الذي رعته الدولة، واستضافت المشاركين فيه ممن قدموا إلى البلاد من مختلف أنحاء المعمورة”!وقصته هذه ليست غريبة عنا اليوم حيث امتهان الكرامة الانسانية من قبل الحكومة والنظام والامن لمواطنيها معروف للجميع وعلى مرأى ومسمع كل العالم. فالوزير يطلب من كبار موظفيه في الوزارة التفرغ لتدقيق ابحاث ستقدم في المهرجان، -مهرجان الكرامة الانسانية-ولكي يأمن الوزير تنفيذ الموظف مهمته يعطيه إجازة لمدة اسبوعين ويعطيه مفتاح فيلته لكي يختلي بالفيلا بعيدا عن الناس ويتمكن من إنجاز مهمته بالوقت الملائم دون تاخير. وفعلا يصطحب الرجل الموظف زوجته إلى الفيلا حاملين احتياجاتهم من الطعام والشراب لترعاه زوجته وتؤمن احتياجاته في الوقت الذي ينكب هو على عمله. لكن ما حدث في اليوم الاول كان صادما ومرعباً فما إن ينهي الموظف تدقيق البحث الاول وخروجه لحديقة الفيلا حتى يبدا رش الرصاص عليهم والقنص من قوات الامن الذين تنبهوا لوجود غرباء في الفيلا وبسرعة يقررون أنهم لصوص وإرهابيون يريدون استخدام الفيلا كوكر لهم،، غير عابئين بوجود امرأة ولا بكرامة الشخصين وقبل التحقق من القصة وهويتهم، مما اضطر الزوج أن يخلع ثيابه وهو منبطح ليظهر لهم انه غير مسلح لكي يرحموه ويصدقوه ولا يقتلوه هو وزوجته. ..
القصة تسلط الضوء على عقلية الامن وكيفية استسهال امتهان كرامة المواطن، تحت شعار حماية الوطن والامن القومي..هذه العقلية التي تظهر انعدام الثقة بين السلطة والمواطن لخلل نفسي وعقد كثيرة عند الامن والنظام..وبسبب عدم وجود قانون مدني يحمي المواطن ويولي حياته وكرامته الاولوية فالمواطنون كلهم ارهابيون بنظر الدولة، تماما كما يجري اليوم . فإذا كان النظام يعتبر كل المواطنين أعداء لهم فكيف لا يعتبر المعارضين له إرهابيين.حتى بعد مرور ثلاث سنوات من الثورة
فالنظام لا ينظر إلى شعبه إلا عبيدا وارهابيين وأعداء..ولا يمكن ان يعترف بهم كمواطنين شركاء في الوطن ..لهم الحق أن يعارضوا ويتكلموا!!
ويؤكد هذه الفكرة بقصة اخرى بعنوان”عيون ملونة” ويقصد بها عيون قطط يهوى باشا في الحكومة اقتناءها. فيقول له أحد أصدقائه في زيارة له مداعباً إياه وكاشفاً للحقيقة التي نعرفها جميعاً:”كأننا نراك، ياباشا، تجعل من هذه القطط في بيتك”حقل تجارب” ، تتمرن بها على سل قوة الرعية، وتطويعها، وتدجينها:”وهو منطق النظام ان الرعية للتدجين وللخضوع ومن يتمرد فالويل له.
وقصص أخرى يترصد بها الاديب والروائي فاضل السباعي وجع المقهورين ، وهو الذي عاهد نفسه أن تبقى عينه ساهرة على الحقيقة ففعل، وهو اليوم يتابع الثورة ويبث ألم الناس ووجعهم لما يحتملون من عنف يمارس عليهم، يصوغه بلغته الانيقة واسلوبه المتزن على صفحات التواصل الاجتماعي ..
إنه أديب الانسان وكاتب وجعه,,سلاحه الكلمة والفكر..لذلك لا عجب بعد كل هذا أن يغيّب هو وامثاله ويهمش من قبل أنظمة تنعم بالفساد وتخاف الحقيقة والنور..ولو تركوا أدبه وأدب المبدعين الاحرار يخرج للنور كما يجب لخرجت الثورة من عشرين عاما وخرج البوعزيزي السوري ولم ننتظر حتى اليوم بوعزي تونس وأطفال درعا..
أخيراً: لم اتقصد في هذا المقال نقداً أدبياً ولا قراءة أدبية لكتابات الروائي والقاص فاضل السباعي فأدبه يستحق اهتماماً خاصاً ربما يكون مستقبلا وفي مقالات أخرى لكنها مقاربة وتسليط الضوء على بعض القصص التي تظهر كيف أن ان النظام لم يتغير في تعاطيه مع المواطن سابقا ولا حتى بعد الثورة، وما حدث ويحدث يؤكد على العقلية الأمنية البحته له والتي لن تتغير إلا بتغير هذا النظام وزواله!!!
فاضل السباعي في سطور:
- فاضل السباعي:
روائي وقاص مواليد حلب 1929 – درس الحقوق بجامعة القاهرة-عمل محامياً . فموظفاً في وزارة الدولة.
قبل ان يطلب إحالته على التقاعد 1982 وهو مدير في وزارة التعليم العالي ليتفرغ للكتابة. أسس بدمشق 1987 دار اشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع.
عضو مؤسس في اتحاد الكتاب العرب(1968-1969 ) ومقرر جمعية القصة والرواية في الاتحاد ست دورات. له اكثر من ثلاثين كتاباً طبع بعضها اكثر من مرة.
أصدر سلسلة شهرذاد ال21 قصصا للصغار والكبار…
من مجموعاته القصصية:
رحلة حنان، حزن حتى الموت ، الابتسام في الايام الصعبة، الألم على نار هادئة، اعترافات ناس طيبين.
ومن رواياته:
-“بدر الزمان” التي صدرت منها نسخة بالاسبانية
-“ثم أزهر الحزن” التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني تم تصويره بحلب في شتاء 2001 -2002 تحت عنوان “البيوت أسرار”
-“رياح كانون” طبعة ثانية….
-“قمر لا يغيب” تأتي في إطار أدب الرحلات قيد الطباعة
-ترجمت الكثير من قصصه إلى الفرنسية والانكليزية والالمانية والروسية والارمنية والفارسية وغيرها…