زملاء

حول المجالس السورية، “الإنقاذية و”الوطنية” و”الإنتقالية”… لا تقدّموا لآل الأسد خدمة مجانية لم تكن في حسبانهم!

مفاجأة أنقرة”، كما يتوجب التفكير بتسمية ذلك الإعلان الدراماتيكي عن “تعيين” مجلس إنتقالي سوري، و”انتخاب” رئيس له، دون علم الرئيس “المنتخَب” نفسه، ومثله عدد كبير من المعيّنين؛ كانت أحدث الخطوات المتسرعة في السباق المحموم لـ”تشكيل” هيئة سياسية تنطق باسم الشعب السوري، وتنوب في ذاتها عن التنسيقيات العاملة على الأرض، وبالتالي تستحوذ على الحقّ في النيابة عن الإنتفاضة بأسرها

كانت تلك المفاجأة هي الأحدث، لكنها لا تبدو آخر الأحزان في مضمار تصنيع المجالس الإنتقالية أو الإنقاذية أو الوطنية. في هذه الساعة، إذْ أحرّر هذا النصّ، يجري طبخ هيئة جديدة مؤلفة من 50 اسماً، غالبيتهم الساحقة يقيمون داخل سورية، ومعظمهم من الأسماء الوطنية المشهود لها بالكفاءة، ممّن تمرّسوا بالعمل المعارض على هذا النحو أو ذاك، أو وفدوا إليه مؤخراً وبرهنوا على مكانة مميّزة، والكثير منهم جُرّبوا في ميادين النضال المختلفة، واختُبرت عريكتهم في السجون والمعتقلات (بين المرشحين شخصيات تقبع الآن في المعتقلات، وآخرون يعيشون في ظروف الحياة السرّية). وهؤلاء اختلفوا مع بعضهم البعض، أو فيما بينهم، ليتفقوا في العموم على خطّ الإنتفاضة وأهدافها؛ وهم، بالفعل، يمثّلون أطياف يسارية وقومية وإسلامية وليبرالية، فضلاً عن عكس صورة شبه كاملة لمكوّنات المجتمع السوري الإثنية والدينية والمذهبية (تجدر الإشارة إلى أنّ اللائحة الجديدة تغيّب المكوّن السرياني ـ الآشوري، تماماً كما فعل “إعلان أنقرة”!).

كلّ هذا جميل، في الشكل بالطبع، غير أنّ المحتوى يؤكد أنّ هذه الهيئة الجديدة تقع في المحذور ذاته، الذي تكرّر من قبل في جميع اللجان المنبثقة عن جميع المؤتمرات واللقاءات التشاورية التي عُقدت خارج سورية: أنها تفترض تمثيل شباب التنسيقيات، الذين أطلقوا شرارة الإنتفاضة الأولى، وحملوا ويحملون أعباءها اليومية الثقيلة، بالصدور العارية والصمود الأسطوري والإبداع العبقري؛ ولكنها في الواقع العملي تغيّبهم من حيث الوجود العددي والعمري (سنّ أصغر أعضاء الهيئة الجديدة تجاوز الأربعين، وما لا يقلّ عن النصف قاربوا الستين، وثمة أبناء 70 و80 سنة…)، رغم أنّ الاعتبارات الأمنية ليست ذريعة هنا، إذْ يعمل الكثير من نشطاء التنسيقيات بأسماء حركية، وكان في الوسع ضمّهم إلى الهيئة بأسمائهم تلك.

من جانب آخر، ثمة هذه الإشكالية الجلية: إذا كانت تلك المجالس والهيئات تنطلق ـ كما يحبّ المرء أن يرجّح، مبدئياً على الأقلّ ـ من حسن النيّة، والتجاوب مع المطلب الشبابي، والحرص على الإنتفاضة، ومنحها عناوين سياسية، إلخ… إلا أنها تنتهي جميعها، شاءت أم أبت، إلى إشاعة البلبلة والحيرة والتخبط، من جهة؛ أو الإحساس، الواهم أو غير الواقعي، بوجود قيادة سياسية فعلية للإنتفاضة، موحدة ومتماسكة وفاعلةن من جهة ثانية؛ فضلاً عن صبّ الزيت على نيران الخلاف والشقاق والفرقة بين فصائل المعارضة، في الداخل مثل الخارج، وهي المتأججة أصلاً لأسباب ذاتية وموضوعية، من جهة ثالثة.

ولقد أوضحتُ من قبل موقفي من مؤتمرات الخارج، في ضوء ذلك المحظور وتلك الإشكالية، واعتذرت عن المشاركة فيها أو في ما يتمخض عنها من لجان وهيئات، ليس تهرّباً من العمل الوطني العام (إذْ من المعروف، كما أرجو، أنني أعارض نظام آل الأسد منذ 30 سنة ونيف، من داخل تنظيم سياسي محظور وملاحَق، وليس من موقع المثقف والكاتب فحسب). كما حافظتُ، ويهمّني أن أحافظ دائماً، على مسافة نقدية واضحة، ملموسة وميدانية، من فصائل المعارضة السورية، عموماً؛ ومن “حزب الشعب الديمقراطي”، الذي أنتمي إليه، بصفة خاصة. وتلك، في يقيني، هي المسافة التي تسبغ المعنى، فضلاً عن الجدوى والشرف، على انتماء المثقف إلى قضايا شعبه، وانحيازه إلى الحقّ والحرّية والمساواة والديمقراطية، ودفاعه عن مجتمع مدني علماني وتعددي تنظّم علاقاته دولة القانون.

وأجدني مدفوعاً ـ اليوم أيضاً، في مناسبة ما يتكاثر طبخه من مجالس وهيئات قيادية ـ إلى التشديد على موقفي، والحفاظ على مسافتي النقدية، ولكن ليس من برج المراقب وحده، بل من موقع المنحاز والمنتمي والمنخرط. ولهذا أرى واجباً عليّ إعلان انضوائي في صفّ المبادرة التي أعلنتها “الهيئة العامة للثورة السورية” مؤخراً، بصدد توحيد الجهود لتشكيل مجلس وطني للإنتفاضة، تنهض معاييره على مبدأ العودة إلى الثوّار على الأرض، أوّلاً وقبلئذ، عند ترشيح الشخصيات الجديرة بعضوية المجلس، ليس دون تمحيص دقيق يُعهد به إلى لجنة رقابية تُنتخب من قلب الهيئة. مهمة المجلس ينبغي أن تبدأ من التوافق على، والمهمّ أكثر: المضيّ أبعد في إنجاز، أهداف واضحة وعملية يقتضيها برنامج الإنتفاضة الداخلي أوّلاً، بما يكفل إبعاد الحراك الثوري الداخلي عن مماحكات الخارج، سيّما منها الصراعات الجانبية بين “زعيم سياسي” هنا، و”نجم فضائي” هناك.

ذلك لأنّ عناوين الإنتفاضة الشعبية الظافرة ليست مجهولة أو مضيّعة أو متيتمة، وليس عسيراً تحديد مرجعياتها الميدانية والسياسية، والباحث عن قادة الإنتفاضة الفعليين لن يضلّ السبيل إلى ساحات درعا وحماة ودير الزور وحمص والقامشلي واللاذقية وإدلب ودمشق وحلب… وحيثما، وكيفما، أطلق النشطاء أشغال الإنتفاضة دون رجوع إلى قادة المعارضة في الداخل، وبالتالي دونما حاجة إلى تنصيب قيادات لها من الخارج. ومع حفظ التقدير التامّ لكلّ مناضل مخضرم، عارض وضحّى وعانى في قليل أو كثير، على امتداد 41 سنة من استبداد آل الأسد؛ وكذلك حفظ الدور لكلّ مَنْ أيقظته الإنتفاضة من سبات عميق، فصار معارضاً بعد أن كان صامتاً أو متحذلقاً أو موالياً أيضاً؛ فإنّ مبدأ التعيين والترئيس والإنتخاب الكاذب، واستفحال شراهة عقد المؤتمرات المتسرعة، والغرق أكثر فأكثر في هوس طبخ اللجان والمجالس القيادية كيفما اتفق… كلّ هذا لا يخدم الإنتفاضة، في يقيني الشخصي بالطبع، أياً كانت النوايا والمقاصد. لعلّه، في المقابل، يُلحق بها الأذى، خاصة حين يشيع البلبلة والفرقة، فلا يخدم في النهاية إلا في مدّ النظام بأسباب بقاء إضافية، لم تكن طغمة بشار وماهر الأسد تنتظرها، أو تحلم بها!

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق