علي العائد : الحرب على داعش بوصفها إعلاناً
حَافَظَ حافظ الأسد على استمرار احتلال إسرائيل للجولان، وسلم عاره لابنه الذي حفظ الأمانة. ولما كان لابد لبشار من صنع مجده الشخصي فقد سلم الرقة لداعش. والولد سر أبيه.
تشكو سوريا مما تشكو منه كل دولتين عربيتين متجاورتين، وهو الاحتلال. فكل دولتين عربيتين متجاورتين تدعي كل منهما أن الأخرى تحتل جزءاً من أرضها.
من هنا دخلت داعش، فالحدود بين الدول غير طبيعية ومصطنعة، وما إعلان دولة الخلافة سوى تحصيل حاصل نظري لا يجد مكاناً في الواقع إلا بتلك الهشاشة التي أسقطت الحدود بين سوريا والعراق في أقل من أسبوعين.
بدأ زمن الاحتلالات في سوريا قبل عهد حافظ الأسد، ووريثه بشار، فدولة الاستقلال الأولى عن فرنسا ورثت احتلالاً ناعماً صاغته فرنسا وتركيا.
أكثر من ذلك، وأقدم قليلاً، بدأت الحكومات السورية واللبنانية فترات حكمها تحت الانتداب الفرنسي، وبإشراف المنتدب وتحريضه، على إلحاق هذا الأقضية ببلد منهما، وسلب ذلك البلد قضاء، أو قرية، أو مجموعة قرى. والخلافات لاتزال مستمرة بينهما في هذا الشأن.
الأمر ذاته يُقال عن العلاقة بين الثلاثي: سوريا – لبنان – فلسطين، في حكاية القرى السبع، وفي قرية الغجر، وفي مزارع شبعا.
أبعد من ذلك، ادعى الراحل ياسر عرفات في الفترة التي انطلق فيها مؤتمر مدريد للسلام، بعد حرب الخليج الأولى وتحرير الكويت، أن الجولان يتبع لفلسطين وليس لسوريا.
قد يكون عرفات محقاً بقدر ما قد تكون سوريا محقة في تمسكها بجولانها المحتل، وبقدر ما قد يدعي بعضنا أن سيناء تنتمي إلى سوريا الطبيعية، وأن لا شيء في الجغرافيا والتاريخ يبرر انتماءها لمصر.
تلك الاحتلالات شبه طبيعية، كون سايكس وبيكو على طول جغرافية العالم العربي وعرضها أجرى جراحات في الجغرافيا فكان لابد أن تكون النتيجة استئصالاً لقرية هنا خارج محيطها، وجبل هناك خارج تضاريسه، بل ومجتمع بأكمله خارج بطن القبيلة وفخذها. جراحات نرجسية ستبقى تنز مؤامرات من هذا الحاكم الدكتاتور، أو ذلك العقيد، أو تلك القبيلة المسلحة المتنقلة على طرفي الحدود.
“نضال داعش السري”
في زمننا هذا، زمن الإرهاب المبرقع بالدين، الذي لا يعترف بسلطة حاكم، أو شيخ، أو عولمة، أو قانون دولي، أو حلول دبلوماسية، يعبر داعش الدول كما تعبر الأنهار الحدود، ويحمل أعلامه السوداء كسفينة قراصنة تدخل المياه الدولية للدول فتنفذ ما تريد ثم تعود إلى مشاعها الدولي في المياه.
الآن، هل سيستمر قراصنة داعش في احتلالهم، وتبقى دولتهم وتتمدد، أم أن ضربات التحالف الجوية ستمهد لعودة التنظيم إلى المرحلة السرية في إنجاز دولة الخلافة التي استعجل إعلانها قافزاً إلى مرحلة “النضال المعلن”، وفق أبجديات التاريخ البعثي والأحزاب المشابهة؟
من غير المحتمل أن يستمر داعش، أو يتمدد، لكن نضاله السري قد يكون أمرُّ وأدهى. هو في العلن يلبس مقاتليه الأقنعة، فأي أقنعة سيلبس بعد أن تجبره القوة على التخفي تحت الأرض!
هو مضطر لذلك لأن أعداءه في الداخل والخارج أكثر من أن يعدوا. كما أن “الحاضنة الاجتماعية” له في سوريا من الهشاشة بحيث أنها ستنقل سلاحها من كتف إلى كتف بمجرد تغير المعطيات على الأرض. وكما استمال تنظيم الدولة الطامعين بالمال والمستعجلين لتذوق السلطة، فإن طمع هؤلاء سيسلمهم إلى محتل جديد مادامت الثورة السورية لم تنجز سلطة شرعية بديلة من سلطة الأسد التي أصبحت من الماضي.
الضربات الجوية
بعد حوالي أسبوعين من بدء الضربات الجوية: النتيجة لا شيء، والأهداف التي باشرتها طائرات التحالف لم تزحزح مقاتلي داعش الذين مازالوا يتقدمون باتجاه عين العرب (كوباني)، غرباً، وفي الحسكة شرقاً، وينفذون إعادة انتشار في شرق دير الزور، وفي مناطق الحماد بين السخنة وتدمر.
الشارع السوري انقسم في حالة فصامية بين مؤيد للضربات على أمل أن تطال قوات الأسد وتنهي مسلسل القتل اليومي، وبين معارض لها تأييداً للأسد، وبين هؤلاء وأولئك مشترك أعظم هو الشعور بالمرارة لأن بلدهم يستباح ويُقصف، كون الضربات الجوية ستأتي ربما على ما لم يقصفه طيران الأسد.
وقبل أن تتضح الخطوة التالية للضربات الجوية، سيبقى الزمام في يد داعش.
