زملاء

رزان زيتونة : من أم المعتقل الى أم الشهيد…

 ذاكرة الثورة تجبّ ما قبلها من ذكريات؟! السوريون لا يثورون على نظام قتل وشرد ونكل بمئات الآلاف خلال سنة ونصف من عمر الثورة. هذا تحصيل حاصل. أصل الثورة ومنبعها هناك، في قلب الخالة أم عبده. بجسدها النحيل وعباءتها السوداء. بانعكاسات الضوء على وجهها الذي لفحته الشمس طيلة سنوات. في عينيها، وكانتا تزدادان تعبا في كل لقاء.
لم أحظ بفرصة النظر في عينيها منذ بدأت

الثورة. ولا بتأمل ملامحها لدى خروج رشيد وأحمد من المعتقل. وجه الأم في مثل تلك اللحظات فن خالص. وهو كطلة النرجس في دمشق، إن لم تحظ بها تبقى فصولا ثلاثة نادما على مافاتك.
الخالة أم عبده، كانت تقف هناك أيام الآحاد. كل يوم أحد، بلا انقطاع وطيلة سنوات. على رصيف الآلام إياه. الرصيف المقيت وسط دمشق، على يمينه وقبالته وعن يساره، البنوك والمحلات الفاخرة وسيل من السيارات يدقق أصحابها بعيونهم الفضولية بهؤلاء الدخلاء. وهؤلاء، هم الخالة أم عبده وكثيرين مثلها، اعتادوا افتراش الرصيف من التاسعة صباحا حتى انتهاء الدوام الرسمي. كان عليهم التوسل للحراس للدخول إلى مبنى “محكمة أمن الدولة” للسؤال عن أولادهم. وفي المحكمة، التفاوض مع ابو محمد وسواه على المبلغ الذي سيتقاضاه ويتقاسمه مع رئيس وأعضاء المحكمة، لتسريب موعد الجلسة!
الخالة أم عبده لم تكن تشبه أحدا. لا في حزنها ولا في غضبها. تقف في دوامها الاسبوعي، خمس، ست ، سبع ساعات متواصلة. في لهيب الصيف أو رياح الشتاء وبرده. تكون أول القادمين ولا ترحل إلا برحيل سيارة سجن صيدنايا، حتى لو لم يكن رشيد وأحمد في داخلها. في مرحلة لاحقة، أصبحت الخالة أم عبده تكاد لا تفوت محاكمة أية معتقل، أمام أي قضاء. كلهم أولادها.
أثناء أحداث صيدنايا وما تلاها، خبى الضوء في عيني الخالة أم عبدو. كسواها، لم تكن تعلم إن كان ابناها على قيد الحياة أم لا. طيلة أشهر، كانت تنتقل من مكان لمكان، من مكتب وزير إلى مكتب ضابط، من سجن إلى فرع أمن، تسأل وتستمر بالسؤال عن ابنيها.
قرابة عقد كامل كان هذا حالها. وعبارتها الشهيرة “والله هذا ظلم”، كانت تختصر الحكاية كلها. ولكثرة ما احست بمظالم الآخرين، كنت أستبعد أن أرى بريق عينيها من جديد حتى بخروج أبنائها من المعتقل. مع ذلك، تمنيت لو أتيح لي أن أضمها بين يدي وأبارك لها بخروج رشيد بعد أشهر قليلة من بدء الثورة.
لم أتمكن من ذلك، ولن أتمكن الآن وقد أصبحت أم الشهيد بفارق شهور قليلة عما كانته: أم المعتقل. عاشت لحظات استشهاد ابنها عشرات المرات حين كان معتقلا، حين جهلت مصيره، ولدى كل إشاعة ولدى كل تسريبة. هذه المرة فقط الخبر حقيقة.
رشيد شهيدا والخالة ام عبده هي أم الشهيد.
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق