د:عبدالله تركماني : الاستبداد يحتكر الوطنية السورية
كشف نظام الاستبداد عن وجهه السافر في طريقة تعامله مع قيادة المجلس الوطني لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، ف في الوقت الذي كان فيه العالم المتحضر يحتفل بالذكرى التاسعة والخمسين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قامت السلطات الأمنية السورية باعتقال العشرات من المواطنين المعنيين بالشأن العام والمناهضين لسلطة الاستبداد على خلفية انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق، وقد تم الاحتفاظ بكل من : الدكتورة فداء الحوراني رئيسة المجلس الوطني وعضوي هيئته أكرم البني وأحمد طعمة، وجبر الشوفي وعلي العبدالله ووليد البني وياسر العيتي أعضاء الأمانة العامة.
لقد تكررت على مدار سنوات ما بعد ربيع دمشق في العام 2000/2001 الحملات ضد المثقفين وناشطي الشأن العام ، اعتقالا ومحاكمات و أحكاما بالسجن، وملاحقات واستدعاءات واتهامات مضللة، ومنعا من الكتابة والتعامل في ا لإ علام الرسمي، وتسريحا من العمل في دوائر الدولة ، ومنعا من السفر حتى لأسباب صحية كما هو حال الأستاذ رياض سيف، طالت عشرات من أمثال سجناء الرأي والضمير: عارف دليلة، وميشيل كيلو، وأنور البني، وفائق المير … الخ
بينما يستمر أ زلام السلطة الاستبدادية وأ بواقها في ترديد فكرة ” خيانة المعارضين “، فما أ ن انعقد المجلس الوطني لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في 1 كانون الأول/ديسمبر الجاري حت ى انبر ت تلك ا لأبواق في الحديث عن ” المخطط الخارجي ” الذي يسع ى لاختراق الوطن ، و أن ّ هؤلاء المعارضين ليسوا إلا ” مخلب قط لتلك السياسة الخارجية “.
إنّ السلط ة المستبدة، فاقدة الشرعية الدستورية، توسلت ذريعة الحفاظ على السيادة والاستقلال ودرء الأخطار الخارجية لتنّصب من نفسها مسؤولا وحيدا عن إدارة شؤون الوطن واحتكار الحق في التصرف باسمه ، معتبرة أي ة مبادرة بخلاف ذلك خروج عن الطاعة أو طعن بالمقدس الوطني ، تستحق أشد عقاب . فعطل ت الحقوق المدنية والسياسية لل مواطنين السوريين، بل أ حصت أنفاس الناس ، وتحكم ت بكل شاردة وواردة في سلوكهم ، وحتى تلقينهم ما ينبغي أن يقال وما يجب أن لا يقال .
إن نظام الاستبداد الذي نصبّ من نفسه وصيا على مصالح الوطن تمك ّن من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية ، بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة الهجمة الإمبريالية . والمؤلم أن ّ سلطة الاستبداد لم تراكم سوى المحن، ولم تنتج سوى الأزمات، بما فيها العزلة الدولية والعربية، مما قاد إلى انسداد كل أفق ممكن لإيجاد حلول ومعالجات ناجعة للأزمات الناشئة في مجتمعنا السوري.
إنّ الطبعة الوحيدة من الوطنية التي يطلب من جميع السوريين إعلان ولائهم لها و انتمائهم إليها، والالتحام عبرها بالرئيس والنظام والحزب، بصرف النظر عن موقعهم ومصالحهم وحقوقهم ومستقبلهم ، لا تبدو الوطنية فيها مرتبطة بحقوق وواجبات ومصالح ومسؤوليات والتزامات تخص الجميع وكل مواطن، وتحتمل النقاش والتطوير والتجديد والتحسين، وإنما سقفا تفرضه مقتضيات أمن النظام، ويتجسد عبر تعزيز القيود والحدود التي تؤمن وحدها الوحدة والالتحام والانتظام. فليس المطلوب من أحد، لا من الشعب ولا من المسؤولين ولا من نشطاء الشأن العام ، تأدية أي واجب من أي نوع كان، بل الطاعة والهدوء وإعلان الولاء. ولذلك لا تتجلى الوطنية هنا عبر إنجازات، سواء أجاءت من المعارضة الوطنية الديمقراطية أم من النظام، ولكن عبر تأكيد الثوابت وإحباط إرادة الأفراد والجماعات المكونة للمجتمع السوري .
إلا أنّ وصاية نظام الاستبداد تعاني اليوم حالة انكشاف واضطراب ، من جراء ثورة الاتصال والمعلوماتية ، و ارتقاء وعي السوريين وقد صاروا يتحسسون جي دا وزنهم ويستشعرون الدوافع الحقيقية وحسابات ال مصالح الضيقة التي تقف وراء دعوات احتكار الوطنية، بل العروبة أيضا، والوصاية عليه ما، الأمر الذي يحث الغيارى على سورية ومستقبلها لإعلان حملة مقاومة سلمية لتعميم ثقافة المواطنة، التي يكون ا لإنسان السوري مركزها وغايتها، تبدأ بأوجاعه وهمومه وتسعى إلى حقوقه ومصالحه ، بعيدا عن التسلط والهيمنة، محطمة الجدار المصطنع بينه وبين السياسة ، ممتدة في منظورها المجتمعي نحو الحريات وحقوق ا لإنسان وتطوير المؤسسات المدنية واحترام الكفاءات، بما في ذلك تعرية وكشف ما يعيقه أو يكبله من قيود، لتص ل إلى إرساء مناخ صحي يثق با لناس ويمنحهم الفرصة من الأمان والحرية كي يأخذوا دورهم الحقيقي في المجتمع، كذات حرة واعية لمثلها وقيمها وأهدافها، قادرة على تحمل مسؤولياتها بحرية وطواعية بعيدا عن القسر والإكراه .
وإذا كانت خمسين يات القرن الماضي قد ميزت التجربة الديمقراطية في سورية بكونها أرست الأساس الاجتماعي – السياسي لصعود المسألة الوطنية، فإنّ ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي بدعوته إلى النضال السلمي من أجل الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية يعبّر عن حيوية قوى المجتمع السوري، وتطلعها نحو نظام وطني ديمقراطي، يقيم العدل، ويتعامل مع الموارد الاقتصادية والبشرية السورية، ومع الجغرافيا السياسية، بعقلانية تروم إلى الجدوى. ومن المؤكد أنه بدون ديمقراطية لا يمكن حماية الوحدة الوطنية، ولا التعاطي المجدي مع محاولات الهيمنة الخارجية، ولا مواجهة المشروع الصهيوني وتحرير الجولان بطريقة مشرفة.
إنّ سلطة من دون معارضة هي سلطة مستبدة لا محالة، تتوهم أن ّ الزمن طوع يديها، وأنّ شيئا لا يمكن أن يزيحها طالما هي تملك القوة التي تقضي بها على كل م ن يطال حدودها.
وتأسيسا على ما سبق فإنّ الوطنية الحقيقية تتعلق بتنامي شعور المواطنين بقوة انتمائهم لوطنهم ، وبمدى اعتزازهم بهذا الانتماء ، واستعدادهم للدفاع عنه والتضحية من أجله، فقوة المجتمع ووحدته تتأتى من قوة أبنائه الأحرار المتساوين المتحدين ، ومناخ الحرية والديمقراطية هو ما يبعث في النفوس الحب الحقيقي للوطن وصدق الانتماء إليه.
إن ما نحتاج إليه لبناء الوطنية الحقة ليس شعارات تعبوية تمجّد الزعيم والحزب الحاكم، بل إجراء تحولات ديمقراطية حقيقية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لتعزيز الدعائم الأساسية التي تقوّي المجتمع وتؤكد حضوره ككيان موحد وفاعل. وبالتالي لن ينعم مجتمعنا بلحمة وطنية صحية إلا في حال البدء بتحرير السياسة من السيطرة الشمولية للسلطة، من الوصاية والنمطية ، ومن سيادة الرأي الواحد والصوت الواحد والحزب الواحد ، بما يعني الاستعداد لخطوات جريئة ، على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون، والقبول بالتعددية والاختلاف كمقدمة لا غنى عنها لصياغة عقد اجتماعي متوازن يوفق بين نز ا عات بشر تتباين همومهم ومصالحهم ، ويضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة.
الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
تونس في 21/12/2007