بدرالدين حسن قربي : كلمة وردّ غطاها
أن يُشغَل أو ينشغل الرأي العام السوري والصحافة والصحافيون بل والمتطفّلون منذ أسبوعين بقضية الفتاة الأرمنازية السورية التي عزلها والدها في كهف أو مغارةٍ فترةً قاربت الثلاثة عشر عاماً، فلا هو قدّم لها ماتفرضه عليه واجبات الأبوة ومقتضيات الإنسانية، ولا هو تركها تعيش طفولتها- ياحسرة – بين الناس كأطفال الخلق والعالم، أمر يستوجب التوقف والملاحظة والتذكير ببعض المعاني من ظلال هذه القصة الإنسانية المأساوية والكئيبة رغم التقاط بعض العاملين في مجالات الصحافة والإعلام لهذه القصة ليجعل منها خبر إثارة أو مناسبةً للإفك والافتراء على معتقد الناس والنيل من دينهم ونبيهم وكأنها سبب المأساة والكارثة التي كانت، وليخرجوا بالحديث والبحث كما يقال من الطبّ إلى البيطرة، وأين هذا من هذا..!!
البنت ابتداءً طفلة أم فتاة كانت ضحية خلاف عائلي يمكن أن يحصل في كل مكان على الأرض على اختلاف الناس حياةً وثقافةً وديناً، ولكن السؤال الذي يحضر هنا، أين هي المؤسسات المدنية والرسمية الفاعلة والممكَّنة والمعتنى بها والمدعومة التي ترعى مثل هذه الخلافات وتعالجها بالتي هي أحسن، وتعمل على التخفيف من آثارها في العائلة والمجتمع حرصاً عليه وطلباً لأمنه!!؟.
حادثة ومصيبة قولوا عنها ماشئتم فهي تستاهل، تخشبت فيها المشاعر والعواطف، وتحجرت فيها معاني الأبوة، وجفت فيها معاني الحياة لأمورٍ وأمورٍ لم يُتحدَث عنها، فيحبس أب ابنته الطفلة فترةً طويلة من الأعوام والسنين في كهف مهجور أو غير مهجور، بتهمة أو من دونها، بمحاكمة أو بلا محاكمة، طعامها طعام أو بقايا طعام، يلُقى إليها من الباب أو من فتحةٍ ضيقة فيه، إلى آخر هذا التوصيف مما تشمئز معه النفس الطبيعية والمشاعر السوية. ولكن نذكّر أن الفاعل في النهاية فرد أقل مايقال فيه أنه مريض عقلياً ومختل نفسياً ومعقّد إنسانياً، ونقطة سوداء في بحرٍ لجي لملايين السوريين الذين يشقوَن ويتعبون، ويصِلون الليل في النهار، ويشرّقون ويغرّبون ويسعون دأباً لسعادة أطفالهم وناسهم، ونلفت العناية إلى أن هنالك كوارث ومصائب كبرى من العنف والقمع والاضطهاد تتواصل للنيل من كرامة المواطن وإنسانيته وحتى إراقة دمه وقتله، تمارسها جهات رسمية مالكة لكل أمور السلطة والقوة والنفوذ ومتدثرة بالقوانين والدساتير.
العنف يُمارَس في مجتمعنا باستمرار على أهلنا وناسنا أجمعين طفلاً وامرأةً ورجلاً وإن اختلفت حصص كل منهم، ويتنقّل بيننا بحرية وراحة بل ورعاية رسمية من السلطة، وينتقل فيما ينتقل بالتواصل والاهتزاز أو التعايش من جهةٍ إلى أخرى، ويصرخ البعض منبهاً لهذا العنف، ويحلّل وينظّر ويشخّص وبصوت عالٍ. ولكن عندما يصل الحديث للممارس الأول للعنف في البلد والمجتمع والجهة القامعة التي تمارس القمع في عموم البلد على أصوله وبأحدث أدواته ومخترعاته الكهربائية والالكترونية ووحوشه البشرية يصاب هذا البعض بالطرش، ويضربه شيء من العمى ونوع من بكمة أو خرس.
حجم العنف وكمّ القمع الذي تمارسه السلطة والجهات المدعومة في البلد على الخلق كلهم لمجرد رغبتهم في العيش بكرامتهم وإنسانيتهم وممارستها كبقية خلق الله في بلاده الواسعة، لاشك يؤثر على أفراد المجتمع وعلاقاته البينية، فينتقل ويتنقل بقوانين حياتية واجتماعية أشبه ماتكون بقوانين ماريوت وباسكال في الضغط والهيدروليك المعمول بها في علوم الفيزياء والميكانيك، وتتحول بعمليات نفسية وبشكل ما إلى عنف وقمع وإرهاب آخر، يسعى بين الناس يضرب طفلاً ويقمع عائلةً ويضطهد مجتمعاً، وليصبح المقهور من حماته قاهراً لزوجته، والمعفوس من امرأته عافساً لموظفيه، وليغدو المقموع من سلطته قامعاً لمن هم في بيته ومكتبه وورشته، وليبيت العاجز عن مواجهة الأعداء بقوتهم وطيرانهم وهيلمانهم واختراق أجوائه وحدوده وقصف معسكراته والتحليق فوق قصوره ومخيماته أسـداً على ناسه ومواطنيه، ومحققاً لصموده وممانعته أمام المقهورين من جماهيرهم وكادحيهم فلاتأخذه فيهم شفقة ولارحمة.
قال صحافيو الإثارة ومعهم بعض صحافة ( الهشّك بشّك) الكثير عن هذه القصة بحيث لم يتركوا فيها قولاً إلا مايجب قوله فإنهم لم يقولوه. حتى وكالة ســانا قالت ماقالت عن شذوذ هذه الفعلة للأب، وكشفت عمّا سمته فصول الحكاية السوداء، وتحدثت عن اختطاف الطفلة من حضن أمها، ووصّفت كهف حبسها وزنزانتها، وقرف منظرها وتوحشها وحالتها النفسية التي وصلت إليها. هذا وأن تتحدث الصحافة وناسها عن مثل هذه الحوادث فهو أمر لطيف، ولكن ماهو ألطف وأجمل وأكرم لهم أن يتحدثوا عن عشرات الآلاف من قصصٍ مسكوتٍ عنها، وهي ليست بأقل من قصة تلك الفتاة السورية حبيسة الكهف والأب على هول مافيها وكبر إثمه. فلدينا الكثير والكثير من عشرات الآلاف ممن أُخذوا من بيوتهم لدقائق من أجل كم سؤال أو لشرب فنجان من قهوة لدى عتلّ من عتاولة القمع، ولكنهم لم يعودوا بعد رغم طول العهد وتطاول السنين والأعوام، فهم حبيسوا مغارات السلطة وكهوفها، ومن عاد منهم عاد بعد ربع قرنٍ من الزمان يزيد أو ينقص قليلاً، تسمع قصصهم فتسمع هولاً مبيناً عن ممارسات لوحوشٍ آدمية، تقبض رواتبها وتشبّح من أموال الجماهير، محميةٍ بقوانين طوارئ ومراسيم أمنية لتغطية فعالها وجرائمها وتوحشها.
تركت صحافة الإثارة قصص عشرات الآلاف من المحابيس والمعتقلين في غيابات ظلمات الظالمين وكهوفهم ومغاراتهم، ولحقت قصةً فريدة ونادرة بطلها متعوس منحوس منكوس، باتت حديث الصحفيين والمواقع وشغلهم ومشغلتهم.
قال لي: أتريد للصحفي أن يقول مايقول لتنقطع لقمة عيشه أو ( زمّارة ) رقبته أو ينام (في بيت خالته)..!!؟ قلت: ماهذا أردت، ولكن من عجز عن كلمة حق لسبب لن نناقشه فيه، فإنا نرجوه شهامةً ونخوةً ألا يكون متكلماً بباطل أو شاهداً لزور في حضرة المقموعين القامعين.