حوار قديم مع المفكر طيب تيزيني : علينا أن لا نغيّب سؤال الثورة بل نؤجله.
- الذي طرح حول الثورة في السبعينات لم يكن يستند إلى حامل اجتماعي يؤسس لهذا السؤال
- ملفات الفساد الذي التهم سوريا وحرم 95 % من ثرواتهم الطبيعية وأدخلهم الفقر والذل.
- النظام السياسي الذي يعمل على أن يفسد بحيث يصبح الجميع مداناً تحت الطلب
- الانتقال العربي إلى القرن الحادي والعشرين يمتلك استحقاقات تقوم على فكرة الهوية
- إفقار العامة والمثقفين الفاعلين عبر تشتيتهم حيث نجدهم يبحثون عن اللقمة قبل الكتاب.
في مطلع العام 2000 قمت بإعداد سلسلة ملفات ثقافية عن ( الإختلافي و السائد واستشراف المستقبل ) تحاورت من خلاها مع عدد من المفكرين والسياسيين والحقوقيين والكتاب . من بينهم : صلاح فضل و ميشيل كيلو و أوغاريت يونان و اكثم نعيسة و عباس بيضون، وصولا الى المفكر طيب تيزيني (1934 – مايو 2019).
التقيته في مقهى دمشقي صحبة مع فنان تشكيلي . قبل بدء الحوار معه ، شعرت بقلق يسيطر عليه ، عرضت عليه أن نستبدل المكان نحو “الهافانا” لكنه أصر على البقاء في مقهى “اللاذقاني” .
استغرق حديثي معه ساعتين ونصف .وكان أبرز ما ذكره هو إنشاء تجمع فكري او ما يشبه رابطة ، كذلك اشارته حول الدولة الأمنية (الصدام الآن سيرتفع بين نظام سياسي تأسس على دولة أمنية وبين احتمالات تاريخية ) الاصطلاح الذي أراد من خلاله ان يقول: بان المجتمعات مكبلة ولا تصالح مع سلطاتها بدون ديمقراطية واسعة تتيح للفكر والحرية إمكان انقاذ المجتمع و البلاد من الجهل والفساد (الفساد الذي ألتهم سوريا طوال عقود) اما في الاستشراف للمستقبل ومع دخول الألف الثالثة أشار إلى أن (الانتقال العربي إلى القرن الحادي والعشرين يمتلك استحقاقات تقوم على فكرة الهوية.) .
في هذا الحوار نقرأ تصويبا على سؤال لي ، إجابته كانت التالية: ( كأننا هنا على حد السيف علينا أن نتقن قراءته وأن لا نغيّب سؤال الثورة بل نؤجله).
انطلاقاً من هذه الاشكالات والأسئلة التي بقيت مفتوحة ، توجهنا بها إلى المفكر السوري د. الطيب تيزيني كأحد أقطاب الفكر الفلسفي الحديث ليكون سجالنا معه بدءاً من نقده لآليات الوعي السياسي والفكري الذي تراكم مع تراجع الأحزاب العربية مروراً بتقييم معالم المرحلة المقبلة في سوريا والمنطقة العربية.
* أعيد نشر الحوار بصيغته المستلة من كتابي “جدل الآن” . أحمد سليمان
س : د. طيب تيزيني ، حدثنا أولاً عن طبيعة القلق الذي يسيطر عليك؟
ج : أنا الآن أعيش مرحلة من القلق السياسي والفكري وكذلك العائلي. أعتقد أننا الآن نعيش مرحلة من العقاب. إضافة إلى أنني أعمل الآن على ثلاثة كتب وأبدي جهداً واسعاً ومركزاً، لأن رغم ذلك، أكتشف دائماً مثلما كنت قد بدأت الاكتشاف، أن جهداً من هذا النوع ينبغي أن يناط بمؤسسات ثقافية واسعة تعمل فيها مجموعات من الباحثين والمؤرخين وغيرهم. ثم انني لازلت أعيش حالة، أتمنى أن أتجاوزها في اتجاه مزيد من التماسك والتوازن والقدرة على متابعة العمل الذي وضعته أمام نفسي، ذلك أن التحول العميق الذي يطرأ على العالم، رد على الوطن العربي أيضاً، هو تحول أسهم في إعادة طرح الاسئلة الثقافية بما في ذلك المقولات والمفاهيم التي خرجنا عليها منذ عقود بل منذ قرن كامل. في صورة مباشرة، خضع المثقف لهذا التحول، حيث أننا إذا ما رأينا في هذا التحول على الصعيد العربي، تحولاً من إشكالية الثورة إلى إشكالية النهضة، إضافة إلى أننا نلاحظ انعكاساً مباشر وفي صيغة خاصة بالغة الأهمية. ذلك أننا نواجه نمطاً جديداً من مطالب المثقف تكويناً وتأسيساً وعملاً. المثقف الذي لا بد أن يكتشف الآن نفسه بأنه مثقف النهضة والتنوير، من ثم لابد من إعادة النظر في الوضعية التي هيمنت عقوداً، ربما مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. حتى نهاية التسعينات، أقول لابد من قراءة أخرى في هذه الوضعية حتى يتسنى لنا أن نضبط المثقف من موقع الحامل الإجتماعي الجديد للنهضة المحتملة، هذا المثقف أراه نموذجياً قبل أي شيء، ومن ثم يمكننا النظر في دور المثقف العربي نية ووظائف وآفاقاً. فلم نعد ننظر إلى هذا المثقف بوصفه ثورياً، مثلما كان يطرح ذلك منذ عقود، ليس لأن الثورة انتهت ولكن لأنها في ظرف تحول إلى مشروع مؤجل يعود إلى التغييرات الكبرى التي طرأت على العالم بعدما تفككت المنظومة الاشتراكية وحرب الخليج الثانية، وكذلك نشوء النظام العالمي الجديد.
المسميات العامة الاولية لهذا المثقف أراها ذات سمات نهضوية تنويرية. بناء عليه لابد من أن يعيد الخطاب الثقافي العربي مشروطة التاريخية الخاصة.
س : ماذا عن الحقب التاريخية التي عاصرتها؟
ج : بالنسبة لي، أجد أن القرن الحادي و العشرون في الأساس يحمل وشماً واضح المعالم، التصدع الذي اخترق المشروع الثوري العربي، هذا التصدع أتى من تلك العوالم الثلاثة عموماً، ولكن خصوصاً من عوالم داخلية أخذت تجتاح بنية المجتمع العربي انطلاقاً من سبعينات القرن العشرين. ولقد أخذنا نواجه مرحلة في السبعينات سمتها تهدم الهياكل الإجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع المذكور. مثل نشوء حالة راحت تفصح عن نفسها في صورة التقاتل الاجتماعي – الاقتصادي.
قد تكون هذه العملية جديدة تماماً في التاريخ العربي لأن الفئة الوسطى شغلت دائماً الحيز الأكبر في المجالات الثقافية والسياسية، أما اليوم، فهي تتعرض لعملية إزاحة ولدت بدورها حالاً جديدة بحيث بدأت المشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والاقتصادية تكتسب طابعاً آخر غير ما كان سائداً، أعني بذلك تحديداً أننا نجد أنفسنا أمام بنية مختلفة من المجتمع العربي وإن لم تكن قد اكتملت، لكنها في طور ذلك، من موقع التناظر الذي أخذ يفرض أثقاله على الجميع. فالحديث عن الحقب التاريخية شائك ومعقد، ما يجعلنا أمام رهانات تقودنا للتأمل العميق.
أما الدخول في القرن الحادي والعشرين، وصم المجتمع العربي بطبع واضح المعالم، هو اعادة بنية هذا المجتمع وبالتالي نجد ضرورة صوغ هذه الوظائف التاريخية للقوى الاجتماعية الموجودة فيه، في هذا السياق نشير إلى أن العوامل الثلاثة التي ذكرتها – تفكك المنظومة الاشتراكية وحرب الخليج الثانية ونشوء النظام العالمي الجديد، برزت إشكاليات أخرى في وجه الوضع العربي عموماً، وفي وجه الفكر العربي خصوصاً، اشكاليات لم تكن قد أفصحت عن نفسها سابقاً لا سيما في مرحلة التصدع التي اصابت الامبراطورية العثمانية وما قبلها، حيث جرت محاولات تتريك الشعوب المنضوية في لواء الامبراطورية العثمانية ومن ثم أخذنا نواجه في ذلك الزمن المبكر ما نعانيه اليوم من طموح النظام الامبراطوري العسكري الى تفكيك الهويات القومية والوطنية ومنها الهوية العربية. أقول ان الاشكالية الحديثة التي تطرح نفسها الآن في المجتمع العربي، وأمام الفكر العربي، تتمثل في بروز تلك الحالة التي كانت موجودة سابقاً، ولكنها لم تطل كثيراً. ولم تفرز اشكاليات فكرية كبيرة وهكذا فإن الانتقال العربي إلى القرن الحادي والعشرين يمتلك بكل جدارة استحقاقات جديدة تقوم على فكرة الهوية والحفاظ على البنية التاريخية لشعوبها.
س : د.تيزيني، لدي سؤال آخر، حول آلية السلطة في سوريا اليوم، كيف تقرأ هذه الآلية؟
ج : غدت آلية معقدة جداً، لأنها تمثل حصيلة موروث طويل خصوصاً على الصعيد السياسي والثقافي والتعليمي. ان هذه الآلية يمكن أن تتجه نحو الأفضل في صيغ ايجابية إذا ما استطاعت أن تجيب عن مشكلات راهنة مطروحة في إطار عامة الشعب، وهي مشكلات محددة في مقدمتها قضايا الديمقراطية والرأي الآخر وحرية الفكر والمعتقد والكلمة، ومن ثم فإن هذا يستدعي إلغاء قوانين الأحكام العرفية ويتطلب أمراً أجده ضرورياً هو إعادة فتح ملفات الفساد الذي التهم سوريا على مدى عقود متعددة وحرم شعباً بكامله. أعني أن 95 % من سكان هذا البلد من ثرواتهم الطبيعية وأدخلهم الفقر والذل.
س : هل نفهم من ذلك غياب المشروع السياسي الواضح جعل المرحلة تتسم بالبؤس؟
ج : حقاً لقد غاب المشروع السياسي العربي بشكل فعلي وواضح فما حدث بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يتمثل في أن السؤال السياسي هنا قد يكون مدخلاً إلى المداخل الأخرى.
في هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أمر آخر هو أن المجتمع العربي عموماً عاش منذ عقود متعددة تحولاً على صعيد النظام السياسي، هذا التحول الذي ألخصه بعملية الانتقال من “أمن الدولة” إلى “دولة الأمن” أي الدولة التي ألخص شعارها بأنها ذلك النظام السياسي الذي يعمل على أن يفسد بحيث يصبح الجميع مداناً تحت الطلب وقد أصبح هذا الأمر ممكناً عبر عاملين كبيرين في المجتمع العربي كله، العامل الأول تمثل في التدقيق الهائل للأحوال التي أخذت تدخل الأقطار العربية مع اكتشاف النفط ودخول المساعدات التي تأتي بالعمولات المختلفة، هذا العامل كان ومازال كبيراً في هيمنة عملية الفساد والإفساد، ذلك ما نلاحظه على نطاق واسع وشامل أما العامل الثاني فيتمثل في استلاب التكنولوجيا المتقدمة الغربية، إضافة إلى استجلاب الثورة المعلوماتية وتوظيفها في خدمة الدولة تتجه لإفساد المجتمع.
س : لماذا أو كيف تكون الدولة الأمنية ضد مواطنيها؟
ج : كي لا تتحول إلى بديل تاريخي في مرحلة أصبحت قابلة لان تكون مثل هذا التشكل التاريخي الهام، خصوصاً إذا أخذنا بعين الإعتبار أن ما نعيشه اليوم في العالم العربي يتمثل بما دعوته بتقاطباً شاملاً عميقاً بين الأعلى والأدنى. في هذه الحال أصبحت احتمالات أخرى مثل انتاج بدائل تاريخية ممكنة في نطاق أولئك الذين يمثلون القاع الأصلي، هذا القاع الذي انضاف إليه الآن الفئات الوسطى التي انزاحت في اتجاه الأدنى بكل رضى، على أن تعيش مذلة ومهانة دون أن تكون حتى الآن قد اندغمت مع الذي طرأ عليها.
فإذا كان خروج الدولة الأمنية جاء ضمن ضرورات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي سيقف أيضاً في وجه احتمالات أي تشكل أو اية بدائل تاريخية تندغم مع طبيعة المجتمع. أعني أن هذه الدولة الأمنية سوف تحاصر أية بدائل من خلال عوامل داخلية وخارجية، لكن تظل الإمكانية مفتوحة، لهذا أسمي الحطام الذي أتيت على ذكره حطاماً مفتوحاً بمعنى أن عملية الاستقطاب هذه تنتج اشكالات كثيرة أساسها الفكر السياسي والممارسة بآن معاً.
إذا ما اتحدت القوى الفاعلة والحيوية في المجتمع العربي قد يفرز بديلاً جديداً، لذلك أن نتصور أن الصدام الآن سيرتفع بين نظام سياسي عربي مؤسساً على دولة أمنية وبين احتمالات تاريخية ماتزال في طور التشكل. بناء عليه، فإن التطور في سوريا مرهون في الإجابة عن السؤال التالي، لمن تكون الغلبة؟ لقوى التقدم أم للقوى التي تكبح التطور في سوريا؟ ولاشك أن الشعب سيكون له ذلك الدور الحقيقي بقواه الحيوية حتى في مساعدة تلك القوى السالفة لأن تفكك الحصار المضروب حولها من قبل ما يسمى ب “الحرس القديم”.
س : لكن، د.تيزيني، نلاحظ في هذا الجو المتضارب نتيجة لتردي دور الأحزاب اليسارية. إلى أي مدى يمكن أن يتماهى الشارع السوري وهو أصلاً يعاني من قهر سياسي؟
ج : هي عملية صعبة ومعقدة فعلاً فمن الضرورة العمل من أجل قوى فاعلة، من جهتي لا أريد أن أحصر ذلك ما تقدمه الأحزاب السياسية أو التشكلات السياسية. أن أهم ما يمكن أن يؤثر في هذه الحالة يستند الشراك السياسي المفتوح على من يوازيهم الذين عاشوا فترة الإذلال والإفقار. لذلك، المشروع معقد فعلاً ولا نستطيع أن نحسمه خصوصاً أن الوضع يتسم بكونه وريثاً شرعياً لمرحلة سابقة، إذ لا يحصى عدد الإشكالات تزامناً مع التطور العربي بدأ منذ عصر النهضة حتى الآن. في هذا السياق، نفكر إلى جانب مجموعة من المثقفين لإنتاج مشروع ثقافي نهضوي في سوريا، يتجسد بفئات حية، هذا الأمر قد يتسم بصيغة رابطة أو مجموعة بطريقة ما. نعمل على هذا الأساس وقد لاحظنا أن هناك استجابة عميقة في كل الأطراف من أقصى اليمين الوطني إلى أقصى اليسار الوطني ويشكل لنا هذا التجمع “الفكرة” الأساس، إذ لا يحتاج عن كونه مجرد مشروع نهضوي للجميع ومشروع كهذا لكل الفئات والطبقات، هذا ما عنيته عندما تحدثت عن دور كافة التيارات بغض النظر عن توجهاتها سواء أكانوا يدخلون في صلب الفكر الاسلامي أو الاشتراكي والقومي او حتى ضمن النظام القائم، أن جهود هؤلاء لا تذهب في هذا الإتجاه، واللافت في ذلك عملية تمثله لمسوغات موضوعية تستجيب لشروط الذين عاشوا حالة من الافقار والارتهان، فهؤلاء يسعون إلى إيجاد صيغ أو خطاب مختلف. ونأمل أن لا يجاب عنها بسيرة نافذة أو حزبية ضيقة، خصوصاً أنهم يمثلون شراك سياسي وثقافي وفكري شامل من أقصى اليمين الوطني واليسار.
س : كيف يمكنك تقييم ماهيات هذا التجمع، وماذا نتج عن اللقاءات حوله؟
ج : مازلنا بصدد هذا المشروع فهو على أية حالة يحتمل على السلب والإيجاب، عموماً لا يمثل حزباً أو أي شاكلة شبيهة، فهو مشروع نهضوي جديد.
س : إذاً هذه الدعوة، رداً على البؤس السياسي العربي، تعقيباً لما أوردته قبل قليل حول غياب المشروع السياسي العربي؟
ج : أود أن أشير إلى أن القرن العشرين بل منذ نهاية القرن التاسع عشر حدث أمر هو هام جداً على صعيد العالم، تمثل ذلك في النظام الرأسمالي العربي وتحوله من مرحلة الليبرالية إلى مرحلة الامبريالية، واستمر مع بداية القرن العشرين. والثابت أن النظام الرأسمالي أخذ بالتشكيل في أوروبا الغربية منذ القرن الخامس عشر، حيث ذهب هذا النظام الذي بدأ يؤسس نفسه للتحول الجديد في اتجاه الامبريالية، إذاً هذا الأمر خطير وسوف تكون له اتجاهاته بالنسبة إلى المجتمع العربي، سيظهر ذلك من خلال ما يحدث في نهاية القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين كما اسلفت، ذلك يصادف أيضاً نشوء المشروع النهضوي موازاة مع الامبريالية التي انعكست آثارها سلباً بحيث أخذت النهضة العربية تعيش مرحلة من التسكع، مما يدعونا إلى القول أننا عشنا في بداية القرن العشرين جدلية سقوط مشروع النهضة العربية وصعود المشروع الصهيوني، الآن وقد أشرنا إلى أن الفئات الوسطى كانت وراء إخفاق ذلك المشروع لأنها لم تكن ترقى إلى مستوى النهضة.
س : إذاً نحن نمثل الورثة الشرعيين لتلك الحال؟
ج : نعم، وقد يكون وارد في تلك المشاريع الصغيرة التي طرحها المفكرين وبعض السياسيين، ومن المهم أن يعثر هؤلاء على ما يوحدهم، فقد يتحولون قوة يمكن أن تملي إرادتها سياسياً وثقافياً في المجتمع العربي. المسألة تعقدت مع بروز العوالم الثلاثة الخطيرة عموماً فالمشروع السياسي بصورة خاصة نعيش تراجعه الكبير. ان هذا الارث الذي كان قد تشكل جزئياً في القرن التاسع عشر والعشرين. الآن نجده مهدداً بالابتلاع من قبل النظام “العولمي الجديد” المتواطئ مع القوى التي تملك كل شيء. إذاً، مصير هذا المشروع مطروح على بساط البحث، أن الحالة التي نعيشها الآن حالة أدعوها بالتوهج في أوساط الفئات المثقفة والسياسيين ومن فئات الشعب التي نعيش حالة الإفقار.
س : ماذا عن حقيقة الابتزاز السياسي الذي تتعرض له المنطقة العربية؟
ج : يأتي ذلك من هزيمة النظام العربي السياسي، وأيضاً لأن المجتمع العربي يتسم بـ التخلف والتبعية، فالابتزاز الذي يمارسه المشروع الأميركي “العولمي” يستدعي فك الرباط بين النظام العربي وبين المشروع الأميركي ورفض هيمنته اضافة إلى الإشارة أن النظام العالمي الجديد لا يمكن الحديث عنه وفق بنية سياسية واحدة.
ما يقودنا للقول أن الغرب ليس غرباً واحداً هناك الغرب المضاد للعولمة. ما يتيح لنا أن نشتغل على مفاهيم تثمير باتجاه العلاقة مع القوى المناهضة للامبريالية العالمية والتي تتضامن مع شعوب العالم الثالث ومنها المنطقة العربية.
س : يلاحظ بأن المثقف العربي وعبر تلقيه للآخر الغربي يشغل موقع التابع بماذا تعلق؟
ج : هذه معادلة تاريخية نشأت ربما منذ قرون مديدة خصوصاً في القرن الثالث عشر حيث تصدع الحضارة العربية الاسلامية لتفسح الطريق أمام تشكيلات اجتماعية أخرى في هذه المنطقة، مما رافق ذلك النهضة الأوروبية الحديثة بناء عليه المثقف العربي يعاني منذ ذلك الحين وسوف تتكرس هذه السمة مرة أخرى مع إخفاق المشروع النهضوي العربي الحديث وخصوصاً حين تدخلت الامبريالية وأنهت المشروع، من ثم فإننا هنا قد نكون أمام ما كان ابن خلدون يؤكد عليه في إطار جدلية الأب الغالب والمغلوب، حيث يؤكد أن “المغلوب” في كثير من الأحيان يقلد “الغالب” في مأكله ومشربه ولبسه وفنه وأفكاره معتقداً أن هذا الغالب يمثل ذروة التقدم.
هذا ما حصل في الفكر العربي، لكن هناك احتمال آخر قد أفصح عنه، مثل نشوء قوى حية في إطار المجتمع العربي، ناهضت ذلك، لكن “الغالب” المتمثل بالامبريالية الفرنسية والهولندية والانكليزية والايطالية ثم الأميركية مما أدى إلى تدجين المثقف العربي من قبل الغالب، هذا ما حدث في المغرب العربي والجزائر وتونس، كما نعلم أن هذه البلدان ماتزال تعيش تلك الإشكالية “المثقف التابع”، أو الذي صنع على نمط تحضر من بلد آخر ومع ذلك لا يمكننا الحديث عن هذه الجدلية بصيغة ميكانيكية حيث بدأ المغلوب اكتشاف إشكالية مما جعله يأخذ موقع آخر ليضاهي الغالب بثقافته وعلاقته الاجتماعية والاقتصادية ويعمل للخروج عليه عبر الثورة. من ثم أن الرهانات التي يمكن أن يضعها المفكر العربي الآن يتمثل في اكتشاف هذه الإمكانية عبر فكرة ألخصها بمشروع نهضوي يتضمن على المسائل المتصلة بطرح مشاريع أخرى في الثقافة والفكر والسياسة وإعادة طرح قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وتوزيع ثروات هذه الأمة على شعوبها. أن هذا كله يترتب على المرحلة الراهنة ذلك أنه عنوان ليس من السهل الولوج به نحو مشروع عربي جديد.
س : مع بداية القرن الجديد نجد أن الاسئلة ذاتها سوف تتكرر بصياغات أخرى؟
ج : الاسئلة نفسها فقدت دلالاتها، أعني هنا السؤال عن الثورة تحديداً الذي برز بديلاً شرعياً طرح نفسه طوال عقود مديدة، في القرن العشرين. بالتالي نواجه مفارقة طريفة لأن الذي طرح حول الثورة في السبعينات لم يكن يستند إلى حامل اجتماعي يؤسس لهذا السؤال. حيث كان المجتمع يقوم على ثلاثية واضحة المعالم رغم ذلك كان الحيز الثوري هو الأبرز ولم يكن يستجيب إلى واقع الحياة الإقتصادية. هذا ما عنيته بالالتباس لكن ليس في سبيل نشوء سؤال الثورة مع وجود هذا التقاطب مع نشوء سؤال آخر.
س : إذاً، ما خصوصية هذا الذي ولد سياسياً في مرحلة الالتباسين، التباس الثورة، والالتباس الذي مازلنا نعيشه لليوم سؤال النهضة؟
ج : حتماً أنه سؤال البداية، عن ثورة لا مقوم اجتماعي لها. أعني الفئات الوسطى التي كان رأسها في الأعلى وقدمها في الأدنى، لم تكن قادرة على إنجاز مشروعيتها في مرحلة إخفاق النهضة، مع ذلك هذه الفئات هي التي أنتجت سؤال الثورة، ذات السؤال الذي قادنا إلى سياق تاريخي مازال يمثل فعلاً درامياً في التاريخ السياسي العربي المعاصر.
هذا المشهد يقوم على نشوء اسئلة غير شرعية حيث تتصدع البنية الأساسية لها وتتصدع الأمة معها، مع أننا نعلم ما من تشكلات سياسية أو فكرية استطاعت حتى الآن أن تنجز شيئاً حتى الأحزاب التي تبلورت في مراحل مختلفة تحولت إلى عبء على احتمال نهضوي فكري جديد، لذلك أننا أمام إرث ثقيل في المرحلة الحالية إضافة إلى المعطيات المستجدة وهي تفرض نفسها علينا.
ألاحظ انتهاء سؤال الثورة ليأتي مكانه سؤال آخر، وهناك التباس في مرحلة برز فيها هذا التقاطب في مرحلة النظام العالمي الجديد الذي يضع في أولوياته تفكيك الهويات القومية في العالم كله، هنا يبرز سؤال النهضة، لأن عملية التفكيك لا تستهدف طبقة بعينها ولا تحالف طبقي، إنما تستهدف المجتمع برمته.
س : ألهذا يبدو سؤال النهضة وكأنه يمتلك نصف شرعيته بسبب ركود الوضعية العربية؟
ج : ما يعدل هذا السؤال ذلك العامل الذي أخذ يتدفق من الخارج، كأننا هنا على حد السيف علينا أن نتقن قراءته وأن لا نغيّب سؤال الثورة بل نؤجله.
س : لكنك ذكرت أن الأحزاب التي نشأت في مراحل مختلفة تشكل الآن عبئاً على سؤال النهضة؟
ج : هذه الأحزاب خصوصاً بقياداتها فقدت كل شرعيتها، لكن الحوامل الفكرية التي أتت بها يمكن إعادة النظر فيها، خصوصاً إذا نظرنا إلى هذه الحوامل بأنها لاتزال تمثل مشاكل المرحلة الراهنة، فالمشكلة الاجتماعية التي ألح عليها المشروع الاشتراكي والمشكلة القومية التي قدمها المشروع القومي، والمشكلة التحديثية والأيديولوجية الدينية التي ألح عليها المشروع الديني انها مشكلات مازالت قائمة، لكن تناولها أخذ ينوء شيئاً فشيئاً.
إذاً، قيادة الأحزاب هي التي فقدت شرعيتها على خلاف الأفكار التي مازالت تتمثل أفراداً ومجموعات، إن مكونات القوى الإجتماعية موجودة على مستوى الأمة، لكن تعبيراتها تحتاج إلى إعادة النظر فيها. من ثم فإن القضايا التي طرحت في عصر النهضة مازالت مؤجلة، لكن الأسئلة التي تضمنتها ليومنا هذا تعمل لإعادة تشكلها، لأن الصيغة التي تأسست عليها تلك الأسئلة تصدعت وتلاشت.
س : ماذا عن إرهاصات المرحلة المقبلة في سوريا؟
ج : إنها ذات المرحلة التي نعيش بداياتها، أي حالة التصدع والتفكيك من سمات المؤسسات القائمة. إننا أمام مجموعة من المشاكل المتراكمة، وإذا لم تجب عنها السلطة في سوريا بإجابات مفتوحة، تقدمية ووطنية نزيهة باتجاه قومي ديمقراطي فسوف تظهر انفجارات طائفية ومذهبية عبر اختراق سوريا من قبل الأنظمة الكيانية المتمثلة في الغرب الامبريالي والصهيوني.
س : البواعث الثقافية والفكرية والسياسية التي تحدثنا عنها تحيلنا للحديث عن تجمعات مماثلة تضمنها القرن العشرين؟
ج : أن ذا الأمر كان قد حدث لكنه اكتسب صيغة الشتات لأن القرن الماضي كان إشكالياً وحمل عدداً من الالتباسات، تمثلت في بروز الفئات الوسطى ذلك مع نشوء القرن العشرين أي بعد إخفاق النهضة العربية في القرن التاسع عشر وما قبله بقليل، ذلك أن مجيء الفئات الوسطى لتشغل حيزاً بارزاً على صعيد الإنتاج الثقافي والسياسي حمل الالتباس الأعظم في القرن العشرين كله. إذاً، أتت هذه الفئات لتعلن انها صاحبة المشروع النهضوي، هنا أخذت تستعيد ما كان قد أخفق في القرن التاسع عشر.
على هذا الأساس لاحظنا أن بروز الفئات الوسطى العربية عموماً أنتجت أربعة مشاريع تمثلت بالمشروع القومي والاشتراكي والتحديثي والديني غير المؤسسي. أتت هذه المشاريع لتنتج ما طابقها في المؤسسات الحزبية والمدنية، من ثم فإن الحركة السياسية التي تبلورت خصوصاً مع العقد الرابع من القرن العشرين كانت بالأساس حركة الفئات الوسطى، بدورها تقوم على قسمين كبيرين هما الميسورة الاقتصادية والاخرى التي تتضمن على العقل التنويري.
لذلك نجد هذه الفئات كانت قادرة على انتاج فكري وثقافي في المجتمع العربي. أما عن الالتباس الذي عنيته كان على صعيد الفئات الوسطى حيث حملت مشاريع أكبر من قدرتها، فهي أصلاً فئات متحركة في مرحلة تاريخية اتسمت بذيول الإخفاق النهضوي العربي فنجدها قد لبست قميصاً لم تضعه هي.
الأمر الثاني تمثل في غياب الفواعل الاجتماعية الأخرى سوى الفئات الوسطى، لذلك أخذنا نعيش الالتباس الكبير على الصعيد السياسي والثقافي، إذ نشأت أحزاباً بكاملها تثقف الثورة لكنها لم تستطع انجاز ذلك لأن هذا الأمر لم يكن مناطاً بفئات مثلت ذيول الاخفاق النهضوية فكانت شيئاً من التواطؤ بين الأعلى والأدنى، أي حالة لم تكن تعمل على بنية منتظمة وقادرة على الانحياز إلى العمق العربي، من هنا نلاحظ أن بداية السبعينات اتسمت باكتشاف النفط السياسي رافقها بروز المجتمع الاستهلاكي التابع لتنتج معها حطاماً عربياً لا مثيل له.
إن هذا الذي بدأ يطرح نفسه مع بداية السبعينات كان آذاناً للثأر مما جعل الفئات الوسطى عاجزة عن تحقيق مشاريعها حيث تزامن من ذلك مع هزة عميقة اجتاحت المجتمع العربي وعملت على تغيير النظم السياسي في مجموعة من الأقطار العربية إلى جانب نشوء صراعات دامية على صعيد القضية الفلسطينية.
تلك المرحلة لم تكن إلا إيذاناً اتسم بتملك الفئات الوسطى للأزمة، هذا ما سميته بالتقاطب الاجتماعي الذي اقتلع معه كل شيء.
مما يعني أن الأسئلة التي طرحت قبل ذلك بفترة مديدة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى السبعينات من القرن العشرين أخذت تعيش حالة من إعادة النظر على الرغم من أنها مازالت في طور الفعل التاريخي.
س : ضمن هذه المعطيات ما هي العلاقة بين المثقف والسلطة؟
ج : أشرت قبل قليل، أن السلطة الأمنية أصبحت تجسد النظام السياسي العربي، مهمتها، ابتلاع المثقف الذي نشأ في مراحل سابقة بصيغ هشة وهزيلة، وقد استطاعت ذلك لاعتبارين لا ثالث لهما.
أولاً: لأن المثقف الذي لم يستطع بالاساس تكوين دوره وبقي نائياً عن تحقيق مشروع جماعي متلاحم بمعنى آخر نجده قابلاً للاختراق، وقد استطاعت السلطة الأمنية تفكيك مشاريعه عبر استخدام تطوره الفكري الذي أخذ ينشأ مع قراءات نظرية ما بعد الحداثة.
ثانياً: ارتباط المثقف بالوضعية المالية مما جعله رهينة تتمثل بالانهيار الاقتصادي الذي أدى إلى إفقار العامة والمثقفين الفاعلين عبر تشتيتهم حيث نجدهم يبحثون عن اللقمة قبل الكتاب.
من هذه الوجهة استطاعت الدولة الأمنية أن تحكم القبضة على المثقف فتحوله في نهاية المطاف إلى مستخدم تحت امرتها.
لهذا نتحدث عن شروخ عميقة دخلت الحياة الثقافية حينها أصبحنا نتساءل بمرارة عن امكانية قيام مشروع جديد، لكن هذه المشاريع الجديدة التي تنشأ متفرقة في إطار الفكر العربي، لا تجد الاستجابة الفاعلة عند المثقفين، بداعي أنهم ارغموا على أن يكونوا رهينة للدولة الأمنية، وباتوا يدركون أن كرامتهم قد استبيحت، ومن ثم قسم كبير منهم قادر بأن يعود إلى صفوفه الوطنية والديمقراطية ليعمل بأفق مختلف، لهذا السبب أجد الرهان بدأ يفتح مجدداً والأبواب التي يعتقد بأنها أغلقت للأبد، هي مفتوحة من خلال الحوار الذي يعيش في الفكر العربي، أهمها الحوار “الصامت” الذي لا يعلن عنه بالأعلام العربي، ذلك الذي يمثل في حقيقة الأمر حالة أخرى لا علاقة لها لا بالفكر العربي ولا بالثقافة ولا بالأمة العربية عامة.
س : في سياق آخر هناك من يدعو إلى تجسير الهوة أو المصالحة أو إعادة النظر بالعلاقة بين المثقف والسلطة كيف تنظر إلى هذه الدعوات؟
ج : لا بأس لكن، هذه المصالحة مشروطة بأن يعاد بناء السلطة السياسية في الأقطار العربية من موقع التأكيد على ثلاثة أمور، أن يعاد الاعتبار للديمقراطية، أو يعمل على خلق حالة من الديمقراطية الواسعة على المستوى العربي بحيث يتسنى للمثقفين السياسيين أن يجعلوا من حرية الكلمة والاختيار وتكون بذلك الديمقراطية هي التي تستند إلى المصالحة.
الشرط الثاني، وإن كان شرطاً مؤجلاً، يتمثل في التأكيد على ضرورة رفض التطبيع العربي الإسرائيلي بصورة دقيقة وصريحة. ان رفض التطبيع هو المدخل الثالث للمصالحة بين المثقفين العرب والسلطة.
س : لكن عملية التطبيع ستأخذ مداها، إذ لم نتحدث عن عامل اجتماعي قد يطرأ أو يضاف إلى الفعل السياسي العربي؟
ج : في هذه الحالة يضاف مطلب آخر للمثقفين العرب هو رفض التطبيع شكلاً ومضموناً. ذلك ما أجده إضافة للشروط الثلاثة يخلق حالة متوازنة بين السلطة السياسية العربية والفئات المثقفة.
حاوره: أحمد سليمان