زملاء

د.عبدالله تركماني – جدل العلاقة بين الحريات الأكاديمية والنسق السياسي العربي (2/2) (1/2)


لا يمكن الحديث عن الحريات الأكاديمية بمعزل عن الحريات العامة في أي مجتمع، وبالتالي بمعزل عن مجموعة الأنساق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وفي مقاربتنا هذه سنتناول الحريات الأكاديمية من زاوية علاقتها بالنسق السياسي العربي. حيث يعاني البحث العلمي من عقبات رئيسية عدة، يأتي في مقدمتها: ضعف الدعم المالي المخصص للبحث العلمي، وضعف، إذا لم نقل غياب، الحريات الأكاديمية. فبالنسبة للميزانية المخصصة للبحث العلمي في العالم العربي فإنها لا تكاد تذكر، ففي عام 2004، وحسب إحصائيات ” اليونسكو “، خصصت الدول العربية مجتمعة للبحث العلمي 1.7 مليار دولار أي ما نسبته 0.3 % من الناتج القومي الإجمالي. وتشير آخر الإحصائيات أنّ عدد مراكز البحث في الوطن العربي وصل إلى 375 مركزا يعمل بها 31 ألفا و118 عالما وباحثا، أي بمعدل 1.7 باحث لكل عشرة آلاف عامل من اليد العاملة، وهذه نسبة ضئيلة جدا لا تكاد تذكر إذا قارناها بالدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث بلغت النسبة 66 واليابان 58 وبريطانيا 36. أما عن موقع البحث العلمي العربي في الخريطة العالمية فإنه لا يمثل سوى 1.7 % من الإنتاج العلمي العالمي، وهذا يعني أنّ مدخلات المعرفة العربية على المستوى الدولي محدودة جدا.
بينما علّقت النخبة الحاكمة في إسرائيل، منذ عهد مؤسسها دافيد بن غوريون، أهمية كبرى على البحث العلمي. ومن أبرز التقاليد التي ترسخت في علاقة إسرائيل مع العلوم والتكنولوجيا: تعيين عدد من العلماء على رأس المؤسسات الحكومية المعنية بالمجالات التكنولوجية حصرت مهمتهم في تطوير البحوث المتعلقة بهذه المجالات، وإنشاء هيئة قومية للبحوث والتطوير مهمتها رسم السياسة العلمية الشاملة، إضافة إلى تطوير مجالات بحثية جديدة، وإقامة صناديق مالية لتشجيع البحث والتطوير وفقا لأهداف الأمن القومي الإسرائيلي وغيرها.

وتفيد المعطيات المتاحة أنّ إسرائيل تتمتع بميّزة تفوق نسبي، مقارنة بالمجموع العربي كله، على صعيد الطاقة البشرية الخبيرة. إذ تضم أكثر من 11 ألف عامل وعشرات الآلاف من المهندسين والفنيين المنخرطين في مجال البحث والتطوير. وثمة ظاهرة إسرائيلية فريدة من نوعها، تتمثل في وجود مسؤول في وزارة الصناعة والتجارة يحمل لقب ” كبير العلماء ” Chief Scientist، يوزع منحا تقدر بنحو 400 مليون دولار سنويا لمختلف مشاريع البحوث والتطوير، إضافة إلى تقديم الدعم للمشاريع التي يكتب لها النجاح.

إسرائيل تتقدم على أميركا في الإنفاق على التعليم

واقع البحث العلمي في العالم العربي ومعوقاته

الوضعية مؤسفة للغاية، فالميزانية التي تخصص للبحث العلمي في معظم الدول العربية لا تكاد تذكر، وطيلة نصف القرن الأخير، تعرضت مؤسسات التعليم العالي في البلدان العربية إلى التوظيف السياسي واستغلت كفضاء للتأطير الإيديولوجي. فعوض أن يكون الحقل التعليمي محايدا وموضوعيا ويتعاطى مع المعرفة دون تسييس أو أدلجة، احتكرت النخب السياسية العربية فضائيات العلم، لذلك فإنّ جامعاتنا لم تستطع النمو والتطور رغم كفاءاتها العلمية، إلى درجة أنّ هذا الواقع قد أثّر سلبا على سلوك ومواقف النخب العلمية. فالشائع اليوم بين الجامعيين العرب أنّ منصب عميد الكلية هو منصب سياسي، وكلما فهم الجامعي اللعبة وحصّن نفسه بالانتماء إلى الحزب الحاكم في بلده، كلما كان أقرب إلى الترقيات وإلى حرية التصرف والاستحواذ على فرص البعثات الدولية.

وهكذا، فإنّ أهم معوّقات وتحديات البحث العلمي في العالم العربي هي:

1- غياب سياسة علمية واضحة ومتوازنة ومتسقة يمكن أن تنظّم عملية البحث العلمي، وتوجّه الموارد، وتستثمر الطاقات والقدرات المتاحة والمتوافرة حسب سلم أولويات التحديات.

2- ضحالة الموارد ونقص الإمكانيات المخصصة للقيام بالبحوث العلمية.

3- تعثر استراتيجيات التحديث العربية، وعدم توازنها وعدم فاعليتها واتساقها.

4- انعدام الحريات الأكاديمية والفكرية العامة في المجتمعات العربية، وعدم توفير المناخ السياسي الملائم للإبداع، بإطلاق حريات الأفراد وتوفير إمكانيات المشاركة الفعلية أمامهم، سواء من النخب العلمية أو من مختلف قطاعات الشعب الأخرى.

5- ضعف وتفكك المجتمع العلمي العربي، وضعف مراكز المعلومات وخدمات التوثيق والمكتبات، وعدم توافر المناخ الملائم للعمل البحثي، وانتشار البيروقراطية، وقلة الحوافز المادية، والتبعية العلمية والتقنية للخارج، وضعف البنيات الأساسية للحراك الاجتماعي والاقتصادي العربي الذي يفترض أن يشكل القاعدة الصلبة لقيام البحوث العلمية.

وبالنظر إلى ذلك فإننا نؤكد أنّ هناك هوة واسعة بين العمل الجدي الحقيقي المنتج والمطلوب، وبين ما هو منتظر من الإمكانيات والمواهب البشرية العاملة في ميدان البحث والتطوير من العلماء والأكاديميين الباحثين في المؤسسات العلمية العربية.

وفي الواقع، تمثل أزمة البحث العلمي مجالا مهما للعديد من الإشكاليات الرئيسية، عن موقعه في خريطة اهتمامات السلطة والمسؤولين والمشرفين على التعليم العالي والبحث العلمي: علاقة السلطة في العالم العربي بالبحث العلمي وعلاقة البحث العلمي بصناعة القرار، وعلاقة الدول العربية بالأدمغة المهاجرة والكفاءات العلمية العربية الموجودة في مختلف أنحاء العالم، وماذا فعلت الحكومات العربية لاستقطاب هذه الكفاءات أو على الأقل الاستفادة منها ؟ ولماذا تنجح وتبدع الكفاءات العربية في الخارج وتهمّش ولا تصل إلى مستوى يذكر في بلادها، وبالعكس تصل إلى أعلى المستويات في أوروبا وأمريكا ؟

إنّ أغلب صنّاع القرار في العالم العربي لا يعتمدون على البحث العلمي ولا الدراسات ولا البيانات والمعطيات العلمية لاتخاذ قراراتهم، وخير دليل على ذلك انعدام مراكز سبر الآراء، وهكذا تصبح العلاقة الارتباطية بين البحث العلمي والرشادة السياسية منعدمة تماما.

كما أنّ غياب الديمقراطية وروح الحوار الأكاديمي الخلاق في جامعاتنا هما من أهم أسباب تخلف التعليم الجامعي العالي، وهذا الغياب بدوره يولّد نوعا من الاستبداد الذي تمارسه إدارة الجامعة ضد أساتذتها وطلابها في آن، وداخل هذا الجو يظل الأستاذ الجامعي قلقا ومتوترا وفاقدا لحريته، وعاجزا عن الإسهام في التغيير والتطوير. ومما يحوّل بعض جامعاتنا وكلياتنا في العالم العربي إلى قلاع من الاستبداد والظلام هو عدم الانتخابات الديمقراطية لرؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام، إذ يتربع هؤلاء كراسي المناصب الإدارية بقرارات عليا، تصوغها السلطة السياسية أحيانا، أو الجهات الأمنية التابعة لسلطة الدولة نفسها أحيانا أخرى. وهذه التعيينات، الخارجية عن إطار الجامعات، لا تدفع إلى هرم المناصب الإدارية الجامعية الأكفاء من الأساتذة المتميّزين، عقلا وحكمة ومعرفة وبحثا جادا، بل قد تدفع بعض الأشخاص غير الموهوبين وغير الجديرين إلى مثل هذه المناصب.

والحال إنّ العالم العربي مليء بالكفاءات الفردية والمثقفة، ولكن ليس هناك وسط ثقافي ملائم للإبداع. ولا نعلم كيف ستكون العلاقة بين المثقف والسياسي، ما دامت هذه العلاقة جامعة لمفارقة كبيرة في أقطارنا.

لقد نسي القادة، الذين تسلموا السلطة في الدولة الوطنية الفتية، الوعود التي قطعوها على أنفسهم في الماضي، وباتوا يتصرفون كما لو أنهم وحدهم المسؤولون عن مصير بلدانهم. وباسم ” الحفاظ على سلامة الوطن ” شنوا حملات قمع واسعة، كان المثقفون والمفكرون من ضحاياها البارزين. وفي ظرف سنوات قليلة تحولت الجامعات والمؤسسات التربوية والثقافية والعلمية إلى مراكز للدعاية لصالح الأنظمة الحاكمـة ولـ ” الحزب الأوحد ” و ” القائد الأوحد “. وخلال العقود الخمسة الماضية ازدادت هوة القطيعة بين أهل السلطة وأهل القلم عمقا واتساعا، والسبب الأساسي في ذلك هو أنّ السلطات، في أغلب أقطار العالم العربي، مصرة على أنّ القوة هي وحدها الضامنة لبقائها ولتوطيد نفوذها. أما أصحاب القلم، فإما أن يكونوا ” خدما فقط ” وإلا فإنّ مصيرهم السجن أو النفي.

وفي هذا المجال، يمكن الإشارة إلى أنّ الأزمة العربية بمجملها هي أزمة قيادة تفتقر، في النسق السياسي، إلى القدرة على استيعاب المتغيّرات في البيئة الدولية، خاصة قصور النظرة إلى الأساليب الديمقراطية في قيادة المجتمع والدولة. وفي النسق المعرفي، عدم التواصل مع ما أحدثته ثورة المعلومات في العالم. وطالما أنّ الأزمة، في إطارها العام، هي أزمة قيادة، فإنها تنسحب على الإطار المؤسسي الخاص بمجمل هياكل وأنشطة الدولة الأخرى ومنها الهياكل والأنشطة العلمية، مما يجعلها تسير بخط لا يوازي أو يواكب حركة التطور العلمي في العالم.

مقدمات في أزمة النسق السياسي العربي
كثيرة هي التقارير والمؤسسات التي حاولت تصنيف دول العالم، وفقا لمدى تمتعها بالحرية السياسية ومدى احترامها لحقوق الإنسان الأساسية‏،‏ وقد اعتمدت في التقييم على مؤشرات عديدة، من أهمها:‏ انتخاب البرلمان – عدالة القوانين الانتخابية – حق تأسيس الأحزاب السياسية – سلطة النواب المنتخبين – وجود المعارضة – الشفافية – مشاركة الأقليات – مستوى الفساد – حرية التجمع والتظاهر – استقلالية القضاء – حرية الصحافة – الحرية الدينية – حكم القانون – حقوق الملكية.
لقد انتقلت الدولة، بمعناها الحديث، إلى البلدان العربية مع الاستعمار، الذي بدأ بإنشاء بعض مؤسسات الدولة وأجهزتها، فأقام برلمانات ومجالس محلية، وأنشأ جيشا، ووضع، في بعض الحالات، دساتير وإدارات مالية وضريبية ومحاكم حديثة، وأجهزة شرطة وأمن.. الخ. غير أنّ عدم توفير شروط قيام دولة حديثة جعل هذه المؤسسات والإدارات والدولة التي نشأت بعد الاستقلال هشة، في مرتبة وسط بين الدولة القديمــة ” دولة الملك/الأسرة الحاكمة/الحزب الحاكم ” والدولة الحديثة ” دولة الأمة/الشعب “. مما أدى إلى اتصاف الدول العربية بالتطور المحدود للنظام السياسي، الذي قام على انفصال الدولة عن الأمة، وبالتالي إلى غياب التوافق ما بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، بحيث لم تعد العملية السياسية تتطابق مع وحدة المجتمع نفسه.

وفي ما يخص الأقلمة العربية لمفهوم الدولة الحديثة، فقد عجزت النخب الحاكمة عن تحقيق تعييناتها، أي عجزت عن أن تكون الدولة دولة مجموع مواطنيها. وفي المقابل استولت النخب الحاكمة على الدولة، وتحولت إلى سلطات لم تأخذ من أدوار الدولة سوى الجانب الأمني، من دون أي اعتبار للمفاهيم الأخرى كالمواطنة والديموقراطية والتنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي.

وهكذا، تحرم الثقافة السياسية السائدة في الدول العربية المواطن، بما فيه الأكاديمي، من ممارسة حقوقه، وخاصة الحريات العامة والخاصة، وتتبع ممارسات تحرمه حقوقه المدنية، وتقيّد حق المجتمع في ممارسة حقه في نقد السلطة التنفيذية، والمطالبة بالمحاسبة الدستورية والقانونية للمقصرين والفاسدين، وتلحق السلطتين التشريعية والقضائية بالسلطة التنفيذية ما يجعلها سلطات صورية، وتصور ما تقوم به السلطة التنفيذية من واجبات وما تنفذه من برامج على أنه كرم من السلطة التنفيذية، وليس واجبا عليها تستدعيه طبيعة الدولة، ناهيك عن الدولة الحديثة.

إنّ الدولة التسلطية العربية، كما حددها الدكتور خلدون حسن النقيب، تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتدادا لسلطتها، فتحتكر مصادر القوة والسلطة والثروة في المجتمع، وتهيمن على كل مستويات التنظيم الاجتماعي ومختلف الجماعات والقوى الاجتماعية، من خلال سن شرائع وقوانين من دون قيود أو ضوابط. وينحصر دور الشعب، في هذه الحال، في الخضوع والطاعة والتبجيل و ” الفداء بالروح والدم “، ويتحول القائد إلى ناطق باسم ” حق مقدس معصوم “، فتُحرَّم النشاطات المدنية أو تُدجَّن، وتضيع بالكامل وتنحل استقلالية المجتمع إزاء دولة تفترسه إكراما واغتصابا، وتغدو كل المؤسسات، بما فيها الأجهزة الرسمية العسكرية والمدنية والقضائية، رهائن إرادة عليا تبتلع الجميع وتسكت كل الأصوات.

باختصار، الدولة التسلطية العربية هي دولة مغايرة لدولة العقد الاجتماعي الحديثة، بكل ما تعنيه من قيم المراقبة والمساءلة والاحتكام إلى الشعب، دولة تتوغل سلطاتها في كل ثنايا المجتمع، وتفرض وصايتها وهيمنتها على الجميع، ليس فقط أمنيا، بل اقتصاديا وثقافيا وتربويا.

ومن مآثر الدولة التسلطية العربية، غير الحميدة، إعاقة التنمية العربية وانحدار العالم العربي اقتصاديا وثقافيا وعلميا وتربويا، حتى بالقياس إلى الدول المتوسطة النمو، حيث ذكر تقرير التنمية البشرية لعام 2006 أنّ قيمة دليل التنمية البشرية العربية 0.680 في مقابل 0.701 في تلك الدول، وأنّ العالم العربي متخلف في دليل التعليم حتى عن الدول النامية 0.66 إلى 0.72، كما جاء في تقرير المؤتمر القومي العربي السادس عشر لعام 2005، كما أنّ معدل البطالة في العالم العربي وصل إلى 15 %، وأنّ الدول العربية عموما تنفق أقل من 0.2 % من ناتجها المحلي على البحث والتطوير العلميين مقارنة بنحو 2.46 % على الصعيد العالمي.

وهكذا، فإنّ الدولة التسلطية العربية تدفع العرب إلى آفاق مسدودة، بإنتاجها الفقر والأمية والتخلف والاستبداد، وبعجزها عن المشاركة في ثورة العصر، ثورة ” اقتصاد المعرفة ” و ” مجتمع المعرفة “، إضافة إلى هدرها الموارد والكفاءات.

أما في الدول المتحضرة، التي تكتسب سلطاتها شرعيتها من شعوبها، يمنح القانون الحريات الفردية والحريات العامة، وهذه الحريات هي المناخ الذي تترعرع فيه الطاقات الأكاديمية الخلاقة، حيث تكون تلك الحريات سببا أساسيا لتطور المجتمع وازدهار نسقه الحضاري.

د.عبدالله تركماني – جدل العلاقة بين الحريات الأكاديمية والنسق السياسي العربي (2/2)

هجرة الكفاءات العربية – كان من نتيجة أزمة النسق السياسي العربي أن استفحلت ظاهرة هجرة الكفاءات العربية، إذ جاء في ورقة عمل حملت عنوان ” هجرة العمالة العربية، الفرص والتحديات ” قدمتها إدارة السياسات السكانية والهجرة في جامعة الدول العربية للاجتماع الأول لوزراء الهجرة العرب في فبراير/شباط 2008، أنّ نحو 70 ألف جامعي عربي يهاجرون سنويا من مجموع 300 ألف متخرج سنويا من الجامعات العربية، وحذرت من أنّ أكثر من مليون مهاجر عربي في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي للتنمية ” C. S.D ” حاصلون على شهادات جامعية عليا، وأنّ عدد الأطباء العرب الذين يهاجرون سنويا نحو البلدان الأوروبية يقدر بنحو خمسة آلاف طبيب. وقدّرت خسائر العالم العربي، بسبب هجرة الكفاءات، بنحو 1.57 بليون دولار سنويا.

وتعتبر ظاهرة هجرة الكفاءات والعلماء من الدول العربية إلى الخارج، أحد أهم العوامل المؤثرة على تطور الاقتصاديات الوطنية، وعلى التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية، كما تكتسب هذه الظاهرة أهمية متزايدة في ظل تزايد أعداد المهاجرين، خصوصا من الكوادر العلمية المتخصصة.

على أنّ مراكز الدراسات وتقارير المنظمات الدولية والإقليمية، حددت جملة من الأسباب التي دفعت العقول العربية إلى الهجرة خارج الفضاء العربي، ومن بين أهم الأسباب الداخلية نذكر:

1 – إنّ التقدم الوظيفي في الدول العربية مرهون، إلى حد بعيد، بالتقرب من السلطات الحاكمة، كما أنّ المحسوبية تلعب دورا حاسما في التقدم الوظيفي، ودور الكفاءة والتقدم العلمي في الرقي الوظيفي هو هامشي بالمقارنة مع العلاقة مع أقطاب النظام والواسطة والتبعية السياسية والحزبية للسلطة.

2 – غياب حرية الفكر وحرية البحث العلمي وغياب الاحترام للعلماء، يشكل سببا رئيسيا في بحث العلماء العرب عن مجتمع يحترم العلم والعلماء، ويحترم حقوق الإنسان مهما كانت أفكاره بعيدة عن أفكار النظم الحاكمة.

3 – تشير عدة تقارير عربية إلى عامل آخر بالغ القسوة، وهو القيود الخانقة ضد النشر وحرية الفكر، إذ هناك كثير من الأبحاث التي تمنع السلطات نشرها في البلاد، ويضطر أصحابها إلى النشر في الخارج، وأحيانا يعاقبون أيضا على النشر في الخارج.

4 – إنّ ضعف وجود مراكز البحث العلمي في الدول العربية، يفاقم من الأزمة، حيث يستحيل الاستفادة من الأبحاث العلمية وتوظيفها في خدمة المجتمع، فتتحول الاختصاصات العلمية التطبيقية إلى اختصاصات نظرية، تنعكس على العالم والباحث من حيث تراجعه في مستواه العلمي أو في إمكان تطوير قدراته المعرفية.

5 – لا يزال العالم العربي يتعاطى مع الأرقام بصفتها معطيات سياسية ذات حساسية على موقع السلطة، وتشير تقارير عربية إلى تدخل السلطة السياسية في أكثر من ميدان لمنع إصدار نتائج أبحاث أو دراسات، تكون الدولة تكبدت مبالغ لإنجازها، وذلك خوفا من أن تؤثر نتائج الدراسات في الوضع السياسي السائد.

وهكذا، يمكن القول إنّ السبب الأساسي للهجرة متصل بغياب الديموقراطية في الدول العربية. والديموقراطية هنا ليست بمعنى توافر الحريات الفردية والعامة فقط، كي يشارك الأكاديميون في انتخابات حرة ونزيهة ويطالعون صحفا مستقلة ويحمون كرامتهم من التعديات والانتهاكات الشائعة في بلدانهم، وإنما هي أيضا التنظيم العقلاني للمجتمع، وبخاصة قطاع البحث العلمي الذي يحتاج ليكون أنموذجا لمحاربة الفساد والمحسوبية والرشوة. فعندما يغوص أصحاب الكفاءات العربية في واقعهم المحلي، بعد العودة من الدراسة في الخارج، يكتشفون غياب الشفافية ولجم الأفواه وامتهان كرامة الفرد، فيحزم كثير منهم الحقائب ويعود من حيث أتى.

ضرورة الارتقاء في البحث العلمي العربي

لا تقل عملية تحسين أداء الدول العربية في مجال البحث العلمي أهمية عن الملفات السياسية الراهنة، حيث تعتبر مستويات البحث العلمي مؤشرا على مستويات التطور المختلفة، وبالتالي مدخلا لتبوؤ الدول العربية موقعا في إطار العلاقات الدولية. ومن هنا فإنّ العالم العربي بحاجة إلى نهضة سياسية أولا، تنشر الديمقراطية وحرية التفكير وحرية التجريب، وتفتح أفقا رحبا للمبادرات الأكاديمية، وتتعهد الدولة باستيعاب الكفاءات حسب نجاحها وإبداعها، وليس حسب أي اعتبار آخر، مما يتطلب:

1 – تخصيص موازنة لائقة بالبحث العلمي في البلاد العربية، وإلحاق مراكز بحثية لائقة بأقسام الدراسات العليا في الجامعات العربية.

2 – احترام الحريات الأكاديمية وصيانتها وعدم تسييس التعليم أو عسكرته، وهو ما يعني من الناحية العملية، احترام حقوق الإنسان وخضوع السلطة والأفراد للقانون، وذلك عبر إعطاء أعضاء الهيئات الأكاديمية والعلمية حرية الوصول إلى مختلف علوم المعرفة والتطورات العلمية وتبادل المعلومات والأفكار والدراسات والبحوث والنتاج والتأليف والمحاضرات، واستعمال مختلف وسائل التطور الحديثة، من دون تعقيد أو حواجز.

3 – إعادة النظر في سلم الرواتب التي تمنح للكفاءات العلمية العربية، وتقديم حوافز مادية ترتبط بالبحث ونتائجه، ورفع الحدود العليا لمكافأة البارزين من ذوي الكفاءات، وتقديم الحوافز التشجيعية والتسهيلات الضريبية والجمركية، للوفاء بالاحتياجات الأساسية، خاصة منها المساعدات التي تضمن توفير السكن المناسب وتقديم الخدمات اللازمة لقيامهم بأعمالهم بصورة مرضية.

إنّ الجامعات لا يمكن أن تنتج معرفة بدون حريات أكاديمية، ومراكز الدراسات والبحوث لا يمكن أن تعمل وتنتج معرفة جديدة في ظل تدخلات وممنوعات تفرضها السلطات العربية، أو بعض القوى الجاهلة في المجتمع تارة باسم ” الأعراف والتقاليد ” وتارة باسم ” السلم الأهلي ” وتارة أخرى باسم ” الدين “. وبالطبع لا يمكن الحديث عن إنتاج معرفة لا يمكن النطق بنتائجها في غياب حرية التعبير كلاما وكتابة، مما يجعلنا ننتظر حصول تغييرات كبرى في عقلية وإرادة وتوجهات وبنية الدولة العربية نفسها، وخاصة في مجالات:

(1) – استقلال الجامعات العربية

لعل قضية استقلال الجامعات، محتفظة بشخصيتها المعنوية وتدبير شؤونها بنفسها تحت إشراف وزارة التعليم العالي، هو أحد أهم المداخل لتطوير البحث العلمي. وذلك من خلال رفع يد السلطات عن الجامعات، ووقف التدخل الأمني والسياسي في شؤونها، واختيار القيادات الجامعية عن طريق الانتخاب، بدءا من منصب رئيس الجامعة حتى عميد الكلية ورؤساء الأقسام، والعمل على تطوير البحث العلمي والدراسات العليا من أجل النهضة بمستوى التعليم الجامعي.

(2) – إصلاح الجامعات العربية

ثمة مستلزمات واشتراطات لابد أن تُعتمد رسميا من قبل الجامعات العربية لتسري تطبيقاتها على الجميع من اجل إصلاحها، إذ يجب:

1 – فصل الجامعات العربية عن سياسات الأنظمة السياسية، باعتبارها مؤسسات علمية وأكاديمية بحتة، وأن لا ترتبط تلك المؤسسات بأية أجهزة أمنية.

2 – التعامل مع الأساتذة على أساس منح الحقوق وأداء الواجبات، بشكل متوازن وقانوني ومتعارف عليه.

3 – تداول المسؤولية وتكافؤ الفرص في المواقع من حين إلى آخر، ويراعى في الاختيار أولئك المتميّزين من الأكاديميين.

(3) – الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية

طبقا لأعمال المؤتمر العلمي الثاني للحريات الأكاديمية في الجامعات العربية، الذي ُنظِّم من قبل مركز عمّان لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع شبكة علماء تحت الخطر، وشبكة التعليم والحقوق الأكاديمية وجامعة الأمم المتحدة/معهد القيادة الدولية، في 10 أبريل/نيسان الماضي، فإنّ المطلوب في شأن الحريات الأكاديمية هو:

1 – العمل على تطوير التشريعات والسياسات الخاصة بشؤون الجامعات العربية بما يحقق الأهداف والمتطلبات اللازمة للنهوض بواقع هذه الجامعات الحكومية والخاصة، لتعزيز الحريات الأكاديمية، وتفعيل المنظومات التشريعية القائمة متى كانت ضامنة لمبادئ ومسيرة هذه الحريات.

2 – العمل على منح الجامعة دورا مهما في وضع السياسات العامة للتعليم، والاستقلال في تحديد المناهج الدراسية والمساقات، وتحديد معايير أكاديمية وأخلاقية شفافة للترقية العلمية.

3 – العمل على تجنب التدخل بالسياسات المتصلة بالمناهج وتعيين أعضاء هيئة التدريس، وضرورة اعتماد مبادئ الكفاءة والنزاهة والشفافية عند اختيار أعضاء هيئة التدريس وقبول الطلبة، ولن ندرك ذلك إلا من خلال الاستقلال العلمي والإداري والمالي للجامعات العربية.

4 -. العمل على إصدار دليل شامل باسم ” دليل الحريات الأكاديمية العربية “، يشمل المبادئ والآليات ومناهج تدريبية، والعمل على توزيعه على جميع الجامعات العربية..

5 – العمل على إشاعة مبدأ الحصانة الأكاديمية، في حدود البحث العلمي، والعمل على إقرارها في التشريعات العربية ونشرها في وسائل الإعلام.

6 – العمل على دعم وتشجيع المبادرات المحلية لتشكيل روابط وهيئات للحريات الأكاديمية في البلدان العربية.

دولة الكفاءات لا دولة الولاءات

بعد سقوط الأنساق السياسية المغلقة، التي كانت تحتكر الحقيقة السياسية، وظهور أنساق سياسية مفتوحة، تتعدد فيها الأصوات، وتبرز المعارضة وتتنافس الأحزاب والجماعات السياسية. وبعد أن أضحى مجتمع المعرفة يقوم على أساس تنمية الإبداع والاعتماد على الأنساق الفكرية المفتوحة، القادرة على مواجهة مشكلات العالم الجديد المعقدة. فإنّ ما نحتاج إليه هو دولة بالمعنى الحديث، بعد أن صارت النخب الحاكمة تعتبر ممارساتها السياسية والأمنية هي المرجعية الوحيدة في الدولة، وكل ما يخرج عن إطارها إنما يجنح نحو الخيانة والمساس بالأمن الوطني أو القومي، وبالتالي فإنّ أي حراك اجتماعي وأي نشاط في الشأن العام هو حكر على أصحاب السلطة، وعليه أن يستند إلى ما تقوله وتمارسه وتفرضه عبر وسائل الطاعة العمياء والترداد الببغائي.

إنّ المأمول هو الوصول إلى الدولة بمعناها الحديث، أي عبر مندرجات العقد الاجتماعي التي تجد أساسها في تحقيق مفاهيم المواطنة والديموقراطية التعاقدية، ذلك أنّ النظام الأصلح في أي بلد عربي هو ذلك النظام الذي يحفظ التوازن الوطني وكفاءة المؤسسات وتكاملها وتعاونها، ويوفر فاعلية السلطات وتناوب المسؤولين وتجديد البنى السياسية.

وهذا يقتضي التعاقد على أساس سياسي يوفر، بشكل ملزم ودائم، آلية إنتاج السلطة الوطنية على قاعدة التوازن الوطني، وبالتالي يتوجب ممارسة المسؤوليات في مؤسسات الدولة والسلطة الدستورية والمؤسسات العامة على قاعدة الاستحقاق والمؤهلات دون تفرقة أو تمييز بين مواطن وآخر.

إنّ التحول من دولة الولاء إلى دولة الكفاءة هو تحوّل من الشكل التقليدي للدولة إلى دولة المؤسسات والقوانين، وبالتالي تحوّل الناس من مجرد رعايا تابعين وغير مبالين إلى مواطنين مشاركين، بإمكانهم التأثير والتغيير من منطلق تساوي الفرص.

وعندما نتكلم عن دولة الكفاءة فإننا نقصد دولة المؤسسات ودولة النظام ودولة القانون التي تحترم أسس قيام دول الحق والقانون، لأن الكفاءة تعني التقيّد بالدستور والالتزام بالقوانين السارية وتنفيذ القرارات، والفصل بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة. كما أنّ الكفاءة تعني أنّ اختيار الرجال والنساء يتم على أساس الشفافية الكاملة، وعلى مقاييس النزاهة والقدرة على العمل والإنجاز لا على مقاييس الانتماء والولاء فقط. وما يجب أن لا نغفل عنه أنّ الشخص الكفء يشعر بالانتماء والولاء للمكان دائما، لأنه يعمل ونتائج عمله يراها على أرض الواقع، وبالتالي يشعر بأنه جزء من ذلك الواقع ومن ذلك المكان، ومن الطبيعي أن يولد لديه ولاء للمكان الذي يعمل فيه. أما الذي يدّعي الولاء بلا كفاءة فلا شيء يربطه بأي مكان غير الكلام والشعارات، فهو اليوم هنا وغدا هناك. ويبقى الولاء شيئا معنويا لا يمكن اختباره على أرض الواقع، بينما الكفاءة مسألة مادية من السهل التأكد منها بناء على العمل الذي يُنفَّذ والنتائج التي نراها.

ومما يجدر الانتباه إليه دائما أنّ حسن اختيار الكفاءات هو من علامات البناء الصحيح للمجتمع ولأية مؤسسة، وفي المقابل فإنّ من علامات فساد المجتمع وفشل المؤسسات عدم التركيز على الكفاءات في من تسند إليهم مهام كبيرة. وللأسف فإنّ ذلك يتم على أسس غير سليمة، كالقرابة والصداقة والمحسوبية في بعض الأحيان، وفي بعض الدول على أساس الحزبية والطائفية، وفي أحيان أخرى على مدى النفاق والمداهنة.

وعندما نعتمد أسلوب الاختيار على أساس الكفاءة فإننا نعطي أملا لجميع المواطنين في إمكانية التغيير، فطالما أنّ الكفاءة هي المعيار، وهذا المعيار لا علاقة له بجنس أو حزب أو قبيلة أو لون أو شكل، فإنّ حق العمل والوصول إلى تحقيق الطموحات الشخصية والعامة تكون متساوية للجميع، بعيدا عن الحسابات التي لا تكون لها أية قيمة في معادلات بناء الأوطان، ويصبح الباب مفتوحا أمام الجميع، كل حسب اجتهاده وجهده.

كما أنّ الاختيار على أساس الكفاءة يحوّل الناس من سلبيين وساخطين ومحبطين دائما إلى أناس مشاركين وفاعلين ومتطلعين ولهم أمل، وتساعد على خلق صفوف جديدة من القيادات الشابة التي تستعد لأخذ دورها، بناء على جهدها وعملها ونشاطها.

إنّ من صالح دولنا العربية إطلاق سراح البحوث العلمية، وجعلها في مأمن من المزايدات ومن صراع قوى الشد والجذب في مواقع التفكير والقرار في حكوماتنا العربية. فلا بد من ضمان حرية البحث، وفي مقدمتها حرية اختيار الموضوع والظاهرة، وتجنب الوصاية بنوعيها السياسي والديني. وإذا أرادت دولنا العربية، خاصة القيّمون عليها من القادة والنخب، أن تفتح مسارات وطرقا واسعة لها باتجاه امتلاك زمام المبادرة الحضارية في المستقبل، عليها أن تعيد الاعتبار للعمل المؤسساتي، ولدولة القانون والعدل، وتتيح عملية المشاركة في صنع القرار، وتقوم بتنمية الثروة بالإدارة العلمية الكفؤة، وتجعل من العلم والبحث العلمي المبدع رافعة للدولة والمجتمع على أساس أولوية العلم والثروة البشرية على المال، باعتبار أنّ هناك طاقة وقيمة حضارية مختزنة في ذات العلم تضع المال والثروة في خدمة هذا العلم الذي يوّلد ثروة ومال الأمة.

إنّ التعليم العالي في العالم العربي سيظل يعاني من مشاكل مستدامة، وسيبقى دون مستوى الطموح، إذا لم يصار إلى بعض المعالجات الجوهرية التي تتعلق أولا بإبعاد المؤسسات العلمية عن مؤثرات السلطة السياسية، سواء في القيادات العليا أو عمادات الكليات والكوادر الإدارية الأخرى، وأن تعتمد المعايير العلمية الدقيقة في اختيار تلك القيادات.

تونس في 18/6/2008 الدكتور عبدالله تركماني كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

(*) – في الأصل ورقة قُدمت في المؤتمر الخامس والعشرين لمنتدى الفكر المعاصر حول ” دور الجامعات والباحثين بين حرية الإبداع وممارسات الرقابة ” في الفترة من 19 إلى 21 يونيو/حزيران 2008، بدعوة من ” مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” و ” مؤسسة كونراد أديناور بتونس “.

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق