زملاء

زياد ماجد:النضال لِطَيّ صفحة الاستبداد

أوراس زيباوي : صدرت عن منشورات «أكت سود» الباريسية الترجمة الفرنسية لكتاب «سورية الثورة اليتيمة» للكاتب والباحث اللبناني زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس. يتناول الكتاب واقع الثورة السورية والتحوّلات التي شهدتها مند اندلاعها قبل ثلاث سنوات. كما يحلّل طبيعة النظام الأسدي والأسباب التي حوّلت سورية إلى بؤرة عنف.حول هذا الكتاب وحول مسار زياد ماجد وتجربته، وانشغاله بقضايا التحوّل الديموقراطي في لبنان وسورية والعالم العربي كلّه، كان هذا الحوار:

§ نبدأ بكتابك الأخير «سورية الثورة اليتيمة» الذي صدرت ترجمته الى الفرنسية مطلع هذا الشهر عن دار «آكت سود» الفرنسية. هل يمكن القول إنّ هذا الكتاب يعكس نظرة تشاؤمية، لكن واقعية لما آلت إليه الثورة السورية. ولماذا تعقّد الوضع السوري إلى هذا الحَدّ، وجعله مفتوحاً على احتمالات كثيرة؟

-لا أعتقد أن الموضوع مرتبط بالتشاؤم أو بالتفاؤل. إنها محاولة للقول إنّ هذه الثورة، ومنذ بداياتها، تعرّضت للظلم. يعني أنها لم تلقَ، خلال مرحلتها السلميّة، الدعم نفسه الذي لاقته ثورات عربية أخرى، وذلك- في رأيي- لأسباب عدّة منها أنّ النظام نجح، وعلى مدى أكثر من أربعين عاماً، في سطوته وفي محو المجتمع السوري. الخارج ينظر إلى سورية لا بوصفها شعباً أو بشراً، بل بوصفها موقعاً سياسياً وجيوستراتيجياً ووظيفة إقليمية. ولقد حاول الأسد من خلال هذه الوظيفة الإقليمية – وأنا هنا أتحدَّث عن الأسد الأب المؤسِّس- أن يُبعد أنظار العالم عن المجتمع السوري. وقد نجح مع الوقت وفي ظل الآلة القمعية وبعد تجربة حماة، وكذلك بعد تدخُّله في لبنان والإمساك بالورقة الفلسطينية، حتى إنه نجح في إقصاء المجتمع السوري ودفعه في اتجاه عدم النظر إلى نفسه.

حين اندلعت هذه الثورة، وبدأ السوريون يكتشفون أنفسهم، وبدأ العالم يكتشف سورية، كان البعض مصرّاً على النظرة السابقة التي تعتبر أنّ سورية هي نظام الأسد فحسب، وأنها وظائف إقليمية وتحالفات، أما كلّ ما يدور داخلها فلا يعنيهم. ما يعنيهم فعلاً هو ما يردّدونه حول المؤامرات وحول الاستهداف وحول كون ما يجري محاولة من دول خارجية لإرباك الوضع الداخلي السوري بسبب موقف سورية في المنطقة إلخ… وهذا ما جعل الثورة- منذ البداية- غير مدعومة بما فيه الكفاية وغير متبنّاة كما ينبغي. وحين تحوَّلت- بسبب ضغط النظام الهمجي وعنفه ومقتل الآلاف من الأشخاص حتّى في طورها السلمي-، واضطرت إلى حمل السلاح، لم تجد أيضاً من يناصرها من الدول الديموقراطية، بمعنى أن يّقَدِّم لها ولمعارضتها المسلّحة التي كانت تدافع عن نفسها دعماً، فملأ الفراغ بعض الجماعات وبعض الدول التي لها اعتبارات في سورية وفي المنطقة أيضاً. فنشأت ضمن البيئة المسلَّحة عدّة مجموعات أخافت قسماً من السوريين، وأخافت- أيضاً- قسماً من الرأي العام العربي والعالمي، وأعني هنا طبعاً بعض الجماعات الإسلامية المتطرِّفة. ثمّ تحوّل الصراع إلى كفاح مسلّح شديد الضراوة، وهنا أيضاً بقي العالم، للأسف، متفرّجاً من بعيد رغم كل الأهوال. ويكفي أن نتذكَّر استخدام صواريخ سكود لأول مرة في التاريخ ضمن سياق داخلي، وأيضاً الطيران وحجم تدخُّله، والسلاح الكيماوي، إضافة إلى المجازر وصناعة الموت في السجون التي تظهرها الصور، ولم نشاهد مثلها منذ الهولوكوست.

كل هذا لم يحرّك حتى الآن المجتمع الدولي الذي بقي متردّداً: تارةً يتحدَّث عن إسلاميين، وتارةً أخرى عن فوضى، ومرّة ثالثة عن بدائل، وما زال الشعب السوري عرضةً للقتل اليومي، فهناك أكثر من 130 شخصاً يُقتلون كلّ يوم. كلّ هذا يؤدّي إلى توصيف الثورة بأنها ثورة يتيمة، ويجعل من الوضع عرضةً لمراوحة دموية لفترة طويلة.

§ ماذا بقي من هذه الثورة بعد ثلاث سنوات من انطلاقتها؟

– لا يعني الواقع الدموي أنّ الثورة انتهت أو هُزِمت، فهي مستمرّة في كل الأحوال. إنها ثورة جذرية، نادراً ما شهدنا مثلها في المنطقة إلى حَدّ أنها تحطّم كل شيء، وتُخرج أجمل ما في المجتمع السوري وأبشع ما فيه من خلالها. وهي تتعقّد مع الوقت ككلّ الثورات الجذرية في العالم، لكنها ما زالت مستمرة أمام كل هذا اليتم وهذه الهمجية وتدفُّق الأسلحة الإيرانية والروسية بكميات ضخمة، وأمام وصول مقاتلين أجانب من لبنان والعراق يقاتلون إلى جانب النظام السوري، وعددهم أكبر من عدد الجهاديين الذي يقاتلون إلى جانب الثورة. إنها ثورة مستمرّة بمعزل عن مآلاتها وعن المرحلة التي ستليها، وستكون مليئة بالصعوبات على مختلف الأصعدة. مرحلة ما بعد الثورة ستكون معقَّدة جدّاً.

§ إذا كان بالإمكان تفهُّم صمت الدول تجاه سورية التي تخضع، كما هو معروف، لاعتبارات المصالح والنفوذ، فما هو- بحسب رأيك- سبب صمت المثقَّفين، يميناً ويساراً، في العالم العربي والغرب؟

– هناك أمر مؤلم وهو صمت المثقَّفين العرب وصمت عدد كبير من مثقَّفي العالم أمام مأساة لا يستطيعون القول إنهم لا يرونها، لأنها تُنقَل أمامهم عبر وسائل الإعلام، ولأنّ الشهادات حولها والصور والأفلام التي رفعها الناشطون السوريون عبر (اليوتيوب) ليعوّضوا عن تغييب الإعلام الحرّ في سورية كلّها تُظهِر لنا حجم المأساة. هناك عناصر عديدة تفسّر هذا الصمت منها عنصر ثقافوي يطالعنا في الغرب تحديداً، وهو لا يرى في هذا المقدار من العنف في منطقتنا ما يرعبه، ويثير مشاعره وتضامنه بحجة أنّ هذه المنطقة تنطوي، بكل الأحوال، على الكثير من العنف بسبب التعصّب والصور النمطية. ويكفي أن يقال إنّ ثمّة إسلاميين يقفون في مواجهة نظام الأسد، حتى يتردّدوا ويتحدَّثوا عن العلمانية. أكثر من ذلك، هناك عند فئة من الناس من لا يستطيع التصديق أن هناك أنظمة بربرية إلى هذا الحَدّ، مما يدفع هذه الفئة إلى رفض التصديق أو التعامي عمّا يجري، وتكتفي- عندئذ- بطرح أسئلة من نوع: هل صحيح ما يجري هناك؟ هل أنّ النظام هو الذي استعمل الكيماوي فعلاً؟ هذا النوع من الأسئلة هو أيضاً محاولة للتهرُّب من اتخاذ موقف أو لعدم تصديق كمّ العنف الحاصل.