الخطوة التالية المتوقعة يشي بها اعتراف التحالف بعجز الضربات الجوية وحدها عن هزيمة داعش، فلابد من قوات على الأرض “تكنس” وتنظف ما تخلفه قنابل الطائرات من دمار، هذا إن أصابت القنابل أهدافها، وإن صدقت تقديرات استخبارات أميركا في رصدها أعشاش الدبابير في منطقة تفوق مساحتها مساحة بلجيكا.
المتوقع أن يقود حديث أميركا المتكرر عن المعارضة المعتدلة إلى تكليف كتائب من هنا وهناك بهذه المهمة بعد إنهاك داعش بالضربات الجوية وتشتيتها وقطع طرق إمدادها بالمال والسلاح والرجال والمؤن.
ومتوقع، أيضاً، أن يكون هذا السيناريو قد بدأ، وأن أميركا، وتركيا خاصة، تعملان الآن على تدريب وتسليح هذه المعارضة المعتدلة لتملأ الفراغ الذي ستتركه داعش.
لكن، ماذا عن نظام بشار الأسد، وماذا عن الكتائب الإسلامية التي ليست على قائمة ضربات أميركا وحلفائها؟ وهل سيكون السيناريو التالي هو ضرب ما تبقى من جيش بشار الأسد؟
إذا تم ذلك سيكون مفاجئاً، فلا شيء في خفايا تصريحات قادة الغرب المتحالفين ما يدل على نيتهم في توجيه ضربات للجيش النظامي السوري. حتى التصريحات المتكررة من عدم النية في التعاون مع نظام الأسد تكررت حتى ابتُذِلت على ألسنة كل قادة الغرب.
كتيب السلاح
الأرجح أن مخازن السلاح الأميركية متخمة، وستفقد صلاحيتها إن لم تُستعمل اليوم في سوريا، ومن غير المرجح أن يتوافر مكان آخر في المدى المنظور غير سوريا لتصريف تلك الأسلحة.
اليمن نفسه ليس ناضج الأزمة بعدُ لتدخل أميركي، وما لم تدخل قاعدة اليمن بقوة على خط المواجهة بين الدولة اليمنية والحوثيين، فلن تغامر أمريكا سوى بضربات الطائرات الموجهة عن بعد. كما أن احتمال مواجهة عسكرية بين الغرب وروسيا في أوكرانيا أمر أخطر من أن تتورط فيه الأطراف المتصارعة في المدى القريب على الأقل.
وسوريا، الآن، وقياساً على سوابق تدخل أمريكا عسكرياً، هي مبرر لتنشيط سوق السلاح، ولتصوير أشرطة وطباعة كتيبات تشرح مدى نجاعة السلاح الجديد، تمهيداً لتسويقها في أقنية الدكتاتوريات التي يسكنها الرعب من مواطنيها، وللمافيات التي تبيع السلاح لمن يدفع الثمن، وليس أدل على ذلك من القول الذي تكرر خلال الشهر الماضي من أن الحرب على داعش قد تستمر سنوات.
ومن ضمن ما تفكر فيه الدول الغربية مجتمعة الآن هو الاقتصاد العالمي، والمتتبع لحركات السوق في الشهر الأخير لاحظ أن الدولار يسير ثابتاً في أطول موجة صعود منذ عام 1971، حين نقض الرئيس نيكسون قاعدة ارتباط الدولار بالذهب. الذهب يتراجع، والنفط يتذبذب في اتجاه هبوطي، واليورو في أدنى أسعاره منذ تموز 2012. كل ذلك يعكس أزمة الاقتصاد الأوروبي، الجناح الآخر للاقتصاد الأميركي.
لابد إذن من صدمة، وأي شيء أسرع من الحرب لإعادة قوانين السوق إلى نشاطها، وأي ذريعة أكثر تبريراً أخلاقياً أمام المواطن الغربي من مجابهة تنظيم يقطع رؤوس الغربيين، ويهدد بمزيد، ويتوعد باقتحام أسوار روما ونيويورك.
بهذا، حققت الدول الغربية إجماعاً افتقدته حتى في حربها على العراق، فالحكومات العربية كلها معها، ومن المحتمل أن تكون فاتورة الحرب مدفوعة سلفاً، فداعش تهديد مباشر لهذه الحكومات، بعدما كادت في أيام أن تصل إلى بغداد.
تشاؤم وانفصام
الجديد أن كثيراً من المواطنين العرب “يؤيدون” القضاء على داعش، ومنهم، و”بقوة” مؤيدو بشار الأسد، وطيف واسع من مواطني دول الخليج العربي.
الحرب ستطول، وفق الرغبة الغربية.
وداعش باقٍ ويتمدد ولو تحت الأرض وفي أقبيته السرية والافتراضية.
الأسد ونظامه وفق التصريحات الغربية باق في الحكم، وقد يُكمل ولايته الثالثة “على الأقل”.
الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة سيبقى يعتاش كـ “مؤسسة” طفيلية على حساب الثورة والمشردين والنازحين واللاجئين.
الكتائب والتشكيلات الإسلامية ستتابع حروبها مع النظام، وفي ما بينها، وستنقسم، ثم تتحد، ثم تعيد بلورة تشكيلات وتحالفات تكررت خلال ثلاث سنوات دون حسم مع قوات الأسد.
أسوأ ما في كل هذا التشاؤم أن الناس التي ثارت فعلياً على النظام لا تملك القدرة أو الرؤيا للقيام بثورة داخل الثورة. هي في الأصل ثارت على وضع لا تريده دون أن يكون لديها تصور عن كيفية تحقيق ما تريده.
علي العائد : الحرب على داعش بوصفها إعلاناً
www.24.ae