عمر كوش : لا حياة لمشاريع الانفصال الجهادية والكردية
” تشكل المواطنة الديمقراطية المؤسسية بمعناها العميق الذي يشمل الحقوق الثقافية الجماعية، الطريق الأمثل لحل ما يدعى بالمسألة الكردية السورية “
“يكشف واقع الحال استحالة قيام كيان كردي انفصالي في سوريا، بالنظر إلى جملة من العوامل الموضوعية والسياسية والديمغرافية ”
” استغلت بعض الحركات الجهادية فراغ القوة الحاصل بعد انحسار سلطة النظام الفاقد الشرعية، كي تحتل الفضاء العام وتصادر الحرية التي خرج من أجلها الثوار السوريون ”
” قوى الثورة ستظل تصارع من أجل تحقيق آمال الشعب السوري في نيل الحرية والتحرر، والوصول إلى دولة مدنية تعددية، تنهض على مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان ”
دفعت المتغيرات التي طالت مسار الثورة السورية إلى الواجهة، جملة من الإشكاليات والمخاوف على تركيبة ووحدة سوريا، سببتها محاولات بعض الفصائل المسلحة، الإسلامية الجهادية، والحزبية الكردية، تنفيذ أجنداتها الخاصة، وذلك بعد أن استغلت فراغ القوة الحاصل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الأسدي، وراحت تقيم سلطة الأمر الواقع على بعض تلك المناطق، خاصة في شمال سوريا وشرقها، بالرغم من إرادة معظم سكانها الرافضة لتوجهاتها وممارساتها.
ممارسات ومخاوف
أثار تحكم تنظيمي “دولة العراق وبلاد الشام” و”جبهة النصرة” بإدارة بعض المناطق، وحديث قادتهما عن إقامة دويلات وإمارات “إسلامية” حفيظة غالبية سكان تلك المناطق الذين رفضوا مثل هذه الخطوات البعيدة عن طموحات ومطالب الشعب السوري الذي خرج في ثورة شعبية على الاستبداد وطلباً للحرية.
كما أثارت ممارسات “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، في بعض مناطق الجزيرة السورية وعفرين المخاوف من تنفيذ دعوات انفصالية، وزاد من وجاهة تلك المخاوف إعلان بعض المصادر الحزبية الكردية عن استعداد “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي إقامة إدارة “ذاتية” “مؤقتة”، أو “منطقة حكم ذاتي”.
وقد أثار الأمر معارضات وتحفظات عديدة، وشكوكا حول توقيت الإعلان، واعتبار الإدارة المؤقتة مقدمة لخطوة انفصالية، كونها ترافقت مع طرح مسودة دستور لما يسمى مناطق “غرب كردستان”، فضلاً عن نشر بعض المواقع الإلكترونية المقربة من بعض الأحزاب القومية الكردية وثيقة تتضمن خطة لتشكيل حكومة لإدارة ذاتية “ديمقراطية” في المناطق “الكردية”، تضم واحدا وعشرين وزيـرا من أعضاء “الهيئة الكردية العليا”، وتحدد مدينة القامشلي عاصمة لهذه الإدارة.
إدارة ذاتية أم انفصالية؟
لا شك أن المخاوف مشروعة من دعوات الانفصال الإثنية أو الدينية، خاصة حين يجري الحديث عن مناطق سورية بعينها، بوصفها منطقة “إدارة ذاتية”، يخطط لها أن تخضع لسلطة سياسية، ولها مقومات الدولة من حكومة وبرلمان وجيش وشرطة، ويوضع دستور خاص بها، سيعرض على الاستفتاء في تلك المناطق، فضلاً عن وجود علم خاص يرفع على الدوام محل علم الثورة السورية.
ولعل تصدي “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي يعتبر النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني لموضوع الإدارة الذاتية يجعله موضع تساؤل، يمتد إلى تناول علاقته بالمواطنين الأكراد، وبالأحزاب الكردية.
ولا يقف الأمر عند التباس الخطوات الانفرادية التي قام بها منذ قيام الثورة السورية، حيث تثار بين حين وآخر شكوك حول وجود علاقة بينه وبين النظام الأسدي، منذ أن سحب النظام في يوليو/تموز من العام الماضي قواته وأجهزته من المناطق ذات الغالبية الكردية، وتركها في عهدة مسلحي هذا الحزب الذين سبق وتمركزوا في تلك المناطق، منذ ربيع العام 2011، بتشجيع من النظام، وهناك من يرجع علاقته بالنظام الأسدي إلى ما قبل انطلاق الثورة السورية، ويسوق حججاً على تجذرها.
ومنذ بدء الثورة السورية، اتخذ حزب الاتحاد الديمقراطي موقفا غير مساند لها، بالرغم من تصريحات رئيس الحزب صالح مسلم محمد التي تقول عكس ذلك، حيث لم ينخرط أتباعه ولا قياداته فيها، بل ساهم بعضهم في قمع الناشطين الأكراد في أكثر من منطقة، وذهب بعيدا عندما راح يشكك في الثورة وأهدافها، وتذرع بإبعاد المناطق الكردية عن الصراع، وجعلها مناطق آمنة، ووجهت إليه اتهامات باغتيال بعض القيادات الكردية التي ساهمت في الثورة السورية.
وقد توسع الحضور العسكري للحزب بصورة متدرجة ومدروسة في المناطق الكردية، منذ قيام الثورة، وتمدد وجود مقاتليه وعناصره حتى وصل أحياء في مدينة حلب نفسها، بعدما سيطر الجيش الحر على أحياء أخرى في المدينة، ولعب بعض مقاتليه دورا في قمع مظاهرات الشباب الأكراد ضد نظام الأسد.
وأنشأ الحزب ما سمى “مجلس شعب غربي كردستان”، وشكل قوات عسكرية دعاها “قوات حماية شعبية”، وشكل أيضا شرطة معروفة باسم “أساييش”، لعبت دوراً كبيراً في ملاحقة الناشطين الأكراد المختلفين مع ما يطرحه الحزب وتوجهاته.
واليوم يتحدث قادة حزب الاتحاد الديمقراطي عن نيتهم إقامة منطقة حكم ذاتي، أو ما يسمونه “إدارة مدنية مؤقتة” في مناطق الجزيرة السورية، وسيضعون لها دستورا ويختارون لها قوة عسكرية وهلم جرا.
ولأجل هذا الأمر خاض الحزب صراعات نفوذ في المناطق الكردية ضد الناشطين الأكراد، بغية إسكات أصوات المعارضين لتوجهه، وضد الأحزاب الكردية من جهة، وضد بعض فصائل الجيش الحر، وضد مجموعات مسلحة من القبائل العربية.
وبالإضافة إلى ذلك يخوض منذ فترة معارك ضد مجموعات جهادية، مثل جبهة النصرة ودولة العراق وبلاد الشام، وقد سيطرت قواته العسكرية مؤخرا على الوضع في منطقة “رأس العين”، وعلى معبرها الحدودي مع تركيا.
ويكشف واقع الحال استحالة قيام كيان كردي انفصالي في سوريا، بالنظر إلى جملة من العوامل الموضوعية والسياسية والديمغرافية.
فمحافظة الحسكة تبلغ مساحتها 23332 كم، وتشكل 12,58% من المساحة الكلية لسوريا. وحسب السجلات المدنية الحكومية في عام 2009، فإن مجموع عدد سكانها يبلغ حوالي المليون ونصف المليون نسمة أكثر من نصفهم عرب، فيما نسبة الأكراد بينهم لا تتعدى الـ25%، أما المسيحيون فيمثلون نسبة 17,64% من مجموع سكانها حسب تلك السجلات.
وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار أن النظام الأسدي كان يرفض منح الجنسية السورية لأكثر من مائتي ألف كردي في سوريا، فإن منح حقهم في الجنسية السورية لا يغير كثيراً من الواقع الديمغرافي للمحافظة، حيث الاختلاط والتمازج كبير بين العرب والكرد والسريان والآشوريين وغيرهم.
وليست هناك أي بلدة أو ناحية من النواحي الإحدى عشرة في المحافظة، باستثناء منطقة “الشدادي”، مكونة من مجموعة سكانية ذات طابع واحد، وهذا ما ينفي المزاعم التي تدعي بوجود منطقة أو إقليم ذي طبيعة سكانية خاصة.
وإن كان ثمة من يتحدث عن حل “المسألة الكردية” في سوريا، فإن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في إطار حل وطني سوري محض، لأن المسألة الكردية السورية هي مسألة وطنية سورية للسوريين عموما، وللسوريين الأكراد خصوصًا.
وتشكل المواطنة الديمقراطية المؤسسية بمعناها العميق الذي يشمل الحقوق الثقافية الجماعية، الطريق الأمثل لحل ما يدعى بالمسألة الكردية السورية.
وهناك من يرى أن الخطوة التي ينوي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الإقدام عليها، تصب في مصلحة النظام السوري بالكامل، ذلك أن إدارة مستقلة ذاتيا غير قابلة للحياة عمليا على أي بقعة من الأرض السورية، وبالتالي لا معنى للإعلان عنها سوى توفير ذريعة جديدة للنظام، تقوم على لعبة الابتزاز بتقسيم سوريا.
المشروع المنفصل
استغلت الحركات الإسلامية الجهادية مثل “دولة العراق وبلاد الشام” و”جبهة النصرة” فراغ القوة الحاصل بعد انحسار سلطة النظام الفاقد الشرعية، كي تحتل الفضاء العام وتصادر الحرية التي خرج من أجلها الثوار السوريون.
وقد تحولت هذه المجموعات المسلحة إلى سلطة استبداد جديدة، حاولت احتلال الحيز العام الذي كانت تحتله سلطة الاستبداد الأسدي، وراحت تقوم بأفعال وممارسات لا تليق بثورة السوريين، حتى باتت تعيث فساداً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وذلك بدلاً من أن تنخرط في حركة المقاومة الشعبية وتكون عوناً لها.
وفيما يستمر المدنيون السوريون في فعل مقاومتهم، تبدو الفصائل الجهادية بعيدة كل البعد عن فعل المقاومة بمختلف مظاهرها، ولعل العسكرة المنفلتة من رباطها وعقالها أنتجت مظاهر و”هيئات شرعية” و”إمارات”، تصطدم بأهداف الثورة السورية ومطالب ناسها.
فالناس في الثورة أحسوا بأنهم أحياء، حين قرروا الخروج من بيوتهم والنزول إلى الساحات والشوارع للاحتجاج على الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة عقود، وخرجوا طلباً للحرية واسترجاع الكرامة، ولوضع حد لليأس والذل والخنوع، وتحملوا لأجل ذلك كل أنواع الرصاص والقذائف والقنابل التي ما زالت تنهمر عليهم، وتخطف أرواحهم.
ولن يقبل السوريون بحكم “الهيئات الشرعية” أو غيرها من تلك الهيئات التي منحت نفسها شرعية مفقودة، ومشكوكا بها ومطعونا فيها، كونها فرضت بالقوة العارية، وجاءت من طرف أمراء العسكرة والتشدد وتوابعهما.
وهي تنتمي إلى مجموعات ليست مفجرة للثورة، ولا قادتها في أي يوم من الأيام، بل استغلت ظروف الثورة، كي تنفذ مشروعاً منفصلاً عن واقع السوريين وأسلوب عيشهم، وأجندته مفارقة لأهداف الثورة، وكونه يسعى إلى مصادرة الحرية التي خرج من أجلها الثوار السوريون، وقدموا من أجلها التضحيات الجسام.
وإذا كانت الحركات الجهادية المنتشرة في شمال سوريا وشرقها، قد دفعت الصراع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام باتجاه التصادم مع الجيش السوري الحر، فإنها تنزع باتجاه ابتلاع الثورة وتقويضها، تحت مسميات ورايات لا تخدم الثورة السورية، وذهبت بعيدا حين لجأت إلى اغتيال قادة من الجيش السوري الحر.
وحتى في صدامها العسكري مع مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، فإن طرفي هذا الصدام يدفعان في الاتجاه الخاطئ، لأن الوجهة هي إسقاط النظام وليس خدمة المشاريع والأجندات الخاصة.
وبالرغم من كل ذلك فإن قوى الثورة ستظل تصارع من أجل تحقيق آمال الشعب السوري في نيل الحرية والتحرر، والوصول إلى دولة مدنية تعددية، تنهض على مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، لذلك فإن المطلوب من الأحزاب الكردية والفصائل الإسلامية وغيرها الانخراط في فعل المقاومة الشعبية، التي تنهض لإخضاع السلاح لحسابات سياسية ومصالح وطنية عليا، وتحقق انتماء سياسياً وعسكرياً للوطن وناسه.
وإن كان ثمة فعل ضروري ومطلوب من كل المجاميع المسلحة، فهو الانخراط في صف الثورة، والمشاركة في المقاومة بشكل موحد ومنظم، بغية الوصول إلى سوريا الجديدة، والعمل على الحفاظ على صورة سوريا التاريخية، باختلافاتها وتنوعاتها ومدنيتها، ذلك أن التاريخ -اليوم- يسطره الفاعلون في حدث الثورة، ولن يتوقف إلا عند بلوغها الهدف، المتمثل في تحقيق تحول تاريخي نحو سوريا الجديدة، ولن يتحقق هذا التحول إلا عبر صراع مديد، وبالتالي فإن أعداء الثورة يلتقون اليوم -دون أن يعلموا- مع أنصارها في تحقيق هدفها المنشود.
المصدر:الجزيرة