هناك- أيضاً- التجربة العراقية التي كانت سلبية ومأساوية، وهناك من يقول إنّ الغرب يريد أن يفعل الشيء نفسه في سورية. وثمّة ما يمكن تسميته بـ «البافلوفية» المعادية للإمبريالية، أي بمُجَرَّد أن ينتقد نظام ما الولايات المتحدة يصار إلى التضامن معه بمعزل عما يقترفه هذا النظام ضدّ شعبه. كل هذا هو لعب ضدّ الثورة السورية، وأعتقد أنّ موضوع الإسلام السياسي، وربما الإسلام بشكل عام، هو موضوع إشكالي. هناك مقدار من المسؤولية تتحمَّله- حكماً- الجماعات الإسلامية، لكن، هناك أيضاً مقدار من العنصرية التي تُعمَّم وتُنمَّط من دون التدقيق في التفاصيل ومن دون فهم أوضاع اجتماعية لم تسمح مثلاً للسوريين بالتجمُّع في غير المساجد.

§ أنت تُدرّس في الجامعة الأميركية في باريس، وتعرف الأوساط الأكاديمية عن قرب في فرنسا وغيرها من الدول الغربية. كيف تقيّم متابعة الأوساط الأكاديمية التي تُعنى بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية في الغرب عموماً، وفي فرنسا بالأخص، لما يجري في العالم العربي اليوم؟

– ليست الأوضاع مفرحة إذا جاز القول. في البداية، وبالتحديد في تونس ومصر، كانت الثورات قصيرة زمنياً، وكانت الأوضاع مليئة بالآمال. ولقد هيمن شعورٌ في الأوساط الأكاديمية بأنّ الناس استعادت حقوقها وبدأت تبني من جديد. في تلك المرحلة، ساد جَوّ إيجابي، لكن، ما إن بدأت الأمور بالتدهور بعد التدخُّل العسكري في ليبيا وانفجار الصراع في سورية بعد الثورة السلميّة، وبعد ظهور الصراع السعودي- الإيراني وصعود المسألة السنّيّة- الشيعية بالإضافة إلى عوامل أخرى كفوز الإسلاميين في الانتخابات في تونس ومصر. جميع هذه  الأمور دفعت بالكثيرين إلى إعادة النظر في تفاؤلهم ونظرتهم الإيجابية لما يجري في العالم العربي. هكذا، عاد البعض يكرّر مقولات كنّا نسمعها من قبل، ومنها أنّ الديموقراطية قد لا تكون صالحة للعالم العربي. وهذه أحكام سريعة لا سيَّما أن الثورات العربية وُلِدت منذ سنوات قليلة فقط، ولا يمكن أن نحكم عليها بعد سنتين أو ثلاث سنوات. المسار لم ينته. باختصار، المواقف الأكاديمية الغربية متردِّدة إلى حَدّ كبير باستثناء قلّة تعرف المنطقة جيداً ولها مساهماتها القيّمة في هذا المجال. أما الغالبية فتعرف العالم العربي والإسلامي بصورة تقريبية، أو أنها تدّعي المعرفة. هناك شعور لدى البعض – وهذا ينطبق أيضاً على عدد من المثقَّفين العرب – بأن المجتمعات العربية هي مجتمعات متخلِّفة، ولا تستحق الديموقراطية حتى لو كافحت وناضلت من أجل حرِّيّتها وكرامتها. وهذه خيانة أخلاقية لدور المثقَّف في لحظات التغيير.

§ كتابك الجديد «سورية الثورة اليتيمة» وموقفك من الثورة السورية يكملان مسارك السياسي، ويأتيان في إطار نشاطك منذ أعوام وانشغالك بقضايا التحوُّل الديموقراطي في لبنان وسورية والعالم العربي كله. كيف تنظر إلى الواقع العربي اليوم؟ وما دور النُّخَب العلمانية والنُّخَب الديموقراطية؟

– منذ حوالي 15 سنة تقريباً وأنا منخرط في أنشطة تهتمّ بقضايا التحوّلات الديموقراطية في العالم العربي في إطار عملي في المؤسَّسات الأكاديمية والبحثية، وهذا يؤدّي إلى خيارات منحازة سلفاً إلى التحوُّل الديموقراطي وطيّ صفحة الاستبداد. وهما أولوية في كل العالم العربي حتى ولو جاءت الأثمان مرتفعة. وكلّما تأجَّل التغيير ستصبح الأثمان أكثر ارتفاعاً، وليس العكس.

هناك الكثير من المتغيِّرات الإيجابية التي لا يمكن إنكارها اليوم، وإن كانت الأوضاع صعبة ومعقّدة، وتقود إلى التشاؤم. من تلك المتغيّرات انتشار التعليم ونشوء جيل جديد يملك التقنيات الحديثة ومنها الإنترنت، وهو أيضاً جيل مُسَيَّس وله علاقة متطوِّرة مع الشأن العام. المرأة العربية أيضاً، وعلى الرغم من كل المعوِّقات، باتت حاضرة أكثر وهي فاعلة سياسياً ومنخرطة في سوق العمل. جميع هذه التحوُّلات تؤكِّد أن لا عودة إلى مرحلة ما قبل الثورات العربية حتى لو كانت جرعة التفاؤل قد غابت. هناك العديد من الظواهر الإيجابية التي ينبغي التركيز عليها. وأرى أنّ بعض الأطراف العلمانية تطرح، أحياناً، شعارات علمانوية أكثر منها علمانية، وهي بعيدة عن الديموقراطية، يعني أنّ ما تعيبه على الإسلاميين، وهو في جزء منه صحيح، تمارسه أيضاً من خلال الإقصاء والاستعلاء وعدم قبول الآخر الحاضر حتى لو كانت على خلاف معه. الموضوع صراعي. وهناك توازنات قوى. والمستقبل سيفرض تسويات معينة خاصة فيما يتعلّق بدور العسكر في السياسة. وهو، إلى اليوم، دور مأساوي في العالم العربي. هناك أيضاً دور الاقتصاد والانتقال من الريع إلى الإنتاج. وهذا تحدٍّ هائل وأحد التحدّيات المطروحة. بالإضافة إلى دور الدين وحضوره في الشأن العام، وكذلك موضوع المرأة إذ لا يمكن أن تتقدَّم المجتمعات العربية إذا ما بقيت أحوال المرأة على ما هي عليه اليوم. النضال من أجل تمكين المرأة ومساواتها في السياسة وفي قوانين الأحوال الشخصية، من أولويّات النضال من أجل تحقيق التحوُّل الديموقراطي وطيّ صفحة الاستبداد كما أشرت.

§ كتبت عن النتائج التي أفرزتها الثورات العربية، وقلت إن سقوط «الأبد» وعودة الزمن السياسي إلى المنطقة هما الإنجاز الأهمّ لهذه الثورات. هل هذه من إيجابيات الربيع العربي؟

– تماماً، لم يعد أحد يستطيع أن يتصرَّف بالسلطة وكأنها ملك أبدي. كذلك لم يعد من الممكن إخراج الناس من السياسة، فالجماهير حاضرة، وهناك قدرة على التعبير وتخطّي الرقابة الذاتية. هذه كلّها مستجدّات لم تكن موجودة من قبل.

§ يعتبرك السوريون من أبرز الناطقين باسمهم في العالم اليوم ومن أبرز المدافعين عن نشطائهم. من أين تستمدّ القوة التي تجعلك تستمرّ في الزخم نفسه الذي انطلقت منه رغم الإخفاقات والخيبات؟

– إنه شعور بواجب أخلاقي وواجب صداقة تجاه الأصدقاء في باريس وتجاه الذين بقوا في سورية أو خرجوا منها. والأسماء كثيرة. لقد قرّبنا الـ (فيسبوك)، وجمعتنا الحياة اليومية. هناك شعور بالدَّين تجاههم. ومن الواجب إيصال صوتهم في محافل معينة إذا ما استطعت. بالطبع، هناك أيضاً العلاقة السورية- اللبنانية الشائكة والقديمة، فالأمور بين لبنان وسورية متداخلة لدرجة كبيرة. أستمدّ القوّة كذلك من حضور الصديق سمير قصير الذي دفع حياته ثمناً لمواقفه، بالإضافة إلى حضور غيره من الأصدقاء الذين كرَّسوا حياتهم لقضية الديموقراطية في سورية، واستقلال لبنان، وحقوق الشعب الفلسطيني.

مجلة الدوحة
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق