زملاء

حبيب صالح : الأحبار والإكليروس في مواجهة رياض الترك!

من بين كل من انتسبوا إلى المعارضة، ومن جاؤوها عرضاً، وحده رياض الترك لم يأت إليها عبر مؤسسات النظام مستقيلاً أو مطروداً أو شريداً، وحده الذي ولد فيها، قبل أن يأتي إليها الكثيرون لظروفهم الخاصة، أو لاعتبارات أملتها القراءات النقدية،أو المستطردة! هم جاؤوا إليها عندما تساذجوا ففهموا أن النظام لابد آفل، وسارعوا لحجز أماكنهم! وجاؤوها يحضرون القسمة، ويشهدوا ليلة الزفاف!

وعندما أظهرت التطورات وإعادة تركيب المعادلات في المنطقة تبين الجميع أن النظام كان متقدماً جداً، في إقامة معادلاته الإقليمية والدولية منذ إتفاقية الفصل الأولى عام 1973 –1974، ثم عبر مبادرته في إطار إتفاقية الأسد مورفي لدخول لبنان، ثم ما تلاً تطورات احتلال بيروت عام 1982، واحتلال بغداد، وحرب الكويت ومؤتمر مدريد، واستمرار الأحوال في الجولان على ما هي، منذ ثلاثين سنة!
الذين اعتقدوا أن استطرادات الإحتلال الأميريكي لبغداد عام 2003 سوف تعبر الحدود مع الأنبار غرباً، فوجأوا أن قبائل الصحوة تعيش على طرفي الحدود! وأن العبور إلى غير بغداد غير ممكن… وأن حدودنا مع الأطراف الإقليمية والدولية،بالدعم الأميريكي، محصنة سياسياً أكثر بكثير مما هي محصنةعسكرياً!!
رياض الترك وحده كان يعلم مدى عمق العلاقات الأميركية السورية ومدى تحصين النظام لمواقعه الإقليمية والدولية عبر الحدود شمالاً مع تركيا،لتطويق العامل الملِي الضاغط مذهبياً على النظام، ووحده رياض الترك، كان يعلم مدى متانة واتساع العلاقات السورية الإيرانية التي تلونت بالنفط وقوته السياسية، واتشحت بالقوة العسكرية الإيرانية المطبقة على الخليج الضاغط سنياً على الداخل السوري أبان أحداث 1977-1982، وامتداد ذلك الدور الإيراني عبر حزب الله في لبنان، المهيمن على كل المعادلات والاستحقاقات اللبنانية تجاه الولايات المتحدة واسرائيل والعرب،وورقة المواجهة الأولى لسورية من جهة،والتفاوض من جهة أجرى!
وعبر تلك المكونات جميعاً،نجح النظام السوري في تثبيت دعائمه، وأفلح إلى حد كبير في معالجته للمسار الداخلي لجهة الانفتاح الاستثماري العربي والدولي، وعبر اقترابه بشكل أو بآخر من القاعدة الأساسية التي يتكون في أرحامها ومؤسساتها التيار السلفي، والتيار التكفيري في سورية! وذلك عبر منظومات الإفتاء، ومؤسسات الإسلام المعتدل، الذي يتخاطب مع التيارات السلفية في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وعبر البرجوازية التجارية السورية التي تحالف معها ومع الإسلام المعتدل فزاوجهما ليعملا معاً على ضبط الشارع السوري ويجيرانه للنظام!
كل هذا السرد، في تقديري، جعل رياض الترك يقرأ الواقع السوري قراءة مختلفة تماماً!
وأنا لا أريد أن أختزل القضية السورية في شخص رياض الترك، فهذه واحدة من محرماتي التي لا أعمل بنواميسها، لأنني بعد جمال عبد الناصر لا أريد ولا أعترف أن الراية انتقلت إلى أحد بعده! فضلاً عن أن عصر الاستقلال الوطني وحركات التحرر قد انتهى! وزالت معه مكونات الزعامات التاريخية! والقضية السورية، بعد عصر الرموز وعصر العظماء وعصر المنظومات الأممية إنما انتقلت حكماً ونهائياً إلى الشعب…الذي وجب عليه وعلى من يعمل في الشأن العام أن يسعى إلى ترجمتها عبر آليات ومؤسسات ديمقراطية تنجز حكم الشعب ودولة الشعب، بالشعب!
وأعود إلى رياض، فأدعي أن رياض والذين يراهنون على رمزيته، أو ارتضوه اسماً وموقفاً، حالةً سورية مؤكدة، تفعل في الحياة السورية، حيناً من الزمن وفي مرحلة انتقالية.. لم يستطع مرادفته في ذلك شخص أو حزب، ذلك أن الرجل لم يأت عبر معامل الأديداس أو عز الدين ناصر أو المجالس المعينة!ووحده دون سواه يبقى المتطهر من كل ارتباطات وإيحاءات الأجهزة كما لم يكن الأحبار “القوميون” الذين أقاموا الشراكات الأمنية الذائعة الصيت. ولعبوا دور الإعتدال ودور ضباط ارتباط مع المعارضة وضدها، في آن، واسألوا رياض في ذلك! وفي حالة أخرى ؛ إنما جاء الترك من خلال أمانته لمنظومة شعبية يسارية ومن أقبية الموت ومطاردة رغيف الخبز، الذي لم يمسك به يوماً! وما كان له أن يصل إلى هذا المطاف لولا أنه في مرحلة،ما، كان الشخصية المعادلة لشخصية حافظ الأسد مؤسس النظام القائم اليوم! وتأتى له ذلك بعد أن سجن لفترة طويلة على خلفية مواقفه من العلاقات السوفيتية العربية، والمبادرة السورية في لبنان، وقمع النظام لمختلف قوى اليسار في سورية وغيرها، وبنى جميع مواقفه على الإيمان بالحالة الوطنية العروبية المتفاعلة مع الخصوصية السورية، والمتحررة من الإرتباط الأممي الذي أرسى تجربة حزبية ماركسية أشبه بالحالة اليوغسلافية أيام جوزيف بروز تيتو، التي من طبيعتها أن تنتهي إلى حالة ديمقراطية وطنية مؤكدة، انتهى إليها اليسار اللبناني، واليسار العربي أيام جمال عبد الناصر، واليسار الأوروبي برمته، والذي يحكم نصف أوروبا اليوم!
لماذا كل هذا الشرح عن رياض الترك وماعلاقته بالحالة التي وصلت إليها المعارضة، وإعلان دمشق وقراءات رياض للعلاقات الأميريكية السورية العربية، وأقول:
1. أدرك رياض بما لالبث فيه، وهذه قراءتي الشخصية، أن المعارضة السورية لاتستطيع الرهان على التغيير الداخلي الوطني والسلمي الذي تؤكد عليه دوماً، وأكد عليه إعلان دمشق،سوى إقامة ترتيبات وصداقات دولية للمعارضة السورية، ومقابل تلك التي يقيمها النظام ويعمل في إطار معادلاتها! وبذلك تتحقق المعادلة الدولية في العلاقة الثنائية مع النظام والمعارضة، معاً!
2. إن ماانتهى إليه رياض في هذا الصدد، وعبر قراءتي له، أن تجربته في الحزب الشيوعي سابقاً، إنما مكنته من استيعاب توترات التجاذب في الداخل السوري على ضوء تجارب الأحزاب اللبنانية، التي ارتبطت جميعاً بعلاقات دولية، سواء في إطار الإشتراكية الدولية التي ينخرط في إطارها الحزب التقدمي الإشتراكي، وحزب اليسار الديمقراطي اللبناني، وعلى ذات النهج يرتبط حزب الله بإيران بعلاقات أيديولوجية، والأحزاب الأخرى ترتبط بسورية…!
3. هذا لايقودني بالمطلق لإن أقول إن إعلان دمشق وتصريحات رياض عن العلاقة مع الولايات المتحدة، إنما ينصرف أميريكياً إلى المدى الذي وصلت إليه الأحزاب اللبنانية أو غيرها!
4. فكل ماأراد رياض أن يلفت إليه، هو أن تعترف الولايات المتحدة بإن هناك قوتان في سورية: هي قوة المعارضة إلى جانب النظام! مع التأكيد بالإطلاق أن رياض لم يتجاوز في أي تصريح له النهج الوطني الإستقلالي لقوى المعارضه، وإعلان دمشق التي تدعو إلى التغيير السلمي والتدريجي والوطني،دون الإرتياط أو الإرتهان لإية قوة خارجية!!
5. وعندما يمتدح رياض الترك، زيارة الرئيس الأميريكي بوش إلى المنطقة، فهو لم يسقط هذا الدعم على شخص بوش، أو أياً من مبادراته في العراق أو فلسطين!
6. ورياض الترك يعلم أن السيد بوش ومجموعته من المحافظين الجدد سيتركون الحكم في نهاية هذا العام 2008، وبالتالي فإن أي تفاؤل يبديه الترك وغيره تجاه زيارة بوش، إنما ينصرف إلى العلاقات المتوازنة مع الولايات المتحدة كما الإتحاد الأوروبي، كما العالم كله.. على أساس أن هناك صوتان في سورية وليس صوتاً واحدا: صوت النظام القائم!
وعلى قاعدة هذه القراءة فإن تصريحات السيد الترك إنما تنصرف حصراًإلى بناء البعد الدولي لعلاقات المعارضة السورية، وللضرورة التي ترى أن المعارضة تسعى وتقدم مشروعاً للتغييرفي بلد ما، فإن هذه الضرورة تقتضي احتساب العامل الدولي، كعامل أساسي في نضالات الشعوب والمنظومات! وحتى لاينجح النظام في تطويق هذه المعارضة وإحراقها، وإعتبارها مجرد شأن داخلي، يخص النظام،دون سواه!!
أما في “المناكفات “الإعلامية الجارية، فأنا أعتقد أن قراءة، رياض الترك عبر تصريحاته الأميريكية، إنما كانت تستطرد في مناكفة الخطاب الإعلامي للنظام، وهذه نافلة إعلامية مضافة ومفترضة على هوامش الخصومات والمواجهات السياسية التي قامت أساساً عندما نشأ مشروع المعارضة السورية الحديث والمستحدث!والذي يتعامل معه النظام على أنه قضية وجود من عدمه!
وفي كل الظروف علينا أن نأخذ تصريحات الترك عبر مقاربة سهلة وبسيطة: فالترك ليس رئيساً للوزراء ولارئيساً للدولة ولا وزيراً للخارجية، وعليه، فإن تصريحاته لاتنتهي في مكان ما أو زمان ما في مواقع تقاطع مع السياسات الأميريكية في المنطقة، وهي لن تنتهي بفتح سفارة أميريكية لدى المعارضة، أو سفارة للمعارضة السورية لدى الولايات المتحدة! ذلك أن المعارضه ليست في سدة الحكم،الأمر الذي لايسمح لإحد أن يتهم المعارضه بإنتاج اصطفافات،وتوقيع معاهدات،وهنا لايتوفر البعد الدبلوماسي القائم بين المعارضه وأية دوله!
إذاً ما هو مشرّع للنظام في إطار ضروراته الدبلوماسية والدولية، هو مشرّع،بالتقابل، مع ضرورات للمعارضة في الإتصال بالعالم وتعريف العالم بها، وتعرفها عليه!!
مهام المعارضة هي تحقيق التغيير الديمقراطي سلمياً على أسس حداثوية ديمقراطية مما يهيأ في المرحلة التالية لإختيار الأهداف المستقيلة والشعب عبر آليات ومؤسسات وخيارات منتخبة ومتوافق عليها! أما تكليف المعارضة مسبقاً بوضع مشروع “سلطوي” شامل مستقبلي “والتصويت عليه” هو من سلطة حاكمة يأتي في مرحلة لاحقة! وليس من مهام معارضة ناشئة، يفترض أن تملك في كل ما تخطط للقيام به ضمن ثوابتها المعلنة والمكتوبة!!
إن رياض الترك بماله، وهو كثي،ر وماعليه، وهو قليل، إنما كان كثيره يقضي ألا يذهب إلى السفارة الأميريكية، باعتبارها موقعاً رسمياً للإدارة الأميريكية، وهي ليست منظمة غير حكومية، أو أكاديمية للحقوق، أو هي منظمة هيومان رايتس! وخطأه المركب كان أن يؤدي تلك الزيارة مع رياض سيف، بالذات!
فرياض سيف ليس له تاريخ وطني مشرف، وهو البرجوازي الصغير الذي أراد أن يصبح كبيراً في أحضان النظام وعندما خسر تطلعاته وأحلامه في أروقة النظام، التحق بالمعارضه،انتقاما،فأصبح الرابح الكبير عندما مشي خلفه رياض الترك،في زيارة مشتركة إلى السفارة، والمجلس الوطني لإعلان دمشق!
كذلك يظل رياض الترك الرقم الأصعب في المعادلة السورية، ذهب إلى السفارة أو عاد منها،وهو يستمر كبيراً في مواجهة الصغار!!!كل مافي الأمر، أن الكبار عندما يشتمهم الصغار،يربح الكبار،ويخسر الصغار!!!
وفي ختام ماانتهت إليه،أقول للذين هاجموا رياض الترك وكالوا له التهم : لماذا لم تتحدثوا عن أنابوليس، وإنتخابات الرئاسة في لبنان، وقبائل الصحوة التي شكلت رافعة حقيقية للمشروع الأميريكي في العراق..وكل هذه القبائل تتقاطع مذهبياً وسياسياً مع مذهب الأحبار والأكليروس الذين جمدوا مشاركتهم في إعلان دمشق،ليتلوا الصلوات على محراب الدعوات “القومية” التي أريقت في كامب ديفد عام1979وفي احتلال بغداد، وسقوط المشروع القومي العربي،لسقوط النظام العربي،الذي فشل في تشكيل رافعة نهضوية ديمقراطية له، وبالتالي فإن ماتبقى من هذا المشروع،لم يترك لرياض الترك ما يسفحه أو يجتزأه أو يتآمر عليه!! وما تبقى من عصر “القوميات الجوراسي”،لم يعد يكفي أحبار دمشق ليتباكوا ويتمترسوا به ويعيدوا اجترار أطر قومية ويسارية جديدة تستنسخ القديم منها!!
وتعرقل مسيرة الإنتقال إلى الديمقراطية، وتخدم من يوالونهم ويتحالفون معهم، تحالفاً لن يدوم،حيث سيبدأ فك الارتباط والطلاق البائن، قريباً!!

حبيب صالح
كاتب ومعارض سوري

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق