زملاء

يوسف بزي : بانتظار أغنية رحبانية عن 7 أيار بيروت وعن غوطة دمشق أيضاً

1-44910_437829328020_7190489_nإذا تجولت في الصباح الباكر ببيروت، في أي يوم، بين الأحياء السكنية الهادئة والقديمة والحميمة، ستسمع صوت فيروز طالعاً من هذه الشرفة، أو تلك النافذة. وسيضفي هذا الصوت على طبيعة تلك الأمكنة، وعلى المزاج الصباحي ذاته، حميمية عاطفية إضافية، هي غالباً ما طغت على ذاكرتنا الجمعية ومشاعرنا، إلى حد تداخل هذه العاطفة في تعريفنا للبنانيتنا. يتبدى ذلك خصوصأ في أن معظم المغتربين اللبنانيين يجسدون حنينهم الأزلي لوطنهم الأول بأغنيات فيروز، قبل أي شيء آخر.


هي ابتداء النهار الرائق، وهي اتصال بالزمن المتخيل المسحور، الذي يزداد بعداً. هي إيقاع الحنين والصوت الذي يستدعي الهناءة والدعة وأصداء الريف، المغلّف بسعادة الخفر والجمال الطبيعي والإستئناس والطمأنينة. هي أيضاً ذاك المزيج بين الثلج والشمس، بين الجبل والبحر والوديان والأحراش والقرى الناعسة والمنسية، أو هي ذاك التزاوج ما بين الشجر والحجر والماء وحكايات الناس المفطورين على الكفاية والمحبة والخير.
لكنها أيضاً، كانت دوماً صوت ذاك “العنفوان” التاريخي، الذي طبع اللائذين بجبل لبنان على امتداد القرون. صوت يحفظ في أعماقه ذاكرة سريانية وبيزنطية ومتوسطية ومشرقية عربية، حيث ينبثق من الترتيل العتيق والموشح والموال ذاك الصوت الذي لا تسعه لغة واحدة، ولا معنى واحد.
يمكن القول أيضاً أن إرث فيروز، مع الأخوين الرحباني، مثَّل على الدوام ما يمكن تسميته بـ”الأيديولوجيا اللبنانية”، وكان الترجمة الفنية الأصدق والأشد تعبيراً عن مشروع الكيان اللبناني ومسوغاته، وصنع ما يميزه عن محيطه، في الثقافة وفي المعتقد. هذا الأرث الذي ألّف وجداناً وطنياً يوازي في أثره وفاعليته السيرة التاريخية للبنان، كان أيضاً يصنع صورة عن هذا الـ”لبنان” في مخيلة العرب، بوصفه فردوسهم المشتهى، ويخاطب فيهم ذاك التوق إلى الحرية والهناءة واللطافة والجمال والحب.
وإذا كان اللبنانيون يستمعون إلى فيروز ويعتبرونها سفيرتهم إلى النجوم، فإن دمشق برمتها لا تستيقظ إلا على صوتها. الشعب السوري هو الأشد تعلقاً وشغفاً بها. أي حفل كان يقام لها في دمشق أو بصرى الشام هو حدث “قومي” بالنسبة للسوريين. يجدون في أغنياتها ليس ما يتذكرونه وما يتخيلونه، كما يفعل اللبنانيون، بل ما يفتقدونه وما يتطلعون إليه وما يصبون نحوه. أغنياتها هي “الأرض الموعودة”، هي الحلم البديل عن واقع الألم والمشقة والجفاف والخوف.
طلعت الأغنية الرحبانية وموسيقاها ولغتها من الوعي الذي شكلته تجربة جبل لبنان، خصوصاً منذ منتصف القرن التاسع عشر، بعد الحرب الأهلية الأولى وعامية أنطلياس (1840) وما تلاها، مروراً بالمجاعة (1916) ومآسي “سفربرلك”، وصولاً إلى نشوء “لبنان الكبير” (1920) وما عناه ذلك من استحضار لأيديولوجيا قومية تبتدئ بالأصل الفينيقي وتتصل بالحضارة السريانية المسيحية وتتواصل مع ثقافة متوسطية، متطلعة إلى الغرب والحداثة وقيمهما، ولا تنفصل عن ذاكرة عربية مشرقية هي بسعة الكرسي الأنطاكي وبلاد الشام وأركيولوجيتها الهيلّينية والرومانية والبيزنطية… متبرمة ضمناً من التصحر وأزمان التزمت الديني الفظ والعنيف، الذي غالباً ما قمع وكبت كل ذاك المخزون الحضاري وهدد بمحوه.
لاقت تلك التجربة الغنية “الأيديولوجيا اللبنانية” تماماً كما صاغها بالتراكم رواد النهضة، وصقلها فلسفة وسياسة ودستوراً ميشال شيحا. فكان هذا التلازم الدائم بين تاريخ لبنان الحديث وتحولاته من جهة وتاريخ التجربة الرحبانية وتحولاتها.
كان عقل عاصي الرحباني مدركاً للتوازن الهش الذي يمسك بالتركيبة اللبنانية ويهددها في آن. هو التوازن الصعب لكنه في نهاية المطاف الإشكالية المحفزة لنصه الفني ونعمة القلق التي توقد الإبداع، وعندما رأى كيف أن السلاح الفلسطيني قد دخل بعنف وقوة إلى تلك التركيبة فهشمها وحطمها وأدخل لبنان في أتون الحرب..فأصيب عاصي الرحباني بجلطة دماغية. لقد تعطلت “الصيغة”.
منذ ذاك الوقت، دخل لبنان في مسار الإنحطاط والخراب، وبات وطن الإستعصاء، الوطن المؤجل، أرضاً سائبة لسلالة “السلاح”. أتت أسلحة كثيرة واحتلالات ووصايات وأيديولوجيات قاتلة، وحل الخراب في الأرض والنفوس والذاكرة. وباتت أغنية فيروز لا عن بلد نعيشه، بل عن بلد مستحيل، بلد أصعب من معجزة.
قبل أسابيع قليلة كتب محمد أبي سمرا مقالة مطولة بعنوان “لبنان من ميشال شيحا إلى حسن نصرالله”، ملاحقاً ذاك الإختلاف الذي يقاس بالسنوات الضوئية بين هذين اللبنانَين، وناعياً لبنان الحلم، الذي افترسه وحش السلاح والعصابية والهذيان المذهبي وتسلط القوة وحقد النظام السوري.
الرحبانية نفسها المترحلة من لبنان الأول إلى لبنان الثاني، افترسها الولد “الموهوب” زياد الرحباني الشغوف بستالين وأشباهه، الذي لبس على المسرح البدلة النازية في مطلع التسعينات، مروجاً لفكرة تسليم الشعب والوطن لضابط “عصامي” من طراز رجل المخابرات القوي جميل السيد.. فأنتج الفيروزية الرحبانية الجديدة التي ستعلن عن “حبها” لسيد السلاح حسن نصرالله، وتأييدها لبشار الأسد في حرب الإبادة، التي يشنها على شعبه، بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية.
في هذه الحال، علينا أن ننتظر أغنيات رحبانية تمجد إغتيالات 2005 المستمرة، أغنيات تمجد 7 أيار 2008، القمصان السود، مجازر الغوطة، البراميل المتفجرة، ضباط الفرقة الرابعة…
بئس لبنان حسن نصرالله، الذي يمجد “فاتك المتسلط” ويغتال “مدلج” عند كل صباح.

 “نوافذ”
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق