الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا: خطوة ضرورية ولكنها بلا تمثيل حقوقي ومجتمعي

صدر مؤخرًا في سوريا مرسوم رئاسي يقضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” وتكليف الدكتور محمد رضى الجلخي برئاستها. ورغم أن القرار، في ظاهره، يمثل خطوة طال انتظارها لمعالجة إحدى أكثر القضايا الحقوقية تعقيدًا وإلحاحًا ـ وهي قضية المفقودين والمختفين قسرًا ـ إلا أن مضامينه العملية والظروف المحيطة به تثير تساؤلات مشروعة حول الجدية، الشفافية، والفاعلية.
أولًا: اعتراف متأخر وخطوة رمزية
إن إنشاء هيئة وطنية تُعنى بالمفقودين يحمل أبعادًا رمزية لا يمكن إنكارها، منها:
- الاعتراف الرسمي بوجود آلاف المفقودين، وهو مطلب حقوقي طالما جرى تجاهله رغم كونه مفتاحًا للعدالة والمصالحة.
- محاولة لامتصاص الضغوط الدولية المتزايدة من جهات أممية ومنظمات حقوقية، خاصة مع إنشاء الآلية الدولية المستقلة (IIIM) واعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤسسة تُعنى بالمفقودين في سوريا.
- تقديم خطاب يوحي بانفتاح سياسي محتمل، رغم محدودية الإطار العملي لهذه الهيئة.
ثانيًا: إشكاليات جوهرية في التشكيل
ورغم أهمية الخطوة، إلا أن عددًا من الملاحظات الحرجة تُلقي بظلال من الشك على مصداقية واستقلال الهيئة:
- تعدد المناصب التي يشغلها الرئيس المكلف: الدكتور الجلخي يتولى مناصب أكاديمية وسياسية وإدارية، بعضها يتعارض وظيفيًا ومعنويًا مع طبيعة هذا الدور، مثل عضويته في لجنة الإعلان الدستوري ومنصبه كمستشار رئاسي، مما يهدد استقلالية الهيئة ويثير مخاوف من تضارب المصالح.
- غياب المشاورات المجتمعية: تم تعيين الهيئة دون أي حوار معلن مع منظمات حقوق الإنسان أو روابط أهالي المفقودين، ما يُفرغها من جوهرها التمثيلي.
- بيئة سياسية وقانونية مغلقة: لا تزال البلاد تفتقر إلى بيئة تتيح الوصول إلى مراكز الاحتجاز أو البيانات الأمنية، أو حتى إجراء تحقيقات مستقلة وشفافة، مما قد يجعل الهيئة مجرد إجراء شكلي بلا أدوات تنفيذية حقيقية.
ثالثًا: العدالة الانتقالية ليست ملفًا حكوميًا
تُعرّف العدالة الانتقالية وفقًا لمبادئ الأمم المتحدة بأنها عملية وطنية شاملة تتطلب مشاركة:
- أهالي الضحايا،
- منظمات المجتمع المدني،
- هيئات قضائية مستقلة،
- فاعلين سياسيين،
- جهات دولية متخصصة.
كما أن العدالة لا يمكن حصرها في جهة أو طرف واحد. ومن غير المقبول أخلاقيًا وحقوقيًا تجاهل الانتهاكات التي ارتكبتها جهات أخرى، بما فيها الميليشيات الأجنبية التي ساهمت في القمع والجرائم الممنهجة.
رابعًا: مؤشرات على الانحياز وغياب الحياد
تضم الهيئة شخصيات مثيرة للجدل، مثل عبد الباسط عبداللطيف، الذي تشير تقارير إلى شغله منصبًا في جيش أسود الشرقية، وهو تشكيل مسلح يُتهم بارتكاب انتهاكات. إسناد ملفات حقوقية لشخصيات ذات ارتباطات عسكرية يطرح تساؤلات حول حياد ومصداقية الهيئة.
خامسًا: الحاجة إلى تصحيح المسار عبر مؤتمر وطني شامل
في ضوء هذه الإشكاليات، فإن الهيئة بصيغتها الحالية لا تلبّي معايير العدالة ولا تعكس تطلعات السوريين. لذلك، يجب:
- فتح نقاش عام حول معايير اختيار الشخصيات القيادية في الهيئة.
- الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل للعدالة الانتقالية بمشاركة:
- مؤسسات حقوقية سورية مستقلة،
- روابط أهالي الضحايا والمفقودين،
- جمعيات الناجين والناجيات،
- ممثلين عن مختلف المناطق والمكونات،
- خبراء قانونيين محليين ودوليين.
يهدف هذا المؤتمر إلى صياغة رؤية متكاملة للعدالة الانتقالية، وانتخاب لجنة تنفيذية وهيئات رقابية مستقلة تضمن الشفافية والمحاسبة.
لقد دفع السوريون ثمنًا باهظًا من أجل نيل حريتهم وكرامتهم، وواجهوا الانتهاكات من مختلف الأطراف. إن تحويل العدالة إلى مسار شكلي أو غطاء سياسي ليس تقدمًا، بل نكوصًا عن المبادئ التي ثار لأجلها السوريون.
العدالة ليست شعارًا، ولا ورقة تفاوض. إنها شرطٌ أساسي للسلام، وحقٌ غير قابل للمساومة.
أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي